مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةشذور

درر قرآنية (2): خصال عشر في أعمال الباطن في تلاوة الكتاب: -1- فَهْمُ عَظَمَةِ الْكَلَامِ وَعُلُوِّهِ

فَهْمُ عَظَمَةِ الْكَلَامِ وَعُلُوِّهِ-1-

ليس يخفى على أحد ما نالته تلاوة الكتاب في نصوص الشريعة الغراء من سبوغ الاحتفاء ووفر الاهتبال، وما حظي به تلاة هذا الكتاب ـ بسببها ـ من فضل ورفعة، وليس ذاك إلا لأنها السبيل المتعين لاتصال العبد بربه، وفقه ما يلقيه إليه من معاقد شرعته. ولما كانت أعمال الشريعة ـ والتلاوة منها ـ بمقاصدها، فقد أحيطت بجملة شرائط وآداب، حفلت بها ـ على الخصوص ـ  كتب فضائل القرءان، وهي آداب تتظاهر في تأدية “التلاوة” رسالتها المنيفة. وإنما أعرض ههنا لعزائم ـ هي مرءاة تلك الشرائط ومعيار تحققهاـ  تلح في استحضار روحانية القرءان، لتجعل منأحرف الكتاب حقائق نورانية مقدسة، تحتشد فيها آلة الإدراك  ـ لسانا وعقلا وقلبا ـ في تساند متناسق،  على هدي خلائق من لهج التلو و الذكر، وفقاهة الفسر والتدبر، وغائرالتفكر والتأثر، مما يورث مرجو التلاوة : خشيةَ الله العظيم.

 والنص المختار هو للإمام البحر حجة الإسلام أبي حامد الغزالي( 505هـ) في إحيائه؛ فهو وحيد دهره، و أملك من غيره في إحياء أعظم المباني ، واستدعاء أرواح المعاني؛  وقد كسر كتاب التلاوة على أربعة أبوبة، أفرد  الثاني منها لمبان عشر تستحث بطائن التلاوة وما ينبغي للتالي حيالها من مقتضى التعامل و التفاعل. وهي:

1 ـ فهم أصل الكلام 2 ـ  التعظيم 3 ـ حضور القلب  4 ـ التدبر 5 ـ التفهم

6ـ التخلي عن موانع الفهم  7 ـ  التخصيص  8 ـ  التأثر 9 ـ الترقي10 ـ التبري.

ونفسح في هذه الحلقة  للمطلب الأول، وهو: فهم أصل الكلام. قال رحمه الله:
“فالأول: فَهْمُ عَظَمَةِ الْكَلَامِ وَعُلُوِّهِ، وَفَضْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وتعالى ولطفه بخلقه في نزوله عن عرش جلاله إلى درجة أفهام خلقه. فلينظر كيف لطف بخلقه في إيصال معاني كلامه الذي هو صفة قديمة قائمة بذاته إلى أفهام خلقه، وكيف تجلت لهم تلك الصفة في طي حروف وأصوات هي صفات البشر؛ إذ يعجز البشر عن الوصول إلى فهم صفات الله عز وجل إلا بوسيلة صفات نفسه.ولولا استتار كنه جلالة كلامه بكسوة الحروف،لما ثبت لسماع الكلام عرش ولا ثرى،  ولتلاشي ما بينهما من عظمة سلطانه وسبحات نوره، ولولا تثبيت الله عز وجل لموسى عليه السلام لما أطاق لسماع كلامه، كما لم يطق الجبل مبادي تجليه حيث صار دكاً، ولا يمكن تفهيم عظمة الكلام إلا بأمثلة على حد فهم الخلق[ …] ولقد تأنق بعض الحكماء في التعبير عن وجه اللطف في إيصال معاني الكلام مع علو درجته إلى فهم الإنسان، وتثبيته مع قصور رتبته، وضرب له مثلاً لم يقصر فيه؛ وذلك أنه دعابعضَ الملوك حكيم إلى شريعة الأنبياء عليهم السلام، فسأله الملك عن أمور فأجاب بما لا يحتمله فهمه، فقال الملك: أرأيت ما تأتي به الأنبياء إذا ادعت أنه ليس بكلام الناس، وأنه كلام الله عز وجل فكيف يطيق الناس حمله؟ فقال الحكيم: إنا رأينا الناس لما أرادوا أن يُفهموا بعض الدواب والطير ما يريدون من تقديمها وتأخيرها وإقبالها وإدبارها ، ورأوا الدواب يقصر تمييزها عن فهم كلامهم الصادر عن أنوار عقولهم، مع حسنه وتزيينه وبديع نظمه، فنزلوا إلى درجة تمييز البهائم، وأوصلوا مقاصدهم إلى بواطن البهائم، بأصوات يضعونها لائقة بهم، من النقر والصفير والأصوات القريبة من أصواتها؛ لكي يطيقوا حملها. وكذلك الناس يعجزون عن حمل كلام الله عز وجل بكنهه وكمال صفاته، فصاروا بما تراجعوا بينهم من الأصوات التي سمعوا بها الحكمة، كصوت النقر والصفير الذي سمعت بالدواب من الناس.ولم يمنع ذلك معاني الحكمة المخبوءة في تلك الصفات من أن شرف الكلام، أي الأصوات لشرفها وعظم لتعظيمها، فكان الصوت للحكمة جسداً ومسكناً، والحكمة للصوت نفساً وروحاً؛فكما أن أجساد البشر تكرم وتعز لمكان الروح، فكذلك أصوات الكلام تشرف للحكمة التي فيها،
والكلام على المنزلة رفيع الدرجة، قاهر السلطان، نافذ الحكم في الحق والباطل، وهو القاضي العدل، والشاهد المرتضى، يأمر وينهى، ولا طاقة للباطل أن يقوم قدام كلام الحكمة، كما لا يستطيع الظل أن يقول قدام شعاع الشمس، ولا طاقة للبشر أن ينفذوا غور الحكمة، كما لا طاقة لهم أن ينفذوا بأبصارهم ضوء عين الشمس، ولكنهم ينالون من ضوء عين الشمس ما تحيابه أبصارهم، ويستدلون به على حوائجهم فقط.

فالكلام كالملك المحجوب، الغائب وجهه، النافذ أمره، وكالشمس العزيزة الظاهرة مكنون عنصرها، وكالنجوم الزاهرة التي قد يهتديبها من لا يقف على سيرها، فهو مفتاح الخزائن النفيسة، وشراب الحياة الذي من شرب منه لم يمت، ودواء الأسقام الذي من سقي منه لم يسقم.

 فهذا الذي ذكره الحكيم نبذة من تفهيم معنى الكلام، والزيادة عليه لا تليق بعلم المعاملة فينبغي أن يقتصر عليه”.

إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي : مجلد 1 الجزء:3 ص: 119_121

دار الفكر، مصورة عن ط. لجنة نشر الثقافة الإسلامية 1356ه.

Science

د.توفيق العبقري

  • مشرف على البحث العلمي بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق