الرابطة المحمدية للعلماء

خطاب ملكي سام بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الثانية

أبرز صاحب الجلالة الملك محمد السادس٬ نصره الله٬ الجمعة الأخيرة، بالرباط٬ الأهمية البالغة التي أصبح البرلمان يكتسيها في البناء الدستوري للمملكة٬ وما تقتضيه الممارسة البرلمانية الجديدة من تحول يجب أن يواكب الإصلاح الدستوري٬ ويتوخى كسب الرهانات الكبرى التي تنتظر الولاية التشريعية الحالية.

وقال جلالة الملك، في خطاب سام ألقاه جلالته أمام أعضاء مجلسي البرلمان، خلال ترؤسه افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الثانية من الولاية التشريعية التاسعة٬ إن كافة المغاربة استجابوا لمبادرة جلالته في الاستفتاء على الدستور الجديد٬ الذي جرت صياغته وفق مقاربة شاملة وتشاركية٬ “فأقبلوا بكثافة على التصويت عليه٬ في اعتزاز بما قطعوه من مراحل نحو المزيد من التقدم واستكمال بناء دولة المؤسسات٬ وفي ما يلي نص

الخطاب الملكي السامي:

“الحمد لله٬ والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه.

حضرات السيدات والسادة أعضاء البرلمان٬

نتوجه إليكم٬ في افتتاح هذه الدورة البرلمانية٬ وذلك لأول مرة بعد الانتخابات التشريعية التي جرت في شهر نونبر من السنة الماضية.

ونود في البداية أن نعرب للسيدات والسادة الأعضاء المنتخبين٬ عن خالص تهانينا٬ على الثقة التي وضعها فيهم الناخبون، كما نستحضر معكم بهذه المناسبة الأهمية البالغة التي أصبح البرلمان يكتسيها في البناء الدستوري للمملكة٬ وما تقتضيه الممارسة البرلمانية الجديدة من تحول يجب أن يواكب الإصلاح الدستوري٬ ويتوخى كسب الرهانات الكبرى التي تنتظر الولاية التشريعية الحالية.

لقد استجاب كافة المغاربة لمبادرتنا في الاستفتاء على الدستور الجديد٬ الذي جرت صياغته وفق مقاربة شاملة وتشاركية، فأقبلوا بكثافة على التصويت عليه٬ في اعتزاز بما قطعوه من مراحل نحو المزيد من التقدم واستكمال بناء دولة المؤسسات٬ واثقين في مستقبلهم، وبذلك كرسنا التجديد المؤسسي الهام الذي عرفت فيه كافة المؤسسات الدستورية تحولات كبرى٬ بما في ذلك المؤسسة البرلمانية.

وقد ارتبط تجديد البرلمان بالتطور السياسي والاجتماعي والثقافي الذي عرفه المغرب٬ وهو ما مكن المجتمع المغربي، بما هو معهود فيه من رصانة وثقة في الذات٬ من إعطاء دفعة جديدة لمسلسل التحديث، الذي تعرفه بلادنا٬ مع تحسين تمثيلية النساء والشباب، وهو أمر أثلج صدرنا٬ بيد أننا تواقون إلى تمثيلية أوسع.

لقد تحقق هذا التجديد على وجه الخصوص بإصلاح دستوري إرادي٬ تم إنضاجه عبر مسار طويل، كما تعزز بتأسيس برلمان جديد٬ إن في مستوى مكانته أو في نظامه أو في سلطاته، وعلاوة على المنزلة الرفيعة التي يحظى بها في الصرح المؤسسي الدستوري٬ فإنه أضحى مصدرا وحيدا للتشريع٬ الذي اتسع مجاله، فضلا عما أصبح له من اختصاص في إقرار عدد كبير من القوانين التنظيمية٬ الهادفة إلى تفعيل مقتضيات الدستور الجديد٬ خصوصا ما يتعلق بمواده الأكثر حساسية واستراتيجية، حتى إنه في بعض الحالات٬ وبمبادرة ملكية من جلالتنا٬ فإن البرلمان يكون مؤهلا للقيام بمراجعة دستورية٬ دون المرور عبر الاستفتاء.

وفي نفس السياق٬ تم تعزيز دور المعارضة البرلمانية كسلطة نافذة٬ مع تخويلها وسائل عمل جديدة٬ تمكنها من مشاركة أقوى وأكثر مسؤولية في العمل البرلماني.

وتعميقا لدور البرلمان في مجال مراقبة الحكومة، فقد تم تدعيمه دستوريا٬ ليتولى مهمة تقويم السياسات العمومية، وهو ما يفتح آفاقا واعدة أمام إمكانية إدخال التعديلات الملائمة والضرورية على البرامج في الوقت المناسب٬ وذلك من أجل ضمان حسن سيرها وإنجاحها.

حضرات السيدات والسادة٬ لا يخفى عليكم ما يقتضيه هذا التقدم الديمقراطي الوازن من متطلبات جديدة، كما أن ترجمته على أرض الواقع وتحقيق الجدوى منه٬ لن يتسنى بدون المزيد من البذل والعطاء والتحلي بقدر عال من الوعي والتعبئة وإنكار الذات، وهو ما يقتضي القطيعة مع الممارسات المتجاوزة، والتطوير الجذري للممارسة البرلمانية.

ومن المعلوم أن الإقدام على مساءلة الذات٬ في سياق هذا التطور المؤسسي٬ لن يتم إلا من لدن البرلمانيين أنفسهم.

لذا نهيب بكم٬ بصفتنا الحكم الأسمى الساهر على المصالح العليا للبلاد٬ أن تتحلوا – معشر البرلمانيين- بما يلزم من الحزم والشجاعة٬ في انتهاج هذه الممارسة المنشودة٬ التي ستضفي قيمة جديدة على عملكم النبيل٬ في تجاوب مع انتظارات الأمة ومتطلبات الدستور الجديد.

وفي هذا الصدد٬ ندعو البرلمان إلى الانكباب على بلورة مدونة أخلاقية ذات بعد قانوني٬ تقوم على ترسيخ قيم الوطنية وإيثار الصالح العام٬ والمسؤولية والنزاهة٬ والالتزام بالمشاركة الكاملة والفعلية٬ في جميع أشغال البرلمان٬ واحترام الوضع القانوني للمعارضة البرلمانية ولحقوقها الدستورية، على أن يكون هدفكم الأسمى جعل البرلمان فضاء للحوار البناء٬ ومدرسة للنخب السياسية بامتياز، فضاء أكثر مصداقية وجاذبية٬ من شأنه أن يحقق المصالحة مع كل من أصيب بخيبة الأمل في العمل السياسي وجدواه في تدبير الشأن العام.

وفي هذا السياق٬ نود التذكير بكون أعضاء البرلمان يستمدون ولايتهم من الأمة. وأنهم٬ بغض النظر عن انتمائهم السياسي والترابي٬ مدعوون للارتقاء إلى مستوى الصالح العام وتغليب المصالح العليا للأمة.

كما ندعوكم إلى ترسيخ التعاون الضروري بين مجلسي البرلمان٬ عبر نظام محكم مضبوط٬ وأن تجعلوا من ترشيد علاقات الحوار الدائم والتعاون الوثيق والمتوازن بين الحكومة والبرلمان٬ إطارا راسخا٬ قوامه الاحترام التام لخصوصية كل منهما ومجال اختصاصه .

ونود في نفس السياق٬ أن نذكر بكون البرلمان أصبح يتوفر على كافة الوسائل من أجل قيام أعضائه بإعطاء دفعة جديدة لعمله الديبلوماسي والتعاون الدولي٬ من خلال إغناء علاقات الشراكة التي تربطه بالبرلمانات الأخرى٬ معززا بذلك حضور بلدنا في المحافل الدولية٬ لخدمة مصالحه العليا، وفي طليعتها قضية وحدتنا الترابية .

وبذلك يقع على عاتقكم – حضرات أعضاء البرلمان – شرف تدشين منعطف تاريخي جديد، ولنا اليقين بأنكم تستشعرون هذه الأمانة الملقاة على عاتقكم وأنتم تتحملون مسؤولية ولاية تشريعية مؤسسة ورائدة، وبإمكانكم أن تجعلوا منها أكثر الولايات التشريعية إبداعا وعطاء .

أجل، فأنتم تحظون بعضوية برلمان في ولاية تشريعية مسؤولة عن بلورة قوانين تنظيمية جديدة وأخرى عادية٬ ينتظر منها استكمال مقتضيات الدستور الجديد٬ على الوجه الأمثل٬ في القطاعات المنصوص عليها، وفي إطار هذا المجال الواسع٬ نود التركيز على بعض الأولويات .

ففي ما يتعلق بإصلاح التنظيم الترابي٬ والذي يعد من أهم المجالات المهيكلة٬ فإنه يتعين توفير الشروط القانونية والتنظيمية لإقامة مجلس المستشارين في صيغته الدستورية الجديدة٬ وذلك بهدف تمكين بلادنا من الجهوية المتقدمة٬ التي نتطلع إليها.

وفي هذا الصدد٬ نهيب بكم إلى احترام روح ومنطوق مقتضيات الدستور المتعلقة بالجهات وغيرها من الجماعات الترابية٬ مع الأخذ بعين الاعتبار الاقتراحات الوجيهة للجنة الاستشارية للجهوية في هذا الشأن.

أما الإصلاح القضائي٬ فاعتبارا لبعده الاستراتيجي٬ فإنه يتعين٬ في ما يرجع إلى مهمة البرلمان٬ اعتماد القوانين التنظيمية الخاصة بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية٬ والنظام الأساسي للقضاة، وهنا نود٬ مجددا٬ أن ندعوكم إلى الالتزام الدقيق بروح ومنطوق مقتضيات الدستور المتعلقة بالسلطة القضائية٬ كما نحث الهيئة العليا للحوار حول إصلاح المنظومة القضائية٬ على أن تجعل من استقلاليته الحجر الأساس ضمن توصياتها.

وفي ما يخص هويتنا المنفتحة والمتعددة الروافد٬ فقد سبق لنا أن أرسينا دعائمها في خطابنا الملكي التاريخي بأجدير٬ ثم كرسها الدستور الجديد.

وفي هذا الصدد٬ ينبغي اعتماد القوانين التنظيمية المتعلقة بتفعيل المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية٬ وكذا تفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية٬ بعيدا عن الأحكام الجاهزة والحسابات الضيقة .

ونود بهذه المناسبة٬ أن نستحضر دور هيئات الحكامة الجيدة٬ التي بادرنا إلى إنشاء بعضها وتفعيلها منذ سنوات، والآن٬ وقد بلغت هذه المؤسسات نضجها٬ وتم الارتقاء بها إلى مستوى المؤسسات الدستورية٬ فإنه يتعين مراجعة النصوص المنظمة لها٬ ووضع الإطار القانوني للمؤسسات الجديدة٬ وجعلها جميعا في مستوى القيم والأهداف التي أنشئت من أجلها٬ وذلك طبقا لمقتضيات النصوص الدستورية.

وفي الختام٬ فإننا٬ إذ نستحضر جسامة مسؤولياتكم في تحقيق انتظارات الأمة وترسيخ ثقة المواطنين في المؤسسة البرلمانية وإعطاء المثل الأعلى في جعل الصالح العام فوق كل اعتبار٬ مساهمين بدوركم في ترسيخ النموذج المغربي المتميز في الديمقراطية والتضامن الاجتماعي٬ فإننا واثقون بأن تحقيق العظائم رهين بصدق العزائم٬ مصداقا لقوله تعالى: “إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا”. صدق الله العظيم.

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق