مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

خصائص العمل الصوفي المغربي

   إن من يتأمل في الممارسة الصوفية[2] المغربية في القرنين السادس والسابع لا يلبث أن يتبين أنها تتصف بخصائص أساسية ثلاث هي:

– البعد عن التجزيء

– البعد عن التجريد

– البعد عن التسييس.

1-  البعد عن التجزيء أو الخاصية التكاملية: 

يظهر البعد عن التجزيء في العمل الخلقي المغربي في أصناف الجمع الثلاثة التالية، وهي: “الجمع بين التخلق والتفقه” و”الجمع بين التجرد والتسبب” و”الجمع بين المجاهدة والجهاد”.

1.1- الجمع بين التخلق والتفقه، تدل على هذا الجمع الأمور الثلاثة الآتية: أحدها أن الأخلاقيين المغاربة أخذوا الفقه في معناه الأصلي الواسع، وهو موافقة أحكام الشريعة ظاهرا وباطنا، بحيث تكون الأعمال الظاهرة متوقفة في صحتها على الأعمال الباطنة توقف المشروط في صحته على الشرط.

والثاني أن أغلبهم كانوا فقهاء أو محدثين أو حملة للقرآن أو حفظة للمتون العلمية يشتغلون بالتدريس أو التحفيظ.

والثالث أنهم شاركوا الفقهاء فيما هم فيه من القيام على أداء الأعمال الظاهرة، بل نافسوهم في ذلك حتى قاموا بما وقف دونه الفقهاء؛… كما عملوا على رفع الموانع التي جعلت الفقهاء يفتون بإسقاط فريضة الحج عن المغاربة، فأمّنوا الطرقات ونظموا الرحلات وأنشأوا المحطات، موفِّرين للحُجاج السلام والزاد والراحة.[3]

2.1- الجمع بين التجرد والتسبب: اعلمْ أن التجرد عند الأخلاقيين تجردان: “تجرد عن الحظوظ أو المصالح” و”تجرد عن الأسباب أو الوسائل”، وكثيرا ما اختلط على الناظرين في التراث المغربي أمرهما، فحملوا أحدهما على الآخر؛ والصواب أن العمل الخلقي المغربي وَقَف التقدم السلوكي للتلميذ على ترك الحظوظ أو المصالح، حتى يتحقق بإفراد الله بالقصد في الأعمال، وامتاز بالتحذير من ترك الأسباب والنهي عنه؛ وقد دخل أكابر رجالهم في طلب الأسباب واتخذوا من وسائل العيش ما يدفع عنهم الحاجة إلى الخَلْق، فمارسوا التدريس والتجارة والزراعة وكرهوا “المتعطلين” من تلامذتهم، ونصحوهم باتخاذ الحِرَف وبالبعد عن السؤال وعن انتظار عول العائلين…

3.1- الجمع بين المجاهدة والجهاد: تدل على هذا الجمع الثالث المظاهر الآتية:

أولها إنشاء مراكز للمرابطة بعيدة عن العمران تسمح بالانقطاع لأعمال العبادة، ومحاذية للسواحل والتخوم تسمح بالتصدي لأعمال السطو على البلاد.

والثاني المشاركة الفعلية، إما مباشرةً بدخول غمار المعارك، طلبا لإحدى الحسنيين، وإما بصفة غير مباشرة باستنهاض الهمم واستنفار الرجال للذود عن حوزة الإسلام.

والثالث المشاركة المعنوية بقبول دعوات الولاة والأمراء لهم بمصاحبتهم عند الخروج إلى ملاقاة العدو، استدرارا للبركات وتثبيتا للقلوب واستجلابا للنصر.

وعلى الجملة، فإن العمل الخلقي المغربي ينأى عن منحى التجزيء ويتجه اتجاها تكامليا صريحا يجعل العمل الروحي جزءا من الاشتغال الفقهي والتجردَ جزءا من التسبب والجهاد جزءا من المجاهدة.

2- البعد عن التجريد أو الخاصية التداولية: 

يظهر البعد عن التجريد في العمل الخلقي المغربي في أصناف النفور الثلاثة التالية، وهي: “النفور من الفروع الفقهية” و “النفور من الجدل الكلامي” و “النفور من الحكمة العرفانية”.

1.2- النفور من الفروع الفقهية: لقد اقتضى التطور أن يخرج علم الفقه عن بساطة أصوله وقرب مأخذ مسائله إلى تعقيدات في القواعد والأحكام وإلى تفريعات في الأقضية والفتاوي، فأظهرت هذه التشعبات أقوال بعض الفقهاء بمظهر النظر المجرد، وألجأت إلى رجال التخلق الذين ظلوا يدعون إلى سلوك يتسم بالبساطة والحيوية ويراعي طاقة العامة في التعقل والتفقه، ويأخذون من الآراء ما كان تحته عمل أو ما كان داعيا إلى العمل؛ لذلك، كان يقع تقريب الأخلاقيين، فكانت دعوتهم تنتشر متى تعرض “فقهاء الفروع” للإبعاد والمضايقة[4]؛ وعلى العكس من ذلك، كان الأخلاقيون يتعرضون  للمضايقة والمراقبة كلما وقع تقريب “فقهاء الفروع” وتوسيع نفوذهم[5].

2.2النفور من الجدل الكلامي: لقد اختص الأخلاقيون المغاربة بمفهوم للتوحيد يقتضي أساسا العمل التعبدي، لا النظر التأملي على طريقة أهل الكلام، ولا يتعدون في هذا النظر القدر الذي جاء به الكتاب والسنة، وينفرون من الخوض في مسائله التفصيلية، وقد لا يتردد بعضهم في إنكار ما جاء  في كتب بعض الأخلاقيين[6] من الأقوال التي تُشعر باقتباس أساليب المتكلمين والمشاركة في قضاياهم؛ والشاهد على ذلك المناظرة التي دارت بين أبي شعيب السارية وواسنار- أحد قواد الموحدين- في مجلس عقده الأمير عبد المومن بن علي، فكان واسنار يسأل أبا شعيب عن عقيدة التوحيد، قاصدا الأوصاف التجريدية التي كان يبثُها المهدي بن تومرت في الناس، ويجيبه أبو شعيب بذكر الآيات القرآنية التي وردت فيها معاني التوحيد.

3.2النفور من الحكمة العرفانية: لقد تسربت إلى الممارسة الخلقية بمقتضى التطور والاستمداد من البيئة بعض التوجهات الفكرية والعلمية التي لا يمكن إلا أن يضيق بها أخلاقيو المغرب، إذ يعدونها بمنزلة آفات سلوكية ينبغي صون النفس عنها…

استقر عند الأخلاقيين المغاربة أن الإشراق مستمد من النظر الفلسفي الذي يأخذ بمبدأين: “مبدأ إطلاق العقل” و”مبدأ امتياز الفرد”؛ أما مبدأ إطلاق العقل، فيعارض توجههم السني، لأن العقل إذا لم يقيد مسلكَه اعتبارُ الشرع، صار عرضة للأهواء؛ وأما مبدأ امتياز الفرد، فيعارض توجههم الجماعي،لأن الفرد إذا لم يقيد أفقَه اعتبارُ الجماعة، صار ضرره يغلب على نفعه.

 وعلى الجملة، فإن العمل الخلقي المغربي ينأى عن منحى التجريد الذي وقع فيه فقهاء الفروع وأهل الكلام وأهل العرفان واتجه اتجاها تداوليا في ممارسة التعبد والعقيدة والمعرفة، اتجاها يجعلها طبيعة لا تكلُّف فيها ويسيرة لا تعقُّد فيها.

3- البعد عن التسييس أو الخاصية التأنيسية:

ويظهر البعد عن التسييس في العمل الخلقي المغربي في أصناف المدلولات الثلاثة الآتية وهي:”المدلول الروحي للجهاد”، و”المدلول الإنساني للدعوة”، و”المدلول المعنوي للنسب”.

1.3- المدلول الروحي للجهاد: تجدر الإشارة إلى أن لفظ “الجهاد” من الألفاظ التي حُرِّفت معانيها، فقد صُرف هذا اللفظ عن مقصوده بوجهين:

أحدهما أن الجهاد صار يُحمل على معنى القتال من أجل التسلط العسكري وبسط النفوذ السياسي.

والثاني أن الجهاد صار يدل على معنى القتال من أجل القهر الديني وبسط النفوذ العقدي. أما مدلول الجهاد كما أخذ به رجال الأخلاق المغاربة، فلا تعلق له أصلا بطلب الرئاسة الدنيوية، لأن هذا يناقض مقاصد التربية الروحية، كما لا تعلق له بالتشدد العقدي، لأن هذا يناقض وسائل هذه التربية، وإنما تعلقه بمجاهدة النفس وحدها ببذلها رخيصة في سبيل الدفاع عن حوزة الإسلام كما استُرخِصت في سبيل الخروج عما سوى الله؛ وعلى هذا فإن الجهاد بالمعنى المغربي ليس عملا سياسيا ولا سلوكا إيديولوجيا، وإنما عملا روحيا بالأصالة.

2.3المدلول الإنساني للدعوة: ليس من شك أن للدعوة دورا بالغ الأهمية في الممارسة الخلقية المغربية، فقد شمل مجالها البوادي والحواضر بعد أن ابتدأ  محصورا في الأصقاع البعيدة عن العمران، إلا أنها لا تشبه في شيء الدعوات التي تطلب النفوذ السياسي لطائفة معينة، أو الدعوات التي تطمع في المكاسب المادية، إلا أن تكون قد دخلت على بعضها آفة التحريف، فتبدلت أحوالها أو دخلت عليها آفة الادعاء، فانتحلها بعض الأدعياء.

والصواب أن الدعوة الأخلاقية، كما مارسها المؤسسون من أهل العمل المغاربة، لا تبتغي بالتجديد الخُلقي للإنسان بديلا؛ و لا سبيل لتجديد الإنسانية إلا إذا قام الداعية بشرط الإخلاص لله في دعوته، وقام المدعو بشرط تسليم الإرادة لله؛ وقد سُمّي هذا التجديد الإنساني باسم “الصلاح” وسُمي أصحابه باسم”الصلحاء” أو”الصالحين”، كما أُطلق عليهم اسم “الأفاضل” و اسم “أهل الفضل والدين”[7]، علما بان قِيم الإنسانية مستمدة من قيم الدين؛ وعليه، فإن دعوة أهل الصلاح ليست نزعة طائفية، ولا دعاية مادية، وإنما هي دعوة إنسانية أخلاقية.

3.3- المدلول المعنوي للنسب: من الثابت أن للنسب أهمية في التجربة الخلقية المغربية تزايدت مع مرور الزمن حتى ظُنَّ بأن الولاية الكبرى والفتوحات العظمى لا تحصل إلا لمن كان من أهل النسب الشريف؛ والغالب عند الأخلاقيين المغاربة أن يرفعوا نسب أساتذتهم إلى سيدنا الحسن بن علي، على خلاف الأخلاقيين في المشرق الذين غلب عليهم نسبة أساتذتهم إلى أخيه سيدنا الحسين بن علي[8]؛ وسواء صح هذا النسب أو لم يصح، فإن دلالته تظل بالأساس دلالة معنوية. فلما كان سيدنا الحسن قد نزل لمعاوية عن الخلافة، دل الانتساب إليه على إرادة الزهد في السلطة السياسية، وإذا حدث لأحد الأخلاقيين المغاربة أن تولى السلطة السياسية، -مضيِّقة أو موسَّعة- لِتعذر من يقوم مقامه فيها، فإن توليته لها تكون بالعرضِ وبالتبعية للسلطة الأخلاقية التي اختص بها وليس بالجوهر وبالأصالة كما هو الشأن عند المنتسبين لسيدنا الحسين.

وعلى الجملة، فإن العمل الخلقي المغربي ينأى عن منحنى  التسييس ويتجه اتجاها تأنيسيا متميزا يجعل للجهاد بعدا روحيا وللدعوة بعدا إنسانيا وللنسب بعدا معنويا.

وإذ قد عرفتَ أن العمل الخلقي المغربي يمتاز بالخصائص الثلاث: البعد عن التجزيء – أو قل طلب التكامل–، والبعد عن التجريد –أو قل طلب التداول–، والبعد عن التسييس-أو قل طلب التأنيس-، فاعرف أن السبب في ذلك هو تمكُّن المذهب المالكي من نفوس المغاربة حتى ولَّد فيهم نزوعا إلى الممارسة الروحية بحكم منطقه وملابسات نشأته، ويقوم هذا المنطق إجمالا على عنصرين هما: “العمل” و”الصحبة”، بينما تقوم ملابسات هذه النشأة على عنصرين هما: “التعظيم” و”الإحسان”.

أما العمل، فالمالكية من دون المذاهب الفقهية الأخرى أقرت عمل المدينة مصدرا من مصادر التشريع الإسلامي، وفي هذا ما ينهض دليلا على أن المالكية تبينت حقّا ما لمشاهدة السلوك الحي من أثر في تحقيق التدين الصحيح. على أن مصادر التشريع التي اعتمدتها تنقسم إلى قسمين: القسم النظري ويشمل الكتاب والسنة والقياس، والقسم العملي ويشمل الإجماع والعمل، مما يترتب عليه أن التفقه في الدين لا يتم إلا بحصول الجمع بين الممارستين: الاستدلالية والاشتغالية، وما زالت مسألة العمل في المالكية مفتقرة إلى تناولها في سياق مستجدات البحث في مجال نظرية الممارسة.

أما الصحبة[9]، فهي مبدأ لازم عن أصل العمل الذي تقول به المالكية. ذلك بأن الصحبة عبارة عن المشاهدة الحية للأسباب والقرائن التي ترافق أعمال المصحوب، أقوالا وأفعالا، والتي يحصل بها العلم بالمراد على وجه من التحقيق لا يتأتى بطريق آخر، فلا عمل حي إذن إلا بتمام الصحبة؛ لذا، فقد كان من تلامذة مالك المغاربة من يبقى على ملازمته ردحا من الزمن بعد تمام تعلُّمه وفراغ تكوينه النظري عملا بمبدإ الصحبة، حتى يرث عنه أخلاقه وأحواله.

وأما التعظيم، فإن مالك، رحمه الله، كان يظهر- قولا وفعلا- من آداب تعظيم الرسول عليه السلام وفروض محبته ما يجعل حديثه وسلوكه ينقلان إلى تلامذته وجلسائه أخبار الرسول عليه الصلاة والسلام حيةً وكأن معانيها رأي العين، فتحيا قلوبهم بأسرارها وتنقاد جوارحهم إلى العمل بها؛ وقد ورث عنه فقهاء المالكية المغاربة هذا التعظيم ونشروا آدابه نشرا بين طبقات المجتمع.

وأما الإحسان، فإن مالك صحب علماء عاملين بلغوا النهاية في صفات خلقية اختص الأخلاقيون بطلبها، وهي:”أخلاق الإحسان” أو “الفضائل الروحية”؛ فمن أساتذته هرمز الذي اشتهر بالبكاء، وابن المنكدر الذي عرف بالزهد، وجعفر الصادق الذي اشتهر بالمحبة، كما تتلمذ عليه رجال نالوا قدم السبق في الظهور بأوصاف الإحسان، ومنهم سفيان الثوري وأبو الحسن الشيباني.

وحسبنا هذه العناية بالأركان الأخلاقية:”العمل” و”الصحبة” و”التعظيم” و”الإحسان” دليلا على أن المالكية حملت بذور ممارسة روحية سرعان ما أثمرت عند المغاربة، بمجرد تشبعهم بمنطق هذا المذهب، تخلُّقا اختصوا به وصاروا فيه قدوة لغيرهم؛ ولا عجب إذ ذاك أن يتكاثر بين فقهاء المالكية أهل العبادة وأهل الزهادة وأهل الورع وأهل التقوى حتى إن “لفظ الصوفي”[10] أُطلِق عليهم إطلاقه على أهله المختصين به لاعتبار أساسي وهو كونهم يقصدون بفقههم وجه الله تعالى، وحتى إن ذكر الفقهاء في كتب التراجم والطبقات، صار لا ينفصل عن ذكر المتعبدين والزاهدين.[11]   

 

الهوامش:


[1]–  اقتباس من كتاب: “سؤال الأخلاق” للدكتور طه عبد الرحمن، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثالثة، 2006م، ص: 208-215. عنوان الفقرة: “خصائص العمل الخلقي المغربي”، وقد استعملنا “الصوفي” مكان “الخلقي” لتقريب مُراد الكاتب؛ فمعلوم عند الصوفية أن “التصوف هو الخُلق، فمن زاد عليك في الخُلق فقد زاد عليك في التصوف”.

[2]– استعمل الكاتب “الخلقية” عوض”الصوفية”.

[3] – لا يخفى ما قام به أبو محمد صالح دفين أسفي وذريته من أعمال جليلة لتأمين الطريق للحجاج المغاربة.

[4]– خير مثال على ذلك موقف الموحدين من الأخلاقيين والفقهاء.

[5]– أفضل مثال على ذلك موقف المرابطين بين الطائفتين: الأخلاقيين والفقهاء.

[6]– يأتي على رأس هذه الكتب كتاب” إحياء علوم الدين” للغزالي الذي أثار الضجة المعلومة وافترق الناس بشأنه بين منتقد ومعتقد حتى غلب أهل الانتقاد، فصدر أمر بن يوسف المرابطي بإحراقه؛ وقد كان من المنتقدين بعض كبار الأخلاقيين المغاربة من أمثال أبي الحسن بن حرزهم، ووقفته ضد”الإحياء” معروفة، إذ كان يقوم على إحراق أجزاء منه، حتى رأى رؤيا يشكو فيها الغزالي إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقضى الرسول بضربه بالسوط.

[7]– ابن الزيات، المصدر السابق،ص:270،271، 300، 344،377.

[8]– حسين صافي، الأدب الصوفي، ص:146.

[9]– فقد صحب مالك- رضي الله عنه- نافعا مولى عبد الله بن عمر، حتى كانت أصح أسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر.

[10]– ابن الزيات، المصد السابق، ص: 34.

[11]– المالكي، رياض النفوس.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق