مركز الأبحاث والدراسات في القيمدراسات وأبحاث

خرافة قيم التحديث وتطوير الذهنية المغربية في الفكر الكولونيالي الفرنسي5/6 (تابع)

“والحقيقة أن التحديث,إذا كان عملا حضاريا,كما يزعم الغرب,فعليه أن لا ينطلق من المركزية الأوروبية مشبعا بالتبعية وغلبة مصالح الخارج.بل عليه أن يتم اختياره من موقع الدولة المغلوبة.أي أن يكون استجابة طبيعية لمصالح المحيط ؛لأن أي تحديث لا ينطلق من ذاتية المغلوب يكون هدفه تدمير ذات الإنسان المغلوب.بما تحمله هذه الذات من حضارة وفكر وتجربة وتاريخ…،مع العمل على ضبطه وكبته وسجنه في زنزانة التبعية,وخاصة عندما يتعلق الأمر بإنسان إفريقيا المسلمة الذي ينحدر من نموذج حضاري يتميز,نسبيا,بالانفتاح والتسامح والحرية.ومن مظاهر تلك الحرية :

التعددية الدينية والمذهبية والصراع الشعوبي وصراع الأفكار والاتجاهات والتعبير عن الحياة اليومية للإنسان,بصيغ نقلتها كتب الأدب والسير والتراجم.فكان الإنسان في المجتمع الإسلامي يحس بنوع من الحرية التي تسمح له بالتعبير الحر,وتبني النماذج السلوكية التي يرغب فيها (1).  مع العلم أن هذه الحرية لم تكن موجودة في أوروبا في نفس الوقت,إذ كان أدنى خروج عن تعليمات الكنيسة يؤدي بالفرد إلى الحرق والتعذيب الجسدي(2) .

وتشخيصا لمطامح فرنسا التوسعية نعرض بعض النماذج التي هدفت فرنسا إلى تحقيقها خارج حدودها بدعوى التحديث:

أ – نشر الثقافة الفرنسية في المستعمرات وحمل السكان على تمثلها,لأن في ذلك سيادة فرنسا وهيمنتها :”إن فرنسا مقتنعة بأن أمجادها ومصالحها مرتبطة بمدى تمثل الشعوب المستعمرة لما تنشره فيها من أخلاق.ويبدو أن ذلك ليس الهدف النهائي لأنه ليس سوى وسيلة لسيادة فرنسا وهيمنتها “(3) . فواضح إذا أن التثقيف والتمدين ليس سبيل فرنسا ولكن الهدف هو الاستحواذ والامتلاك والسيادة.

ب – العمل على تعليم الناس محبة واحترام فرنسا والتغني بحضارتها,وذلك لأن ما يميز الحضارة الفرنسية,حسب رأي برينو،هي الرغبة في النظام والتوازن والتناغم،ولكنه يؤاخذ على الأمم،وخاصة المغاربة,عدم اقتناعهم بهذه الصفات النبيلة.ومع ذلك فهناك استثناء:”فالذين يعاشروننا،وكذلك أصدقاؤنا,وكل الذين رأونا وعرفوا المجتمع الفرنسي وما يمتاز به من حياة عالية أكبرونا…أما بالنسبة للأغلبية الساحقة,فنحن لا ندعو أن نكون جبابرة،أقوياء,أو نوعا من الأتراك”(4) .ومن ثمة يصبح هدف التحديث الفرنسي للشعوب هو العمل على جعلهم يحبون فرنسا ويتعاطفون معها ليتخذوها,فيما بعد,نموذجا للسلوك الذي يقتدى به.

ج –الهيمنة وبسط النفوذ بعبدا عم التحرير الفعلي للسكان من التخلف,مما يجعل مسالة التحديث مجرد شعار لا يجد سبيله إلى أرض الواقع؛وفي هذا يقول هاردي “علينا ألا نفكر في انعتاق المواطن المغربي,أو تحرير العبد,أو في حرية المرأة,فعندما تتعرفون على الوسط المغربي ستقتنعون بأن هذه الأفكار المتداولة سرعان ما تتحول إلى أخطار إذا ما نقلت إلى هناك”(5). وقد يكون السبب في عدم نقل مبادئ الحرية  والمساواة وحقوق الإنسان هو أن المسامين,في رأي أغلب الأوروبيين,لا يقبلون أن يتم تطور المعرفة بعيدا عن الدين بسبب بدائيتهم.

د- العمل على محو المميزات السوسيوثقافية لشعوب المستعمرات وغرس ثقافة المستعمر بديلا لها,بدعوى تخليص تلك الشعوب وتحريرها من الاستبداد والعزلة,ومنحها كل مقومات النظام الديموقراطي :”…فعن طريق الحريات الشخصية والأمن اللذين يوفرهما نظامنا الاجتماعي للجميع,وعن طريق عاداتنا الطيبة وثقافتنا …نخلق شعبا صديقا لفرنسا,يمكنه مستقبلا أن يتوحد معها وينصهر فيها…تلكم هي مصلحتنا الأولى التي يجب أن نجنيها من وراء حيازتنا لإفريقيا …(6) وبذلك يستبعد الأفارقة,ومعهم كل الشعوب المستعمرة من التاريخ,ليصبحوا قطيعا الأنعام.

ويمكن رؤية مثال صارخ لحقيقة إفريقيا المستعمرة البعيدة عن التاريخ,وذلك حينما باتت موضوعا خصبا للأنثروبولوجيين البيض,الذين وفدوا عليها لدراسة “مجتمع بدائي”وذلك”لأن المستعمر كان قد قرر أن الأفارقة كفوا عن أن يكونوا صناع تاريخ,بقدر ما هم حشرات أو مواد توضع تحت المجهر وتفحص كمعالم غير عادية.”(7)

وعلى العموم,يمكن القول إن التحديث في رأي الفرنسيين يتم”بعد أن يحصل أي إفريقي على تعليم فرنسي وتكون له الفرصة ليصبح مندمجا,أي بمثابة شخص يمكن استيعابه أو دمجه في الثقافة الفرنسية …”(8).”

1- يراجع في هذا الشأن :

– عبد الرحمان بدوي”من تاريخ الإلحاد في الإسلام”بيروت1980ط.2ص184-186وكذلك مقدمة كتاب “شخصيات قلقة في الإسلام”ط.1978.3.

– أبو حيان التوحيدي”الإمتناع والمؤانسة”.

– آدم ميتز”الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري أو عصر النهضة في الإسلام”جزءان.ترجمة أبوريدة.

2- Michel Foucault « Surveiller et punir ».1975.pp.9.21.

L- De Saussure « La psychologie de la colonisation Française ».paris1899.pp.26.27-3

4 – L.Brunot.in. »L’âme marocaine d’après la littérature Française ».G.Hardy.Eds du BEPMn74Avril 1926.p.145.   

5 – B.E.P.M.n25Novembre1920.p.454.

6 – Le depeté Dufaure.Chambredes deputé.29Mai1838.Le Monsieur Universel.IIISupplément au n152 1er Juin1838.

 

7- والتر رودني”أوروبا والتخلف في إفريقيا”ترجمة أحمد القصير.سلسلة عالم المعرفة عدد132.دجنبر1988.ص.329.

8- نفس المرجع.ص362.

ذ. محمد أعمار

• خريج جامعة السربون باريس فرنسا.
• حاصل على الإجازة في الآداب من كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، تخصص الفلسفة.
• حاصل على شهادة التخرج من المدرسة العليا للأساتذة سابقا. وكلية علوم التربية حاليا.
• أستاذ الفلسفة والفكر الإسلامي بالعديد من المؤسسات التربوية بالمغرب.
• أستاذ مادة علوم التربية بالعديد بالمراكز التربوية، بالمغرب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق