وحدة الإحياءقراءة في كتاب

حَادِي العُشَّاقِ.. اقترابات من تجربة شيخ المديح والسماع عبد اللطيف بنمنصور للدكتور محمد التهامي الحراق

ضمن سلسلتها مسارات في البحث، أصدرت دار أبي رقراق للطباعة والنشر بالرباط، وفي طبعتها الأولى 2012، كتاب/مؤلف الموسوم بـ”حَادِي العُشَّاقِ.. اقترابات من تجربة شيخ المديح والسماع عبد اللطيف بنمنصور”، لمؤلفه الدكتور محمد التهامي الحراق.

اشتمل الكتاب على 254 صفحة، جاءت موزعة بين تقديم للدكتور عباس الجراري، وثلاث دراسات، أبرز من خلالها الدكتور التهامي الحراق مكانة الشيخ بنمنصور وأدواره العلمية والفنية، بدءًا بتقديم مفاتيح لدراسة سيرته وأعماله، الوقوف عند أجلى ما يميز ديوانه نفحات العرف والذوق من دقة سر ورقة شعر، وكذا رصد مكامن تميز تجربته في التلحين والتنسيق الفني خصوصا لميازين الأدراج، إضافة إلى ملحق دال يضم نماذج من آثار الشيخ بن منصور في التنظير والكتابة وفي البرمجة والتنسيق الفني.

وأغنى الدكتور الحراق هذا المؤلف بمداخلة تأصيلية اعتبرها نفيسة ومؤسسة، سبق وألقاها “صاحب الكواكب” الشيخ بنمنصور في الدورة الثانية من مهرجان الموسيقى الأندلسية بشفشاون عام 1983، وكانت بعنوان “الموسيقى الصوفية”، إضافة إلى المقالة التي شارك بها بنمنصور في تأبين الفقيه المستشار محمد عواد، وكانت بعنوان “الفقيه عواد: الذواق الأصيل“. ولإغناء المقالين وما يحملانه من معلومات وإشارات، عمد الدكتور الحراق إلى إلحاق مجموعة من الهوامش المضيئة.

ويحتوي المؤلف، أيضا، على نموذجين اثنين، من عينة تلك البرامج الفنية المكتوبة، التي كان يشرف بنمنصور على إعدادها وتنسيقها، النموذج الأول والمنشور بخط الشيخ بنمنصور، وهو “نفقة العمل الفاسي المجرد” في باب المديح النبوي، فيما كان النموذج الثاني برنامج “تنزيه الحذاق في باقة من أشعار الشيخ سيدي محمد الحراق“.

ففي تقديم مفعم بمشاعر البهجة، لعميد الأدب المغربي، الدكتور عباس الجراري، عبر فيه/من خلاله على أن هذه المشاعر نابعة من إحساسه بالاقتراب من التجربة الغنية لهذا الشيخ الصديق، واصفا تجاوب الدكتور الحراق مع شيخه بنمنصور، بشحنة عرفانية انفعالية تمس كل من يتاح له ذلك الاقتراب.

إن مشاعر الاقتراب لدى عشاق فن المديح والسماع، وشيوخ وأصدقاء بنمنصور المقربين، وكما جاء في هذا التقديم، تعود إلى البيئة العلمية التي نشأ فيها بنمنصور، والتي أتاحت له الأخذ عن أشهر علماء الرباط، إضافة إلى تربيته داخل أسرة صوفية حراقية، تتلمذ على يد أقطاب زاويتها، مكتسبا مهاراته الذوقية العرفانية، التي عمل بدوره على نقلها لأجيال من تلاميذه، خلال احتضانهم ببرامج إذاعية وتلفزية، مع إشراكه لهم بالحلقات التي كان يشرف على تسجيلها، كما الحال بقصائد “البردة” “الفياشية” و”المنفرجة”.

إن بلوغ الدكتور الحراق مكان الصدارة، وسط تلاميذ الشيخ بنمنصور، ليس فقط بما ناله من علم شيخه وأدبه وفنه، بل أيضا راجع، حسب ما جاء في تقديم الدكتور الجراري، إلى محاكاة الدكتور الحراق لــ“شيخ المادحين والمسمعين بالمغرب”، وتقمصه لبعض ملامح شخصيته، وهو ينشد أو يوجه بعض المنشدين خلال “جلسات النادي الجراري”.

وقد سبق للأستاذ الجراري، أن قام بتقديم بعض مؤلفات بنمنصور، على رأسها “مجموع أزجال وتواشيح وأشعار الموسيقى الأندلسية المغربية” المعروفة بــ: “الحايك”، موزعة نصوصها على “الميازين” التي تؤدى عليها، إضافة إلى إبداعه ديوان “نفحات العرف والذوق في مدح طه سيد الخلق”، والذي كان عبارة عن نصوص تؤدى في إنشاد المديح والسماع، جاءت مرة على نظام القصيدة، وأخرى على نظام المقطوعة وكذا قالب الموشح في الغالب.

وأوضح في تقديمه كذلك، أن “عميد طرب الآلة” عرف عنه تمكنه المتفرد من نصوص “الطرب الأندلسي” الشعرية والضبط المحكم لموازينه وإيقاعاته، مما أهله ليفوز بهذا اللقب دون منازع. وهو ما دفع بالدكتور الجراري إلى دعوة الدكتور الحراق إلى العمل على إبراز هذا الجانب الفني الأصيل الذي تألق فيه الشيخ بنمنصور من خلال قيادته البارعة والماهرة لأجواق الطرب الأندلسي في المسارح والساحات العمومية.

ظل الدكتور الحراق، ولأكثر من عقد من الزمن يتهيب الاقتراب من تجربة شيخه بنمنصور، إلا أنه وتلبية لدعوة عميد الأدب المغربي الدكتور عباس الجراري، لتظهير قيمة الرجل وكذا استجلاء أدواره النفيسة في المحافظة على فنون طرب الآلة والمديح والسماع، والكشف عن معالم تجديده فيها، ووفاء منه لشيخه، باعتباره نموذجا يحتاج إلى وقفات للتعرف والتعريف والاعتراف، استجاب للنداء الداخلي للكتابة والتأليف، وكذا لتلميحات/تصريحات عميد الأدب المغربي، خلال عشايا النادي الجراري، والتي كانت تحييها المجموعة السماعية للإنشاد والذكر والسماع، برئاسة الدكتور التهامي الحراق.

 وفي تعريفه بشيخه عبد اللطيف بن منصور، قدمه الدكتور الحراق في هذه الدراسة باعتباره ” أحد أساطين فن الذكر والسماع بالمغرب.. وهب حياته وأنفاسه لتطريب القلوب بذكر المحبوب عبر بهي الأشعار وندي الترانيم، رجل عمر الزوايا والمساجد بالأذكار والمدائح، ووقع الموسيقى الصوفية، ممثلة في فن السماع، ببصمات مغربية متفردة، كما تولى الإسهام في صون التراث والمحافظة على ذاكرة هذا الفن العريق من خلال تجديد حضورها، وتوسيع مساراتها وتحيين أنظامها وأنغامها..”.

اعتبره الحراق نموذجا من الأعلام العصاميين، الذين ساهمت الزوايا في تكوينهم وتربيتهم، كان حافظا لكلام الله، ومستوعبا للسيرة النبوية، وعلوم الفقه، وحافظا لمتون الشعر الجاهلي والأموي والعباسي، ودواوين المديح النبوي وكلام العارفين من الصوفية، منفتحا على موسيقى الطوائف، والموسيقى العربية الكلاسيكية.

كان “حادي العشاق” يسخر كل مناحي إبداعه الشعري والفني للوظيفة الصوفية، منطلقا من مشربه الصوفي الحراقي الدرقاوي، ليسقي ولوعي فنون طرب الآلة والغرناطي والآلة والمديح والسماع، معاني العشق المحمدي، دون انغلاق أو فهم سيء لمعاني الزهد والتقشف، على مذهب شيخه محمد الحراق.

إن حبه للجمال وتنعمه بالطيبات الحسية والمعنوية، جعل منه “صوفيا ابن وقته ذوقا وسياقا”، حيث كان ماهرا في صيد الأسماك، ولعب الورق، منخرطا في مكتب تسيير “نادي الفتح الرباطي لكرة القدم”، الانشغال بأحوال وهموم وطنه في مرحلة المقاومة.

إضافة إلى الأبعاد الفنية والإبداعية للشيخ بنمنصور، عمل الدكتور الحراق على تقريبنا من الجانب الإنساني لــــــ“حادي العشاق” والذي رصد فيه الشيخ “الإنسان الفطن والملقن“. فقد عرف عنه الكرم والعفة والوفاء للأصدقاء، والشغف بالإبداع والتجديد، لا يمل من مجالسته لخفة ظله ونكته البلاغية والفنية. أما فطنته فتطرق إليها الدكتور الحراق من خلال الحديث عن اختياراته ومواقفه السياسية المعلن عنها في أشعاره وأنظامه، وكذا الحس الرفيع في اختياراته للأشعار المنشدة. ونظرا لما يتميز به الشيخ بنمنصور من تنوع للمدارك والمعارف، استطاع أن يكتسب أسلوبا خاصا في التلقين، ينم عن قدرة خاصة وأستاذية متفردة في هذا الفن.

وبهدف الاقتراب من الشيخ بنمنصور، وقف الدكتور الحراق على إبراز مجموعة من أعمال وإسهامات شيخه في الحفاظ على طرب الآلة وإغناء هذا الفن، مع إحياء وتجديد لفن السماع بشكل خاص، كونه موسوعة حية في فن السماع، بشقيه المديح النبوي والسماع المجرد (كلام القوم).

فهو يمتاز بمرجعية قل نظيرها في الموسيقى الأندلسية المغربية المنعوتة بطرب الآلة، ويمتلك ذاكرة قوية وحافظة حادة ونافذة، بوأته منبرا عاليا ومنزلة سامية ونادرة في باب حفظ القصيد والموشحات والأزجال والبراول.

عرف عن الشيخ بنمنصور مجالسة ومصاحبة الشيوخ والعلماء والفقهاء، وأرباب فني طرب الآلة والسماع، والتأثر بهم بدءا بجده لأمه، المقدم عبد السلام اكديرة، الذي أولى رعاية وعناية وتربية صوفية صادقة لحفيده. وبدوره تتلمذ جده المقدم عبد السلام على يدي الولي الصالح سيدي بنعاشر الحداد، الآخذ عن الموسيقي البارع الحاج محمد بن العربي الدلائي، التلميذ المباشر لأمير الحذاق ومهذب الأذواق العارف سيدي محمد الحراق، منظر المدرسة السماعية الدلائية، الوجه الفني البارز للطريقة الصوفية الحراقية.

إن اهتمام “الدلائي الصغير” بمؤلفات وحكايات ومقامات وأشعار الصوفيين، أمثال الحلاج وابن الفارض والبرعي والششتري والحراق، يرجع إلى كونه حراقي الطريقة الصوفية، دلائي المدرسة الفنية في المديح والسماع.

فرغم ما يعرف عن التقاء طرب الآلة وفن السماع في العديد من الطبوع والإيقاعات، إلا أن “عميد طرب الآلة” لم ينفك عن التنبيه إلى الفرق بينهما في عدة جوانب أدبية وفنية ووظيفية.

فإذا كان طرب الآلة هو تلك الموسيقى التي تتغنى بالطبيعة والعشايا والنسيب والغزل الحسي، وتصف مجالس الأنس ومحافل الزهو والطرب. فالسماع ينتمي إلى ما يعرف بــ”الموسيقى الصوفية”؛ أي تلك الموسيقى ذات الصبغة الدينية/الصوفية، أو وكما عرفها الشيخ بنمنصور: “أناشيد وترانيم وألحان ونغمات، يقوم بترديدها وترتيلها المنشدون والذاكرون المسمعون”؛ أي أن كلامها يقتصر على أشعار وموشحات أقطاب الصوفية ورجالاتها وشعرائها.

ويعود السبب في تسميتها بالصوفية إلى كونها تستعمل وتروج في أماكن معينة كالزوايا والمواسم، وخلال حفلات عيد المولد النبوي، كما أن أداءها يكون بالأصوات فقط دون الآلات الموسيقية.

من بين الألقاب التي عرف بها الشيخ بنمنصور، لقب “عميد طرب الآلة” وذلك راجع إلى الجهود الكثيرة التي بذلها في هذا المجال، وعلى رأسها العمل الشامخ الذي أنجزه في سنة 1977؛ إذ استطاع خلاله التحقيق في فن طرب الآلة، وتنسيق وترتيب وإعداد مجموع أزجال وتواشيح وأشعار الموسيقى الأندلسية المغربية المعروف بـ”الحايك”، وهو المجموع المتضمن للأشعار بجميع أصنافها القصيد، والموشح، والبراول، إضافة إلى هوامش وتعاليق، لتحليل مكونات القطع الموسيقية المنشدة.

إلى جانب مجموع “الحائك” عمل الشيخ بنمنصور على تقديم منهج دقيق لصيانة هذا الفن عن طريق التصحيح والتصليح لما حُرّف، والتهذيب والتشذيب لما صُحّف. وكذا القيام بترجمة بعض أعلام هذا الفن ومعاصريه، مع محاولة لنسبة بعض الأشعار إلى أصحابها.

لم يتوقف اهتمام الشيخ بنمنصور عند طرب الآلة، بل تجاوزه ليشمل أيضا ما عرف بـــ”الفن المقدس”؛ أي فن المديح والسماع. فالأمداح وكما عرفها “شيخ المادحين والمسمعين بالمغرب” هي: “ترتيل المنشدين المادحين لقصيدتي الإمام البوصيري “البردة والهمزية” في طبوع الموسيقى الأندلسية المغربية، يتخلل كل ذلك إنشادات وتغطيات أندلسية اللحن والإيقاع، وفي الأمداح تنحصر الموسيقى الصوفية عند هؤلاء”.

أما السماع فهو التغني بكلام القوم وما يرتبط به من أحوال الصوفية وأذواقهم وإشاراتهم ومواجيدهم كأشعار الحب الإلهي والخمرة والأزلية. وقد قسمه بنمنصور إلى الجلالة أو التخليل، الحلل، ثم العمارة، مؤكدا على ضرورة التفرقة بين المديح النبوي والسماع المجرد.

يرى الشيخ بنمنصور أن المديح النبوي والسماع المجرد، فنين مختلفين، وليس شقين ضمن فن واحد، وهو ما عبر عنه نهاية الثمانينات، عندما أقر بــــ”مهرجان أبي رقراق لفني المديح والسماع” كعنوان للمهرجان آنذاك، عوض “مهرجان أبي رقراق لفن المديح والسماع”.

تصدر أولى إنتاجاته الفنية، برنامج “الكواكب اليوسفية في الأمداح النبوية” سنة 1961م، لتتوالى الإنتاجات، والمتمثلة في البرامج الدينية التي أعدها للتلفزيون المغربي كـــــ”ذكر ودعاء” و”خاتم النبيئين”، ثم إعداده لبرامج “مهرجان أبي رقراق لفني المديح والسماع” في دوراته الأربع المتتالية (89-94).

أما التسجيلات الإذاعية، فقد كانت “الفياشية” أولى هذه التسجيلات سنة 1961م، لتبلغ مجموع تسجيلاته بعدها 80 ساعة في مختلف الطبوع والأنغام والإيقاعات. إضافة إلى إصداره الشعري الفني “نفحات العرف والذوق في مدح سيد الخلق” سنة 2007 والذي أشرف على التقديم له أيضا “عميد الأدب المغربي” الدكتور عباس الجراري، نظرا للعناية والرعاية والحب الكبير الذي كان الجراري يحيط بهما شيخ المادحين والمسمعين.

إن الاهتمام الذي أولاه بنمنصور لفني طرب الآلة والسماع، للحفاظ عليه وإغنائه، استند إلى التصليح، والذي شمل النظم والنغم، القصيدة والموشحات، والطبوع والبراول والتلاحين، لكونه راويا ناقلا للأشعار والأدوار الموسيقية، سواء كانت شفاهية أو مكتوبة.

أما الإبراز فهي تلك المحاولة المتمثلة في الإخراج إلى الوجود العديد من القصائد والموشحات المنسية أو الغابرة، والتلاحين سواء كانت مهملة أو نادرة التصليح والتنقيح. لتبقى الخاصية الثالثة، وهي القدود وهي التي يتم الاشتغال فيها على “مستعملة غنائية” في فن السماع على قد وقياس “صنعة” في طرب الآلة وذلك بالمحافظة على لحن الصنعة، مع نقل شعرها من الأغراض الدنيوية في طرب الآلة إلى أغراض روحية في المديح والسماع.

في حين أن الإبداع يميز التجربة الفنية الغنية للشيخ بنمنصور، والذي تمثل في إغناء موسيقى الآلة والمديح والسماع، مع التمييز بين إبداعاته اللحنية وإبداعاته الشعرية. فالشيخ عبد اللطيف بنمنصور، يولي أهمية للحني أكثر منه للشعري، سواء من حيث الكم أو من حيث الوظيفة، بل إن بعض منظوماته جاءت استجابة لحاجيات لحنية.

إن تمييز الشيخ بنمنصور بين المديح والسماع، هو تمييز أصله دلائي، كون أن صاحب رسالة “فتح الأنوار في بيان ما يعين على مدح النبي المختار” قد ميز في رسالته بين ما يستعمل وما يتغنى به في جلسات الأمداح بين المادحين، وبين ما يستعمل من تراتيل ومستعملات في حلقات الذكر، مما يسميه الشيخ الدلائي بــ”السماع المجرد”. وكذا عنايته بديوان العارف محمد الحراق وأشعاره، دليل على انتماء التجربة الفنية للشيخ بنمنصور إلى المدرسة الدلائية الحراقية، الوجه الموسيقي البارز للطريقة الحراقية.

من بين النعوت الكثيرة التي أطلقت على الشيخ بنمنصور، لقب “أمير الأدراج” كون أن ذخيرته من الأعمال الفنية، ساهمت في تقديم آفاق إبداعية في ميزان “الدرج”، باعتباره أحد أبواب المرجعية الموسيقية المغربية.

إن مفهوم “الدرج” في معجم مصطلحات الموسيقى الأندلسية، يعني أمرين اثنين: أولهما؛ أنه أحد الميازين الخمس المشكلة لأقسام النوبة (البسيط، قائم ونصف، البطايحي، القدام، الدرج) والتي هي عبارة عن مجموعة من المعزوفات الآلية والمقطعات الغنائية لكل قسم منها. ليبقى الأمر الثاني؛ هو كونه أحد الموازين الخمسة التي تضبط حركة الصنعات المتعاقبة في ميازين النوبة.

إن اعتبار ميزان “الدرج” كأحد أصناف الإيقاعات الخمسة، كان في الأصل عبارة عن أربع نقرات، إلا أن المغاربة أضافوا إلى أوزان طرب الآلة لتصير خمسة. وهو ابتكار نسب إليهم، يزخر به أشعارهم، وبراويلهم وملحونهم، بحيث أصبح حاضرا في مدونة طرب الآلة، ومتداولا في الزوايا بين أرباب السماع.

رغم أن الشائع عن مدرسة فاس كونها مدرسة محافظة، إلا أنها كانت المبادرة إلى التجديد والابتكارات والتعديلات. فاعتمادها لميزان “الدرج” كميزان مستقل، منذ بداية ظهور السعديين، خلال القرن الرابع عشر للهجرة، في الحايك، بعد مراجعة لجنة الوزير محمد بن العربي الجامعي، لدليل قوي على مغربة الموسيقى الأندلسية، والتجديد في مدونة طرب الآلة.

لقد ضمنت المدرسة الفاسية في هذه المراجعة، تبني الصنعات الدرجية المدرجة في ميازين البطايحي، وتنسيقها في ميازين مستقلة عرفت منذ ذلك الحين بـ”الأدراج”.

فبعد أن كان ميزان “الدرج” أوجز الميازين ولا تتعدى في الغالب صنعاته أصابع اليد، كان للشيخ بنمنصور والحاج إدريس بنجلون، الفضل في إغناء وتوسيع مدونة موسيقية درجية.

إن الاستشهاد بالتجربة التجديدية في ميزان “الدرج” عند الشيخ بنمنصور، يتمثل في كون أن الاجتهادات التلحينية الرائدة لــ“أمير الأدراج” جعلت منه أبرز من أتقن التلحين عن طريق التقييس مثلما أتقن التلحين عن طريق الابتكار. فعلى المستوى الأول يمكن اعتباره واضعا للبنات النسق البنائي العام للأدرجة الموسعة من خلال اعتماد آلية التقييس.

أما على المستوى الثاني؛ فقد ابتكر قوالب لحنية جديدة تصلح أن تكون إطارا مرجعيا وأصلا جديدا لعمليات تلحينية أداتها التقييس، كما كان الأمر عندما لحن برولة “أسقاني هادْ المدامْ يا عُشّاقي” في درج الحجاز الكبير، وهي مستعملة مبتكرة بنية ولحنا.

بعد التطرق إلى الإنتاجات العلمية والأدبية والفنية للشيخ بنمنصور، والبحث/التدارس فيها والتحليل، ووفاء من “التلميذ المريد” لعطاءات/إنجازات شيخه وتاريخه الفني الزاخر، واعترافا منه بفضل المدرسة المنصورية الدلائية الحراقية في تكوينه الفني، دعا الدكتور الحراق، المهتمين إلى القيام بالمزيد من الأبحاث والدراسات المتفحصة والمتعمقة، للأعمال المتميزة للشيخ بنمنصور، مقدما مجموعة من الاقتراحات تتغيى سبر أغوار التجربة الفنية الصوفية المتميزة، وذلك من خلال جمع أعمال الشيخ عبد اللطيف بنمنصور وتوثيقها، سواء كانت برامج فنية مكتوبة أو برامج مسجلة كحصص صوتية في مختلف الأشرطة المسموعة والتي اعتمدت أسلوب “النفقة التلقائية” على الطريقة التقليدية. وضرورة إخراج مختلف التسجيلات الإذاعية والتلفزية التي أنجزها الشيخ بنمنصور على مدى نصف قرن من العطاء.

وإنجاز دراسات أدبية تهم النصوص الشعرية التي يختارها بنمنصور والوحدات الموضوعية التي تطرب فيها، دراسة تلاحين الشيخ بعد تنويطها وتدوينها موسيقيا، دراسة علاقة المديح والسماع وتجربته فيهما بانتمائه العرفاني للمشرب الصوفي الحراقي، البحث في الآثار التي تركتها أعماله في المسار التاريخي العلمي الفني والتداولي لطرب الآلة وفن السماع.

إضافة إلى الإفصاح عن رغبته في استكمال المشروع الفني الروحي الذي انخرط فيه منذ أكثر من عقدين من الزمن في إطار “جمعية الصفا لمدح المصطفى بوزان”، بتوجيه من رئيس الجمعية أحمد الحراق، والذي يتضمن إعداد وتنسيق ما سمي بــ”حوليات سماعية”، وهي السلسلة التجميعية لما هو متداول من مستعملات الأدراج، والاحتفاء بالتلحينات الجديدة” الأصيلة”، والتي دأبت الجمعية على تقديمها سنويا في موسم العلميين بمولاي إدريس الأكبر بزرهون، والتي شملت أدراج طبوع، الحجاز الكبير، والرصد، وغريبة الحسين، والنهاوند، والاستهلال، والماية، ورصد الذيل، ورمل الماية، والزريكة، والحجاز المشرقي، وعراق العجم، والأصبهان، في انتظار إكمال درج العشاق.

Science
الوسوم

ذة فاطمة الزهراء الحاتمي

باحثة مساعدة بالوحدة البحثية للإحياء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق