مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

حول تأصيل التصوف الإسلامي

إن مهمة تأصيل مبادئ التصوف الإسلامي وسلوكياته الراشدة، أصبحت من أهم الضروريات في عصرنا الحاضر، والذي تتقاذفه ألسنة الفتن المذهبية الجامحة من كل حدب وصوب، ومن أخطرها تلك التي تستهدف عزل التصوف الإسلامي- الذي يمثل جوهر الإسلام وذروة روحانيته- عن رحاب هذا الدين الحنيف، وتزعم عزو أصوله وسلوكياته إلى مصادر غير إسلامية. فكان من حتميات المنهج العلمي الصوفي إبراز الأصول القرآنية والسنية للتصوف واضحة جلية المعالم…

فالتصوف نابع من معين الوحيين النيرين (الكتاب والسنة)، وهذا ما يشير إليه نص فتوى العلامة محمد بن الصديق الغماري، والذي يوضح ما نحن بصدده، “فقد سُئل رحمه الله تعالى عن أول من أسس الطريقة؟ وهل تأسيسها بوحيٍ سماوي؟ فأجاب: “وأما أول من أسس الطريقة؟ وهل تأسيسها بوحي؟… الخ فلتعلم أن الطريقة أسسها الوحيُ السماويُ في جملة ما أُسِّسَ في الدين المُحمديّ، إذ هي بلا شك مقام الإحسان الذي هو أحد أركان الدين الثلاثة التي جعلها النبي صلى الله عليه وسلم- بعد ما بيّنها واحداً واحداً- ديناً، فقال “هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم”. فغاية ما تدعو إليه الطريقة وتشير إليه هو مقام الإحسان، بعد تصحيح الإسلام والإيمان، ليحرز الداخل فيها والمدعو إليها مقامات الدين الثلاثة الضامنة لمحرزها والقائم بها السعادة الأبدية في الدنيا والآخرة، والضامنة أيضاً لمحرزها كمال الدين، فإنه- كما في الحديث- عبارة عن الأركان الثلاثة، فمن أخلَّ بمقام الإحسان الذي هو الطريقة فدينه ناقص بلا شك، لتركه ركنا من أركانه.[1]

وجميع مقامات الصوفية وأحوالهم، التي هي موضوع التصوف أساسا مستندة إلى شواهد من القرآن الكريم. وهذه بعض الآيات القرآنية التي تستند إليها بعض تلك المقامات والأحوال، وذلك على سبيل المثال لا الحصر:

–      مجاهدة النفس التي هي بداية الطريق إلى الله تعالى، تستند إلى آيات مثل قوله عز وجل: ﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين﴾.[2] وقوله تعالى: ﴿وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى﴾.[3]

–      والتقوى وتستند إلى قوله تعالى: ﴿إن أكرمكم عند الله أتقاكم﴾.[4]

–      والزهد يستند عندهم إلى قوله تعالى: ﴿قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى﴾.[5]

–      والتوكل ويستند إلى قوله تعالى: ﴿ومن يتوكل على الله فهو حسبه﴾.[6] وقوله تعالى: ﴿وعلى الله فليتوكل المؤمنون﴾.[7]

–      والصبر يستند إلى قوله تعالى: ﴿واصبر وما صبرك إلا بالله﴾.[8]

–      أما الرضا كما في قوله تعالى: ﴿رضي الله عنهم ورضوا عنه﴾.[9]

–      والحياء كما في قوله تعالى: ﴿ألم يعلم بأن الله يرى﴾.[10]

وهناك مقامات أخرى منها مثلا: الفقر (بمعنى الافتقار إلى الله)، وهذا يستند عند الصوفية إلى قوله تعالى: ﴿يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد﴾.[11] وقوله تعالى عن سيدنا موسى عليه السلام: ﴿قال رب إني لما أنزلت إليّ من خير فقير﴾.[12]

وهناك أيضا مقام المحبة المتبادلة بين العبد والرب، وهو مشار إليه صراحة في قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين ءامنوا من يرتدد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه﴾.[13]

وكلام الصوفية في المعرفة الحاصلة عن التقوى والتخلق والإلهام يُرَدُ عندهم إلى آية مثل: ﴿فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما﴾.[14]

أما الأحوال فمستندة أيضا إلى القرآن:

فهناك مثلا حال الخوف الذي يستند إلى قوله تعالى: ﴿يدعون ربهم خوفا وطمعا﴾.[15]

وحال الرجاء الذي يستند إلى مثل قوله تعالى: ﴿من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت﴾.[16]

وحال الحزن الذي يستند إلى قوله تعالى: ﴿وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن﴾.[17]

بل إن بعض رياضات الصوفية العملية وأهمها الذكر مصدرها من القرآن الكريم، حيث يقول الله عز وجل في ذلك: ﴿يا أيها الذين ءامنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا﴾.[18]

ويطول الحديث لو أردنا رد كل معنى من المعاني النفسية أو الأخلاقية التي يعبر عنها الصوفية بالأحوال والمقامات، إلى أصله من القرآن الكريم…، لأن البذور الأولى للتصوف الإسلامي من حيث هو علم للمقامات والأحوال، أو بعبارة أخرى من حيث هو علم للأخلاق الإنسانية والسلوك الإنساني موجودة في القرآن الكريم، ومن هنا يكون التصوف من حيث نشأته الأولى آخذا من القرآن الكريم..

وكما كان القرآن الكريم منبعا استقى منه الصوفية تصوفهم، كذلك كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم التعبدية وأخلاقه وأقواله مصدرا من مصادر التصوف، حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحنث في غار حراء كلما أقبل شهر رمضان، مبتعدا عن صخب الحياة، ومتأملا في الوجود، فأتاح له هذا كله صفاء القلب، وكان تحنثه في غار حراء تمهيدا لنبوته حتى نزل عليه جبريل عليه السلام بالوحي…، فقد كان هذا التحنث والتأمل في الكون…، صورة أولى للحياة التي سيحياها الصوفية فيما بعد، والتي أخضعوا أنفسهم فيها لضروب من الرياضات والمجاهدات والأحوال، كالفناء في مناجاة الله عز وجل، والتي هي ثمرة الخلوة، وقد أشار الإمام الغزالي إلى استناد الصوفية في هذا المسلك إلى عزلة النبي صلى الله عليه وسلم قائلا: “الفائدة الأولى (للعزلة): التفرغ للعبادة والفكر والاستئناس بمناجاة الله تعالى عن مناجاة الخلق، والاشتغال باستكشاف أسرار الله تعالى في أمر الدنيا والآخرة، وملكوت السموات والأرض، فإن ذلك يستدعي فراغا، ولا فراغ مع المخالطة، فالعزلة وسيلة إليه…، والعزلة أولى بهم (أي الصوفية)، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم في ابتداء أمره يتبتل في جبل حراء، وينعزل إليه، حتى قوي فيه نور النبوة، فكان الخلق لا يحجبونه عن الله، فكان ببدنه مع الخلق، وبقلبه مقبلا على الله تعالى”.[19]

في ذلك يقول ابن خلدون: “هذا العلم ـ يعني التصوف ـ من علوم الشريعة الحادثة في الملَّة. وأصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم طريقة الحق والهداية، وأصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد في ما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفراد عن الخلق، والخلوة للعبادة. وكان ذلك عامّا في الصحابة والسلف. فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده، وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا، اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة”.[20]

وهذا لا يعني أن التصوف جديد على المسلمين كما يدعي البعض، فكما ذكرنا، فالتصوف هو مقام الإحسان، الذي هو الركن الثالث من أركان هذا الدين الحنيف، والمصرح به في الحديث المتفق عليه، والذي نورده هنا لنعرف مكانة وموقع التصوف من هذا الدين جملة، ومن الإسلام بمفهومه الشامل، وكذا بمفهومه الخاص. فعن سيدنا عمر رضي الله عنه، أنه قال: “بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج بيت الله إن استطعت إليه سبيلا، فقال له: صدقت، قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان: قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره. قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان. قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك…، فقال صلى الله عليه وسلم: يا عمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم”.[21]

     فالتصوف أحد أجزاء الدين الذي علمه جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم، ولأمته من خلاله، إنه مقام الإحسان، وهو أعلى مراتب الدين وأشرفها، فقد اختص الله عز وجل أهله بالعناية، وأيّدهم بالنصر، قال الله عز وجل: ﴿إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون﴾.[22]

وإننا نجد كبار أئمة التصوف ومن أبرزهم الإمام الطوسي صاحب “اللمع”، يؤصل للتصوف الإسلامي من الكتاب والسنة بتقرير باهر، ويبرز تأصيل التصوف باعتباره مقام الإحسان، كجوهر وحقيقة للإسلام والإيمان، فيقول: “وأصل ذلك حديث الإيمان، حيث سأل جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم عن أصول ثلاثة: عن الإسلام والإيمان، والإحسان الظاهر والباطن، والحقيقة، فالإسلام ظاهر، والإيمان ظاهر وباطن، والإحسان حقيقة الظاهر والباطن، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: “أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك”. وصدّقه جبريل على ذلك، والعلم مقرون بالعمل، والعمل مقرون بالإخلاص، والإخلاص أن يريد العبد بعلمه وعمله وجه الله تعالى”.[23]

وفي هذا الشأن أيضا، يقول أحمد علوش: “قد يتساءل الكثيرون عن سبب عدم انتشار الدعوة إلى التصوف في فجر الإسلام، وعدم ظهور هذه الدعوة إلا بعد عهد الصحابة والتابعين، والجواب عن هذا، أنه لم تكن من حاجة إليها في العصر الأول، لأن أهل هذا العصر كانوا أهل تقوى وورع، وأرباب مجاهدة وإقبال على العبادة بطبيعتهم، وبحكم اتصالهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا يتسابقون ويتبارون في الاقتداء به في ذلك كله، فلم يكن ثمة ما يدعو إلى تلقينهم علما يرشدهم إلى أمر هم قائمون به فعلا، وإنما مثلهم في ذلك كله كمثل العربي القُح، يعرف اللغة العربية بالتوارث كابرا عن كابر، حتى إنه ليقرض الشعر البليغ بالسليقة والفطرة، دون أن يعرف شيئا من قواعد اللغة والإعراب والنظم والقريض، فمثل هذا لا يلزمه أن يتعلم النحو ودروس البلاغة، ولكن علم النحو وقواعد اللغة والشعر تصبح لازمة وضرورية عند تفشي اللحن، وضعف التعبير، أو لمن يريد من الأجانب أن يتفهمها ويتعرف عليها، أو عندما يصبح هذا العلم ضرورة من ضرورات الاجتماع كبقية العلوم التي نشأت وتألفت على توالي العصور في أوقاتها المناسبة”.[24]

وذكر الإمام القشيري: “أن المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يتسمّ أفاضلهم في عصرهم بتسمية سوى صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ لا فضيلة فوقها، فقيل لهم: “الصحابة”. ولما أدرك أهل العصر الثاني من صحب الصحابة: سموا بـ: “التابعين”، ورأوا ذلك أشرف سمة. ثم قيل لمن بعدهم: “أتباع التابعين”. ثم اختلف الناس وتباينت المراتب، فقيل لخواص الناس- ممن له شدة عناية بأمر الدين-: “الزهاد والعباد”. ثم ظهرت البدع، وحصل التداعي بين الفرق، فكل فريق ادعوا أن فيهم زهّادا، فانفرد خواصُّ أهل السنة المراعون أنفاسهم مع الله تعالى، الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم “التصوف”.[25]

فالصحابة والتابعون- وإن لم يتسمّوا باسم المتصوفين- كانوا صوفيين فعلا، وإن لم يكونوا كذلك اسما، وماذا يراد بالتصوف أكثر من أن يعيش المرء لربه لا لنفسه، ويتحلى بالزهد وملازمة العبودية، والإقبال على الله بالروح والقلب في جميع الأوقات.[26]

فالتصوف إذن، ليس أمرا مستحدثا جديدا على المسلمين، ولكنه مأخوذ من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحياة أصحابه الكرام رضوان الله عليهم، كما أنه ليس مستقى من أصول لا تمتُّ إلى الإسلام بصلة كما يزعم أعداء الإسلام من المستشرقين وتلامذتهم الذين ابتدعوا أسماء مبتكرة، فأطلقوا اسم التصوف على الرهبنة البوذية، والكهانة النصرانية، والشعوذة الهندية فقالوا: هناك تصوف بوذي وهندي ونصراني وفارسي…، يريدون بذلك تشويه اسم التصوف من جهة، واتهام التصوف بأنه يرجع إلى هذه الأصول القديمة والفلسفات الضالة من جهة أخرى، فهم مخطئون في اعتقادهم هذا، لأن التصوف هو روح الإسلام وقلبه النابض، إنه التطبيق العملي للإسلام، وليس هناك إلا التصوف الإسلامي فحسب.

 


 [1]– الإعلام بأن التصوف من شريعة الإسلام، عبد الله بن الصديق الغماري، تحقيق: عصام محمد الصاري، مكتبة القاهرة، ط2، 1424ھ-2004م، ص: 11-12.

 [2] – سورة العنكبوت، الآية: 69.

[3]  – سورة النازعات، الآية: 40-41.

[4]  – سورة الحجرات، الآية: 13.

[5]  – سورة النساء، الآية: 77.

[6]  – سورة الطلاق، الآية: 7.

[7]  – سورة التوبة، الآية: 51.

[8]  – سورة النحل، الآية: 127.

[9]  – سورة المائدة، الآية: 119.

[10]  – سورة العلق، الآية: 14.

[11]  – سورة فاطر، الآية: 15.

[12]  – سورة القصص، الآية: 24.

[13]  – سورة المائدة، الآية: 54.

[14]  – سورة الكهف، الآية: 65.

[15]  – سورة السجدة، الآية: 16.

[16]  – سورة العنكبوت، الآية: 5.

[17]  – سورة فاطر، الآية: 34.

[18] – سورة الأحزاب، الآية: 41.

[19]– إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي، تحقيق: سيد عمران، دار الحديث، القاهرة، ط: 1425ھ-2004م، 2/285-286.

[20]– مقدمة ابن خلدون، عبد الرحمان بن خلدون، تحقيق: علي عبد الواحد وافي، د.ط، د.ت، 3/989.

[21]– صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب: بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله    سبحانه وتعالى، رقم الحديث:1.

[22]– سورة النحل، الآية: 128.

[23]– اللمع، أبو نصر السراج الطوسي (ت378ھ)، تحقيق: عبد الحليم محمود، وطه عبد الباقي سرور، مكتبة  الثقافة الدينية، د.ط، 1423ﮪ-2002م، ص: 22.

[24]– حقائق عن التصوف، عبد القادر عيسى، دار المقطم للنشر والتوزيع، ط: 1426ھ-2005م، ص: 27.

[25]– الرسالة القشيرية في علم التصوف، أبو القاسم القشيري (ت465ﮪ)، تحقيق: معروف مصطفى زريق، المكتبة العصرية، بيروت،  ط: 1426ھ- 2005م، ص: 389.

[26]– المصدر السابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق