مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

حكميات عطائية

كيف يشرق قلب صور الأكوان منطبعة في مرآته، أم كيف يرحل إلى الله وهو مكبل بشهواته؟ أم كيف يطمع أن يدخل حضرة الله وهو لم يتطهر من جنابة غفلاته؟ أم كيف يرجو أن يفهم دقائق الأسرار وهو لم يتب من هفواته؟.

     جعل ابن عطاء الله السكندري الإشراق للقلوب، لأنها محتد النور والظلمة، فكل ما قام به ظهر أثره في الجوارح؛ فكل ما ظهر من الآثار الظلمانية الداعية إلى الإغواء فمن المادة الظلمانية، وكل ما ظهر أثره من الشهوة الهوائية فمن المادة النفسانية، وكل ما ظهر من الأعمال السنية والأخلاق النبوية فمن المادة الروحانية، وما كان من الأحوال العرفانية والمقامات القربية فمن الواردات الربانية.

     ولكل أثر باب نافذ إلى القلب، وعرق متصل من القلب إلى النفس، وحركة من النفس إلى القالب، ونور مشرق من الرب إلى العبد (…) فإذا أردت ورود هذه الأنوار، وظهور تلك الأسرار فعليك بتخلية القلب من ظلمات الأغيار،[1] والعزلة المصحوبة بالفكرة -كما جاء في الحكمة السابقة- فيها التخلية عن الأغيار والتفرغُ منها، وبذلك تزول ظلمتها عن القلب فيستنير بأسرار الفكرة، ويُشرق لزوال المانع المضاد، وإذا أشرق أمكن صاحبه السير والارتحال، لأنَّهُ صاحبُ ضوء ونور يدركُ به معاطب الطريق، ويعرف مَحَجَّتَها.[2]

     وتعضد الفكرة بمعضد ولذلك معاملة ومعالجة فمن أنجح المعاملة وأوجز المعالجات عن كشفها عن القلوب، بالذكر التلقيني؛ وهو ذكر النفي والإثبات “لا إله إلا الله” المعهود عند أهله، مع القيام بالوظائف الشرعية.[3]

     وابن عطاء الله أشار في حكمته إلى قياس المعنويات على الحسيات حتى تتضح وتستبين، وذلك أن بصيرةَ القلبِ مرآةٌ لهُ… وقاصد دخول الحضرة في مبدإ أمره بمنزلة من غفل عن نفسه مُدَّةً، حتى اغبر بَدَنُهُ، وطال شعرُهُ، وكَثُرَت أوساخُهُ، وتعلَّقَ به من الأدران والأقذار ما يُشَوِّهُ الخِلقَةَ، ثم إنه سمع بذهاب الناس إلى وليمة الملك في حضرة خاصته، التي فيها وزراؤه وقواده وأكابر دولته، ووجوه الناس وأعيانهم المزيَّنة بنفائس الفرش، والحلل وأنواع الطيب وغير ذلك مما يناسب حضرة الملوك، فأراد الذهاب معهم، فذهب إلى مرآته ليصلح من شأنه ما لا يمكنه الدخول إلا به، فوجدها قد لصق بمائها زفت، أو ذاب عليها شمع لا يمكن معه ارتسام الصور فيها، فلم يمكنه الإبصار، فلما لم يمكنه، لم يمكنه السير ولا الدخول ولا رؤية ما في الحضرة.

والمعنى من امتنعت في حقه الوسائل، كيف يظفر بالمقاصد، والاستفهام في جميع هذه الحكمة إنكاري.[4]

وفي هذا المعنى قيل:

           لا يشرق النور في قلب إذا           بصورة فيه طابع ظلمة العدم

              إلا إذا زال ليل الطبع وانبعثت         بصحبة الذكر ثم الفكر في

وقيل أيضا:

             إن القيود عن الترحال عائقــة         إن شئت فارم قيود الطبـــــــــع

            كُبُولُ شهواتك التي فيك حاكمة        فبادرن وأخرجن عما عليــك

            فكل الأكوان عن مطلبك قاطعة         واقطع عرى الكون واترك من

وقيل كذلك:

            فكيف تطمع أن تدخل لحضرته        ولم تطهر عن الأعراض والجنب

            وكيف تطلب أن تدنو لوصلته         وأنت في غفلة محفوف بالحجب [5]

الهوامش :

[1] “شفاء السقم وفتح خزائن الكِلم في معاني الحكم” لأبي محمد علي بن عبد الله بن أحمد باراس (ت:1094هـ)، دار الحاوي ودار السنابل، ط1/2016م، ص:166.

[2] “شرح الحكم العطائية” لابن زكري، دراسة وتحقيق: العلمي طارق، مرقون، ص:163.

[3] “شفاء السقم وفتح خزائن الكِلم في معاني الحكم” ص:166.

[4] “شرح الحكم العطائية” لابن زكري، ص:164.

[5] “شفاء السقم وفتح خزائن الكِلم في معاني الحكم”، ص:167-170.

Science

ذ. محمد المنصوري

باحث بمركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة بالرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق