مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

حكميات عطائية: إِذَا فَتَحَ لَكَ وِجهَةً مِنَ التَعَرُّفِ فَلاَ تُبَالِ مَعَهَا إِنْ قَلَّ عَمَلُكَ، فَإِنَّهُ مَا فَتَحَهَا لَكَ إِلاَّ وَهُوَ يُرِيدُ أَن يَتَعَرَّفَ إِلَيكَ. أَلَم تَعلَمْ أَنَّ التَعَرُّفَ هُوَ مُورِدُهُ عَلَيكَ، وَالأَعمَالَ أَنتَ مُهديهَا إِليهِ، وَأَينَ مَا تُهدِيهِ إِليهِ مِمَّا هُوَ مُورِدُهُ عَلَيكَ

     إن الفتح وارد ربّاني، ونفس رحماني، وهو أثر من آثار اسمه الفتاح، وهو لأعيان الوجود ومنازلات الشهود مفتاح [1]، مفتاح لمعرفة الله تعالى، إذ أن معرفته سبحانه هي مقصد كل مريد، وهدف كل قاصر، وغاية كل طامع، فالإنسان أيا كان إنما يصل إلى الله تعالى أولا بمعرفته سبحانه، فوجب لذاك معرفة الله تعالى كما تقرر في أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة الأشاعرة، معرفة منزهة عن الحلول والاتحاد والجهة والمماسة والجسمية والشبه… فالمعرفة تسبق العبادة ﴿وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون﴾ [سورة الذاريات، الآية:56]، قال ابن عباس: أي ليعرفون، لأن المعرفة أساس العبادة وعلى قدر ما تكون المعرفة تكون العبادة، فإذا صحت المعرفة صحت العبادة، وإذا صدقت المعرفة صدقت العبادة، وإذا أخلص الإنسان في المعرفة أخلص في العبادة وتحقق بوصف العبودية لله، فيرتقي إلى درجة الإحسان فيعبد الله كأنه يراه ، وهكذا…

     يقول ابن عباد: “معرفة الله تعالى غاية المطالب ونهاية الآمال والمآرب، فإذا واجه الله عبده ببعض أسبابها وفتح له باب التعرف له منها وأوجد له سكينة وطمأنينة فيها، فذلك من النعم الجزيلة؛ فينبغي ألاّ يهتم بما يفوته لسبب ذلك من أعمال البر…” [2]

     والمقصود هنا بفوات أعمال البر، لا تعني فواتها بسبب عمل مستشنع في مقابل العمل المستحسن من طاعة وغيرها، ولكن التفاوت المقصود هنا هو في نطاق أعمال البر لا يخرج عنها.

     ولذلك فمقصود ابن عطاء الله والله أعلم، هو أن المفتوح عليه من عنده تعالى من بعض جهات الفتح -وهي كثيرة- لا يسعه أن يتهاون في أمور العبادات، فالقيام بالواجبات أمر عام لا بد منه لمن اجتباه ولمن لم يجتبه، فقلة العبادة مع أداء الواجبات للمجتبَين لا تضر، وكثرة الطاعات مع أداء الواجبات للمحجوب عن الله تعالى لا تفيد، ولا بد من أداء الواجبات. وقد قال الإمام أبو حامد: «ذرة من أعمال القلوب مِثْل الصبر والرضى والتوكل، أفضل من أمثال الجبال من أعمال الجوارح، قائلا: والمرض لا يمنع من أعمال القلوب إلا إذا كان ألمُهُ غالبا مدهشا» [3].

وحاصل ما أورده ابن عطاء الله السكندري أنه أشار إلى أن المعرفة التي تترتب على الأمر القهري هي غاية المطالب، ونهاية الآمال والمآرب، فإذا نظر العبد إلى ما كان فيه من القطيعة، وما حصل له من بعد من معرفة صفات العبودية، وصفات الربوبية، صارت مرارةُ الأمور القهرية عندَهُ حلاوةٌ، وصارت النِّقَمُ نِعَماً [4].

     وفي هذا المعنى قيل:

من بعد ما يفتح المولى تـعــرفه            فلا تـبـال إذا أقللت فـي الـــعــمــل

فـــما مِن الله الله تظهر فــيـه منته           وما مِن العبد منسوب إلى الخطل

فكل ما منه محفوظ بــلا ريـب             وكــل مــا مـنك لا ينفك عن خلل [5]

الهوامش: 

[1] شفاء السقم وفتح خزائن الكلم في معاني الحكم، لبراس ص:138،دار السنابل، ط1/2016م.

[2] الجكم العطائية، شرح ابن عباد النفزي، ص:107.مركز الأهرام للطباعة والنشر، ط1/1988م

[3] إحياء علوم الدين، الغزالي، (4/359).

[4] شرح الحكم العطائية لابن زكري، مرقون، تحقيق: العلمي طارق.

[5] شفاء السقم وفتح خزائن الكلم في معاني الحكم، ص: 143.

Science

ذ. محمد المنصوري

باحث بمركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة بالرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق