مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

حضور كتاب إحياء علوم الدين في المغرب الوسيط: السياق والاشتغال والتلقي

د.محمد الهاطي

باحث بمركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة

    لا زالت قضية اتصال المغاربة بكتاب إحياء علوم الدين للغزالي إبان الفترة المرابطية وما رافق ذلك من أحداث، يكتنفها الكثير من الغموض، وتلفها الضبابية والتعتيم، مما نتج عنه صدور بعض الأحكام الجاهزة المسبقة والقراءات العفوية الملتبسة، مما يدعونا إلى مزيد تدقيق وتقويم لرفع اللبس وتبين ما أُشْكل حتى يفهم.

    سنحاول من خلال هذه القراءة السريعة الكشف عن خفي الأوهام، وعن دقيق التلبيسات التي انبنت عليها تلك الأحكام الوَاهِمَة المُلْتَبسة، والقراءات الشائعة المنغلقة التي تنظر إلى كتاب الإحياء على أنه شكل مصدر إزعاج وتشويش للوحدة العقدية والمذهبية لدولة المرابطين. لذلك سنجتهد -قدر الإمكان- في أن تكون المنهجية المتبعة في مقاربتنا لهذا المتن، والسياقات المصاحبة لحضوره واشتغاله في المجالين التداوليين المغربي والأندلسي -إبان الفترة الوسيطية- وفق المحددات والضوابط الآتية:

1- التخلص من الأحكام المسبقة الجاهزة التي اعتاد بعض الباحثين استصدارها في حق   كتاب الإحياء وصاحبه.

2- الحرص على استحضار السياقات والملابسات التاريخية المصاحبة لحدث إحراق هذا كتاب من طرف فقهاء الحكم المرابطي.

3-  محاولة فك الحصار على نص الإحياء ومناقشة عمق الإشكال.

    قبل الحديث عن حَدَث اتصال المغاربة بكتاب إحياء علوم الدين، وانتشاره السريع في المجالين المغربي والأندلسي في العصر المرابطي، لابد من التساؤل عن الإرهاصات الأولى التي أسهمت في دخول هذا الكتاب –مبكرا- إلى  نفوذ الدولة المرابطية ومهدت لانتشاره.

   تتحدث المصادر التاريخية عن حصول اتصال مبكر بين أصحاب الرحلات -من علماء الغرب الإسلامي ممن شدوا الرحال إلى المشرق- والعلامة أبي حامد الغزالي؛ ومن أشهر هؤلاء الراحلين إلى المشرق الإسلامي ممن التقوا بالغزالي نذكر :

– الفقيه لأندلسي دفين مدينة فاس أبو بكر بن العربي المعافري الإشبيلي المتوفى عام 543 هـ، ومن طريقه يروي صاحب “إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين” مرتضى الزبيدي كتاب الإحياء[1]

– والصوفي الكبير صالح بن محمد بن عبد الله العثماني الفاسي المشهور بابن حرزهم الذي لقي الغزالي بيت المقدس[2] .

    وممن التقى بالغزالي وروى عنه كتاب الإحياء بمكة المكرمة أيضا: علي بن أحمد بن أبي بكر الكتامي القرطبي نزيل فاس المتوفى سنة 569هـ. وقبله عباد بن سرحان بن مسلم المعافري الشاطبي نزيل طنجة وفاس (تـ543هـ).

    والراجح أن يكون ابن العربي المعافري من أوائل العلماء المغاربة الذين أدخلوا كتاب الإحياء إلى المغرب، كما أشار إلى ذلك الأستاذ عمار الطالبي[3] ، بل هناك من المؤرخين من يتحدث عن دخول نسخ أخرى من نفس الكتاب إلى المغرب ومنها نسخة ميمون بن ياسين الصنهاجي اللمتوني نزيل مراكش الذي حج عام 497هـ.

    معنى هذا أن ثمان سنوات -وهي المدة الفاصلة بين وصول كتاب الإحياء بروايته المغربية وحدث إحراقه- كانت كافية لانتشار هذا النص في شتى بقاع المغرب الكبير.

    يأتي عام 503 هـ؛ وهو التاريخ الذي شهد حدث إحراق كتاب إحياء علوم الدين من طرف علي بن يوسف بإيعاز من بعض الفقهاء وخاصة قاضي قرطبة محمد بن علي بن عبد العزيز بن حمدين (تـ508هـ) الذي أصدر فتوى بإحراق الإحياء وحَرض على جمع نسخه من الآفاق.

    في المقابل انبرى جماعة متميزة من علماء الأندلس والمغرب في العصر المرابطي إلى الدفاع عن كتاب إحياء علوم الدين وصاحبه وشجبوا إحراقه؛ منهم علي بن محمد الجذامي البرجي المري (تـ 509هـ) الذي أوجب تأديب كل من أحرق هذا الكتاب، وكذلك أبو الفضل بن النحوي نزيل فاس وصاحب قصيد “المنفرجة” المشهورة والمتداولة إلى يوم الناس هذا، ومما يرويه صاحب التشوف أنه لما كتب علي بن يوسف بالتجريح على كتاب الإحياء، وتَحْلِيف الناس بالأيمان المغلظة أن ليس عندهم، استفتى علي بن حرزهم الشيخ ابن النحوي في تلك الأيمان، فما كان من أبي الفضل إلا أن كتب إلى أمير المسلمين في ذلك، وأفتى بأن تلك الأيمان لا تلزم، بل نسخ كتاب الإحياء في ثلاثين جزءا وشرع يقرأ جزء منه في يوم من رمضان، وقال: “وددت أني لم أنظر في عمري سواه”[4] .

   ورُوي أيضا في التشوف عن عَالِم آخر بناحية مراكش وهو عبد الله الرجراجي الأغماتي الأوريكي (تـوفي قبل 540هـ) أنه “لما أفتى الفقهاء بمراكش بإحراق كتاب إحياء علوم الدين للغزالي… سأل أبو محمد عن الذين أفتوا بإحراقه، فكان كلما سُمي له واحد منهم دعا عليه…”[5].

   بعد هذه المرحلة التي قوبل فيه نص الإحياء بشتى أصناف القمع والتضييق من طرف سلطات الحكم المرابطي، ولجوء المدافعين عنه إلى المقاومة السرية المتحدية العنيدة، تأتي الفترة الموحدية التي ستشهد انفتحا على الغزالي وإحيائه؛ فعُقِدت له مجالس بكل من مساجد فاس ومراكش، فهذا ابن الرمامة قاضي فاس (تـ567هـ) قد عكف على تدريسه بأحد مساجد فاس. وتذكر المصادر أيضا ما كان من محمد بن إسماعيل الهروي (تـ581هـ) الذي انبرى لتدريس موضوعات الأذكار واستعمالها في تحنثه[6].

  ولم يقف الأمر عند هذا الحد في خدمة كتاب الإحياء بل صنفت حوله العديد من المختصرات والشروح ومنها: “إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين” لمرتضى الزبيدي، و”نظم فصل من مختصر إحياء علوم الدين للغزالي” لعبد الرحمان بن إبراهيم التغرغارتي[7] ، وقبله ألف أبو علي حسن بن علي بن محمد المسيلي الملقب بأبي حامد الصغير كتابا سار فيه منهج الغزالي في الإحياء.

    يجدر بنا التنبيه إلى أن موقف الموحدين لم يكن مدافعا ومتحمسا لكتاب الإحياء ولا منتقدا ومضيقا على أنصاره، بل من الصعب على سلطة الحكم الموحدي أن تقف في وجه الانتشار الصوفي “الواسع والمتغلغل” في أغلب بنيات المجتمع المغربي.

  وهنا نستنتج مدى الحضور القوي والمستمر لنص الإحياء في المغرب الوسيط الذي لم يكن يستند إلى فراغ ولا إلى الصدفة والمجاملة، بقدر ما هو مرتبط بحيوية المشروع الإحيائي وتجدره في الواقع المطلبي الاجتماعي[8].  

بالرجوع إلى نقطة البدء ومرحلة اتصال نص الإحياء بالحكم المرابطي – وما واكب ذلك من صراع ومواجهة بين الفقهاء المرابطين وأنصار “الإحياء”- وصولا إلى حدث إحراق الكتاب وما ترتب عنه من صراع وسجال، يمكن أن نسجل مجموعة من الملاحظات:

أولا: لو سلمنا بأن شيئا ما في الإحياء كان يهدد الوحدة العقدية والمذهبية للدولة المرابطية، مما أزعج فقهاء النظام المرابطي وحكامه، فاضطروا إلى إحراق كتاب الإحياء، كيف يمكن تأويل ما أقدم عليه نظام الحكم الموحدي الذي أعاد الاعتبار للإحياء واعتمده؟ وما السر في إقبال المغاربة عليه مدة اثنا عشر قرنا فعقدوا له المجالس في مساجدهم وزواياهم وحرصوا على حضوره في مروياتهم وأسانيدهم وخزائنهم؟

ثانيا: في سياق إحراق كتاب الإحياء من طرف المرابطين والتضييق على أنصاره كيف يمكن تفسير ما أقدم عليه الموحدون الذين سلكوا نفس السلوك تجاه كتب الفروع الفقهية المالكية؟ ألم يأمر عبد المؤمن بن علي -بعد وفاة ابن تومرت 524هـ- بإحراق كتب الفروع الفقهية المالكية ورَدِّ الناس إلى كتب الحديث فقط [9] بل ألف كتابه الموطأ على غرار موطأ الإمام مالك بعد حذف أسانيده وبقي الأمر كذلك إلى أن جاءت دولة بني مرين التي غيرت المذهب الرسمى للدولة من الظاهرى إلى المالكى بضغط من فقهاء المالكية؟

ثالثا: ما السر في استمرار حركة استنساخ كتاب الإحياء وانتشاره بين الناس رغم التطويق والحضر الصريح والمتشدد المفروض على هذا الكتاب وأنصاره زمن المرابطين؟ ألم يُسهم هذا العناد والتشنج والاضطهاد -القائم على وحدة المصالح المشتركة بين الفقهاء والحكام المرابطين- في تكاثر القراء والأنصار وإقبالهم على نص الإحياء إقبالا منقطع النضير؟

رابعا: فيما يتعلق بمواقف الفقهاء المالكية المرابطين تجاه “الإحياء” بالأندلس والمغرب الأقصى، هل كان هناك إجماع كلي حول حادثة الإحراق أم أن الأمر فيه تباين في المواقف والتصورات؟ ما يلفت النظر في هذا السياق هو ظاهرة الصمت التي طبعت موقف العديد من كبار الفقهاء المالكية تجاه كتاب “الإحياء” في المغرب الوسيط . والذي يتراءى من خلال ما وصلنا من معطيات تاريخية أن هذه القضية في النهاية بالنسبة لهؤلاء الفقهاء لم تكن مجرد قضية عقدية أو مذهبية، بل القضية مرتبطة بأشخاص وأمزجة تحتكر الخطاب والسلطة العلمية فلا يجرؤ أحد على مخالفتهم [10].

خامسا: تُجمع أغلب المصادر المؤرخة للعصر الوسيط، على وقوع مجموعة من التجاوزات والانحرافات من طرف بعض الفقهاء المرابطين باعتبارهم شركاء في السلطة والحكم، وقد لخص عبد الواحد المراكشي أسباب ذلك بقوله: “ولم يزل الفقهاء على ذلك وأمور الناس راجعة إليهم وأحكامهم صغيرها وكبيرها مَوقُوف عليهم طول مدته. فعظم أمر الفقهاء كما ذكرنا وانصرفت وجوه الناس إليهم فكثرت لذلك أموالهم واتسعت مكاسبهم” [11]. وقد يتساءل البعض ما محل كتاب الإحياء من هذا كله؟ فيكون الجواب هو أن صاحب الإحياء قد عانى من نفس الواقع وواكب نفس التطورات بالمشرق الإسلامي، مما اضطره إلى تزعم حركة تصحيحية من داخل النسق الفقهي، فعمد من خلال كتابه الإحياء إلى التمييز من جهة بين “علماء السوء الذين قصدهم من العلم التنعم بالدنيا والتوصل إلى الجاه والمنزلة عند أهلها…وعلماء الآخرة”[12]، ومن جهة ثانية بين المعنى الأصيل المتعالي والمعنى المبتذل المُتَدني للفظ “الفقه”، يقول في هذا الصدد: “ولست أقول إن اسم الفقه لم يكن متناولا للفتيا في الأحكام الظاهرة ولكن كان بطريق العموم والشمول …فبان من هذا التخصيص تلبيس بعث الناس على التجرد له والإعراض عن علم الآخرة … ووجدوا على ذلك معينا من الطبع؛ فإن علم الباطن علم مُضن والعمل به عسير والتوصل به إلى طلب الولاية والقضاء والجاه والمال ومتعذر”[13] . من هنا يمكن أن نفهم عمق المشكل بين الغزالي وفقهاء الحكم المرابطي، وسبب انفرادهم “بموقفهم العدائي” تجاه الإحياء وصاحبه .    

سادسا وأخيرا: إثارة قضية إحراق كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي في الوقت الراهن دليل على مدى فاعلية المشروع الإحيائي وحيويته وتجدد منهجه وتكامله.

 ليبقى السؤال المطروح كيف يمكن استئناف هذا المنهج الراشد والواعي والحكيم لدرء واستيعاب مداخل الفرقة والانقسام المختلفة المحدقة بمجتمعنا المغربي؟

 


[1]  –  ينظر: مقدمة إتحاف السادة المتقين بشرح كتاب إحياء علوم الدين، لمرتضى الزبيدي.

[2] – التشوف إلى رجال التصوف لابن الزيات التادلي مطبعة النجاح  الدار البيضاء، 1404هـ/ 1984 ، ص 8

[3] – “آراء أبي بكر بن العربي الكلامية” للدكتور عمار الطالبي، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع الجزائر، ج 2 ص 290.

[4] – التشوف إلى رجال التصوف ص 9.

[5] – التشوف الترجمة رقم: 33 .

[6] – نفسه ص 118.

[7] NICO VAN DEN BOOGERT : « Catalogue des Manuscrits arabe Et Berbertes du Fonds-Roux (AIX-en-Provence) » 1995 pp :29-75.

[8] – ينظر: رمز الإحياء وقضية الحكم في المغرب الوسيط لمحمد قبلي، مقال ضمن أعمال أبو حامد الغزالي دراسات في فكره وعصره وتأثيره، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، ص 145. 

[9] – الدولة الموحدية بالمغرب في عهد عبد المؤمن بن علي، عبد الله على علام، الطبعة الأولى، دار المعارف مصر  1971، ص 308.

[10]  – للمزيد من التــوسع في هذه المـسألة يمـكن الرجوع إلى كـتاب:

           (La politique de Gazãlî. H. Laoust . pp 115-133(

[11] – المعجب في تلخيص أخبار المغرب لعبد الواحد المراكشي، الطبعة الأولى ، 1947 القاهرة، ص 171.

[12] – الإحياء ج 1 ص 38 -64.

[13] – الإحياء ج 1 ص 38.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق