وحدة الإحياءدراسات عامة

حاجتنا إلى اجتهاد قادر على مواجهة التحديات

لن أحاول في هذا العرض أن أقدم دراسة أكاديمية عن الاجتهاد وخصائصه ومقوماته وشروطه، ومجاله ومجالاته وغيرها، مما يتصل بالاجتهاد كمصدر من مصادر الشريعة الإسلامية، لكون المفكرين والدارسين والباحثين أشبعوا الموضوع دراسة وكتابة وتنظيرا.

كما لا أحب أن أغرق في تلك الشروط والقيود التي قضى بعضهم ردحا كبيرا من الزمن في تسطيرها وتفصيلها، والإلحاح على ضرورة توفر كل من يروم ممارسة حقه في الاجتهاد عليها والاتصاف بها.

وإنما أريد من وراء عرضي هذا أن أثير الانتباه أولا إلى ضرورة العمل الجاد من أجل أن تعود الأمة الإسلامية إلى ممارسة حقها في الاجتهاد، كمصدر تشريعي أغنى وأعطى الكثير، وأجدى على المسلمين في أيام نهضتهم، وجعلهم يلائمون بفضله بين دينهم وحياتهم، ويحقق هذه الخاصية التي امتازت بها شريعتهم وهي صلاحيتها لكل زمان ومكان.

كما أنني أحاول ثانيا التحدث عن الوسائل المؤدية إلى الاجتهاد، والتي تستعمل لتحقيقه والوصول إليه سواء ما عرف منها فيما مضى، أو هذه الوسائل التي استحدثت اليوم والتي تؤدي بلا شك إلى الخير والتقدم والتفوق.

وإنني لألح على ضرورة اتخاذ الوسائل الكفيلة بممارسة الاجتهاد، حتى تعود الحياة الإسلامية إلى مؤسساتنا ومجتمعاتنا، وحتى نقضي على هذه الازدواجية التي طغت على سلوكنا فانحرفت به عن وجهته الصحيحة، وعلى حياتنا فأبعدتها عن الطريق المستقيم، والسلوك القويم، الذي ينبغي أن يلتزمه المسلم فلم نعد في المرتبة العليا التي رفعنا الإسلام إليها، ولم تبق حياتنا إسلامية صرفة، وإنما أصبحنا بين بين، والتحقنا بصفوف المقلدين والتابعين كما تحدث الرسول الكريم بقوله:

“لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قيل: اليهود والنصارى؟ قال: فمن إذن”[1] ولله الأمر من قبل ومن بعد.

إن ما تسبب عن إقفال باب الاجتهاد من قضايا ومشاكل، كان في مقدمتها تخلف المسلمين، وعدم التزامهم بأوامر دينهم، والمتمثل في هذه الازدواجية التي يعيشها عالمنا العربي والإسلامي، القائمة على التزامنا بالإسلام في العبادات، وابتعادنا عنه في أغلب المعاملات وشؤون الحياة، حتى أصبحت هذه الازدواجية، التي يأباها الله ورسوله، طاغية على حياتنا، محاولة القضاء على شريعتنا، نقيم صلواتنا، ونؤدي زكاتنا، ونأتي حجنا، لكن حياتنا تقوم على هاته القوانين المستوردة، التي تبيح ما حرم الله، وتحل ما حرم الله، كانتشار الخمور بيعا وتجارة، وتناولا وتداولا، وفشو الزنا بجميع أنواعه وأشكاله، التعامل بالربا، وفسح المجال لمتعاطيه والمتاجرين فيه والمستغلين، وانتشار دور القمار، وغيرها من المحرمات الأساسية في ديننا، والتي تعتبر دخولها جزءا من ميزانيات أكثر الدول العربية والإسلامية، لقد ترتب على هذه الازدواجية أن أصبح الجيل الحاضر من شباب المسلمين أحد فريقين:

فريق يعتقد أن الإسلام دين عبادات فحسب، وأن المعاملات وشؤون الحياة تنظمها هذه القوانين الوضعية الدخيلة، وهي وحدها الكفيلة بتنظيمها وتقنينها، وهذا المفهوم العكسي للإسلام وروحه ونصه، ناتج عن الغزو الأجنبي لبلادنا وسيادة قوانينه وأوضاعه على حياتنا.

والفريق الثاني وهو المتمثل في شباب الصحوة الإسلامية، والذي ساعدته ظروفه على الإلمام بالثقافة الإسلامية، والتعرف على روح الإسلام ومقاصده، وهذا الفريق هو الذي يؤمن بأن الإسلام دين ودنيا، حكم ونظام، سلوك وقدوة، وهذا الفريق من الشباب هو أمل المسلمين وعدتهم في مستقبل الإسلام، وعودته نقيا صافيا كما كان وكما أنزل، وأنه يجب أن يسود حياتنا في البيت، والمدرسة، والجيش، والشارع، والمحكمة، وفي السلم والحرب، وفي سائر ظروف الحياة، وبالتالي هو قدرنا وحياتنا وهويتنا.

إذن، من هنا تكون الدعوة الصادقة والملحة لضرورة عودة الأمة الإسلامية إلى ممارسة حقها في الاجتهاد، أو عودة الاجتهاد إلى المجتمع الإسلامي للملاءمة بين دينه و حياته، والقضاء على هذه الازدواجية بين العبادات والمعاملات، لاستعادة المسلمين لمكانتهم وريادتهم في الحياة الإنسانية كلها، كما أرادهم الله وأناط بهم مسؤولية الدعوة إلى دينه، إلى كافة الناس في الأرض جميعا[2].

تحرير الإسلام للعقل البشري

لقد رفع الإسلام عن العقل البشري الحجر والوصاية التي فرضتا عليه أزمانا وأحقابا، وأطلقه من إساره وقيوده التي اصطنعها الطغاة واللاهوتيون، وسرحه من جور التقليد والتعقيد إلى عدل الإسلام وحريته، وحرض الإنسان بمختلف صنوف التحريض على التفكير والتأمل، والنظر، واستيعاب عجائب هذا الكون الذي يحيط به، وحمل العقل المسلم هذه الأمانة إلى البشرية كلها، فتفجرت بفضل ذلك ينابيع العلوم والفنون، والإدراك والابتكار، والاجتهاد الذي يعتبر في عرف الإسلام إطلاقا لقوى العقل، وجعل ذلك دينا، فوحد بين حقيقتين ظلتا على مدى الزمن في خصومة حادة، وحد بينهما وجمعهما في إسماح وتآلف، وهما الحقيقتان الدينية والعقلية كما أكد ذلك الإمام الغزالي بقوله:

“الدين عقل من خارج، والعقل دين من داخل” الأمر الذي وحد مفهوم كل الاتجاهات والمدارس الفكرية الإسلامية، سواء كانت عقائدية، أو لغوية، أو غيرهما، إذ هنا تكمن خاصية التطور في الشريعة الإسلامية، يؤكد ذلك ويبينه أن الشريعة الإسلامية التي تستند قوانينها ومبادئها إلى القرآن والسنة كمصدرين أساسيين، لم تنص إلا على بعض الأحكام التفصيلية فيما يخص أو يتعلق بالحدود، والمواريث، وتنظيم الأسرة، ومعنى ذلك أن الإسلام لم يفصل إلا في مبادئ العقيدة والعبادات، وترك مجال المعاملات وهي مجال القوانين في عصرنا الحاضر، فلم يرد في القرآن والسنة إلا المبادئ العامة التي هي أساس كل تقعيد واستنباط واستلهام، وهذا هو السر في هذه الثروة الفقهية الضخمة الثرية التي استنبطها الفقهاء والعلماء على مر العصور، ومنذ ظهور الإسلام، لما استجد من الوقائع في الحياة، ولما عرض ويعرض من القضايا والمسائل، كما امتازت هذه القوانين والقواعد المستنبطة نفسها بكونها متطورة مختلفة من عصر إلى عصر، وفي المذهب الواحد نفسه، باختلاف المجتهدين والأزمنة والأمكنة جميعا[3].

الاجتهاد مظهر صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان

ومن هنا يكون الاجتهاد الذي هو استفراغ الوسع في تحصيل العلم أو الظن بالحكم الشرعي[4]؛ أي استنباط الحكم من دليله، أي استخراج الحكم من الحجة ناشئا عن الملكة[5] يكون في شريعة الإسلام ضرورة حتمية مواكبة لحياة المسلمين لا في عصر دون عصر، ولا في زمان دون زمان، ولكن في كل العصور، وفي جميع الأزمنة، حتى يبقى المجتمع الإسلامي متطورا متجددا يجمع بين المادة والروح، ويلائم بين العبادة والمعاملة، ويعمل فيه المسلم لمعاشه كما يعمل لمعاده، باعتباره النافذة الضرورية في حياة المسلمين، لتجد قضاياهم ومشاكلهم ووقائع حياتهم قواعد وحلولا لها، تطبيقا لخاصية الإسلام وقاعدته الأساسية، وهي صلاحيته لكل زمان ومكان، وباعتباره الدين الخاتم والصالح للإنسانية كلها، وذلك كله لا يتحقق إلا بممارسة الاجتهاد المستمر، يؤكد هذه الحقيقة الإمام الشهرستاني في الملل والنحل بقوله: “إن الحوادث والوقائع مما لا يقبل الحصر والعد، ونعلم قطعا أنه لم يرد في كل حادثة نص ولا يتصور ذلك، والنصوص إذا كانت متناهية والوقائع غير متناهية، وما لا يتناهى لا يضبطه ما يتناهى، علم قطعا أن الاجتهاد والقياس واجب الاعتبار حتى يكون بصدد كل حادثة اجتهاد”.

ويعلل الإمام الخطابي ذلك” بأن الله لو نص على كل حادثة من الحوادث، وكفى الناس مؤونة الاجتهاد والاستنباط لماتت الخواطر، وتبلدت الأفهام، وسقطت فضيلة العلماء، فأمر بين غير خاف، وأيضا فلو جاء التوفيق في كل حادثة تحدث إلى آخر الدهر لاشتد حفظه، ولامتنع على الناس ضبطه، ولأدى ذلك إلى الضيق والحرج عمن أمروا لتعدد عصره، والعجز عن ضبطه وحفظه”.

إن توالي الحوادث والوقائع المستجدة، والمعاملات المستحدثة، وذلك كله من طبيعة الحياة واستمرارها ودوامها، ـ يجعل تلك الحوادث والوقائع كلها محتاجة إلى أحكام وقواعد، وإلى استنباط وإيجاد الحلول الملائمة لها، والوسيلة الوحيدة إلى ذلك هو الاجتهاد الذي هو حياة الأمة الإسلامية، ومظهر حيويتها واستمرارها، والباب الوحيد للملائمة بين دينها وحياتها، واستمراره ضروري لاستمرارها وبقائها: مصداقا لما أكده الشاطبي في “الموافقات”.

“إن الاجتهاد لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع التكليف، وذلك عند قيام الساعة”. ومن هنا كان الاجتهاد واجبا في حق الأمة الإسلامية كما ذهب إلى ذلك أئمة الإسلام، أمثال: الشاطبي، والشوكاني، والبغوي، والعز بن عبد السلام الذي اعتبره ضرورة وطالب الأمة بممارسته حيث يقول:

“إن وقعت حادثة غير منصوصة أو فيها خلاف بين السلف، فلا بد فيها من الاجتهاد من كتاب أو سنة وما يقول سوى هذا إلا صاحب هذيان”.

ومستند المسلمون ودليلهم إلى وجوب الاجتهاد واستمراريته وممارسته، الحديث الشريف الذي وجه فيه الرسول الكريم معاذا عندما بعثه قاضيا على اليمن قال: “كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ فقال: أقضي بكتاب الله.

قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟

قال: فبسنة رسول الله

قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله ولا في كتاب الله؟

قال: أجتهد رأيي ولا آلو.

فضرب رسول الله صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي الله ورسوله”[6].

ومن هنا لم يكن علماؤنا في مختلف عصور الإسلام يترددون أو يحجمون عن الاجتهاد، وعن إلحاق الحكم الشرعي بكل حادثة جديدة عرضت لهم ولم تكن معروفة للسلف، مستدلين على ذلك الحكم استدلالا سليما من أصول الشريعة، بواسطة قواعد الاستنباط التي يرشد إليها علم أصول الفقه، المستمد من كتاب الله الذي هو أصل الأصول التي لا تنتهي إليها أنظار النظار، ومدارك أهل الاجتهاد كما ذهب إلى ذلك الإمام الشاطبي الذي اعتبر المجتهد: هو كل من اتصف بوصفين:[7]

أحدهما: فهم مقاصد الشريعة وكمالها.

وثانيهما: التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها، سواء كان يجتهد لنفسه أم لغيره، مما يعني ضرورة معرفة المجتهد المعاصر للموضوع المستحدث الذي يجتهد في استنباط أحكامه الشرعية.

أي أنه ينبغي الاجتهاد في حسن فهم الأحكام الشرعية القائمة، والتعرف على عللها من أجل حسن تطبيقها على ظروف مجتمعاتنا المعاصرة.

ثم الاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية الجديدة التي تنظم المعاملات المستحدثة، والتي لم يكن للسلف بها عهد، ولم يكن لها في الشرع حكم قائم لازم لا يستغني عنه المسلمون في كل زمان.

الاجتهاد فرض على الأمة الإسلامية

ومن هنا أجمع العلماء وفي مقدمتهم الإمام الشاطبي على القول: بأن الاجتهاد فرض لازم للأمة الإسلامية، واجب عليها، يقوم به الفرد الذي توافرت فيه شروطه، أو كل جماعة إسلامية في كل جيل ممن استكملوا أدوات الاجتهاد، وتهيأت لهم أسبابه من علماء المسلمين، والاجتهاد مرهون بالتكليف، لأنه ضرورة من ضرورات الحياة الإسلامية لابد منها، ولأن الحاجة إليه باقية ما بقيت الحياة، وقد أكد هذه الحقيقة القائمة الثابتة في حياة الأمة الإسلامية الهدي النبوي الشريف بقوله:

“إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها”[8] ولذلك ذهب الإمام الشوكاني إلى القول بناء على هذا التوجيه النبوي الكريم: بأنه لا يصح أن يخلو عصر من وجود مجتهدين كي لا تتعطل الشريعة عن التطبيق، وهذا هو المراد من قوله، صلى الله عليه وسلم، وإرشاده لأمته.

وإذا كان الاجتهاد مرهونا بالتكليف، فهو قائم على المصلحة التي لا تقوم على الهوى، ولا على بناء الحكم الشرعي على ما يستحبه المجتهد دون دليل، وإنما هي المصلحة التي يشهد لها الشرع بالاعتبار، والتي لا تصادم نصوص الشريعة، أي هي المحافظة على مقصود الشارع، والتي ترمي إلى أن تحفظ عليهم نفسهم، ودينهم، وعقلهم، وسلامتهم، ومالهم، كما ذهب إلى ذلك الغزالي في “المستصفى”.

إن مراعاة مصالح الناس هي مقصد الشارع الحكيم، ولذلك لم يتوسع الإسلام في تفصيل أحكام المعاملات المالية والاقتصادية، والنظم الإدارية، والعلاقات الدولية وغيرها لتطور الاجتهاد بتطور البيئة، واختلاف الزمان والمكان وإنما دل على ذلك بوجه عام حتى يكون المسلمون في سعة من استنباط الأحكام، في ضوء المصلحة، ودون حرج، أو خروج على القواعد العامة للشريعة، كما أكد على ذلك الإمام الشوكاني بقوله[9]:

“إن الله لم ينص على جميع الأحكام الشرعية أدلة قاطعة بل جعلها ظنية قصدا للتوسيع على المكلفين” ومن هنا كان تغير الأحكام بتغير المصلحة العامة، كما أكد ذلك ابن القيم قائلا:

“السياسة العادلة جزء من أجزاء الشريعة، إذ جميع الأحكام الناتجة عن الاجتهاد ومراعاة المصالح تتبدل بتبدل الزمان وأخلاق الناس، وهي في الحقيقة مهما تبدلت فإن المذهب الشرعي فيها واحد، وهو إحقاق الحق وجلب المصالح، ودرء المفاسد، وهو ما كان عليه اجتهاد الصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان، قائما على المصلحة العامة، كما هو الشأن في كثير من اجتهاداتهم كالتسعير، فإنه كان منهيا عنه على عهد الرسول الأكرم، ثم أبيح فيما بعد، وكالطلاق الثلاث يعتبر واحدة، ثم اعتبره عمر ثلاثة عقابا للمطلق، وتبعا للمصلحة الظاهرة له آنذاك.

التجديد والتغيير

ولابد هنا من توضيح الأمر بالنسبة لفريقين من الناس، فريق يقف جامدا يأبى كل تطور أو تجديد، ومن ثم يعارض فتح باب الاجتهاد أو ممارسته.

وفريق لا يفرق بين أمر التجديد والتغيير، ويرى هؤلاء أنه لابد من تغيير شامل لما وجدوا عليه أنفسهم وذويهم مجاراة لأحوال العصور، وخضوعا لناموس التطور، معتقدين أن هذا هو التجديد المأمور به والذي لا مندوحة عنه لفرض الوجود وضمان الاستمرار، وأساس الغلط عند الفريقين ينشأ من عدم التفرقة بين المدلولين، فإن التجديد ليس هو التغيير بل التجديد في الدين يكون بإظهاره بالمظهر اللائق، وعرضه على أحسن وجه، وذلك يقتضي المحافظة على جوهره، وعدم تغيير شيء من أوضاعه، وهذا هو المراد بالتجديد الذي يقوم به أولو الأمر من الأمراء والعلماء، كما فعل عمر بن عبد العزيز لما انحرف الناس عن الجادة في بعض أمور الدين، فردهم إليها، وكما فعل شيخ الإسلام ابن تيمية حيث نادى بالرجوع إلى صفاء العقيدة والتمسك بحبلها المتين.

ولما كانت أصول الإسلام هي الكتاب والسنة والإجماع والقياس، تحددت مهمة التجديد وانحصر نطاقه، فما كان من قبيل العبادات أو الأحكام التي نص عليها الكتاب، أو السنة، أو أجمعت عليها الأمة، فالتجديد فيه يكون بالرجوع بالأمة إليه إذا انحرفت عنه أو اتبعت بديلا، أي إذا غيرت منه شيئا وتركت العمل به وبالتالي فلن يكون في العبادات وأحكامها تغيير كالصلاة والحج وغيرها، وكذلك الشأن في أحكام الزواج والإرث، والبيع والإجارة، فمن غير في شيء من ذلك فقد عمد إلى هدم الدين لا إلى تجديده.

أما ما لم يرد به نص ولم يتقرر له حكم فيما سلف، مما يحدث بحكم التطور وتقلب الزمن، فإن على العلماء والفقهاء أن يجدوا له حكما بواسطة قياسه على ما ثبت، وإلحاقه بما عرف، وهذا من التجديد أيضا، لأنه بمقتضى بنائه على أسس الدين وقواعده المعتمدة فيه، يعتبر استمرارا له ونموا على أن التغيير لم يرد في القرآن إلا بمعنى الانحراف والزيغ عن السبيل كما قال تعالى: ﴿إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾ [الرعد: 11]؛ أي لا يمنعهم رفده ولا يحجب عنهم رضاه، إلا إذا بدلوا نعمة الله، وكفروا وارتكبوا ما يستوجبون نقمته وعذابه، ومن ذلك الآية الأخرى: ﴿ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾ [الأنفال: 53] مما يتبين معه أن التجديد هو غير التغيير، وأنه أكثر ما يتعلق بالإحياء، وأساليب التبليغ، وبلورة الأحكام العملية في قوالب تتمسك بالأصالة والعمق الإسلاميين، وتكون في الوقت ذاته منسجمة مع النظرة المتغيرة للإنسان ومتطلبات الحياة، كما أوضح ذلك المرحوم عبد الله كنون[10].

وسائل الاجتهاد

1.الاجتهاد الفردي والجماعي

لقد كان السبب الأساسي في الوصول إلى مرحلة الجمود والتبعية للأجنبي، غياب الشريعة الإسلامية عن منهج الحياة وأسلوبها، حتى إذا جاء القرن الرابع عشر الهجري سلخت من الشريعة كل مجالات المعاملات، ونقل الفكر الغربي إلى البلاد الإسلامية ليكون هو فقه المعاملات الجديد، والناظر إلى الاجتهاد الفقهي من خلال فتاوي دار الإفتاء في الأحوال الشخصية، والوقف، والعبادات، يجدها ثرية غنية، بينما في النظام السياسي والمعاملات، نلجأ إلى أهل المدارس الحديثة، ولو نظرنا إلى كل المؤلفين والباحثين عبر المائة سنة الماضية، لمعرفة ما بذلوا من جهود في هذا المجال، لوجدنا أنفسنا أمام سياق فقهي عظيم، وهذا هو سبب التخلف والجمود، وحالة التصلب الفكرية، التي واجهت أمتنا عندما عزلت الشريعة بفعل فاعل عن الوقائع، وتوقف الاجتهاد العلمي في مجال التجديد الفقهي.

ولا يجب أن نغفل أن هناك مجددين ومجتهدين كثيرين على مر المراحل المختلفة، ولكن لم يكونوا بالقدر الذي يؤصل حركة الاجتهاد، ويصيغ من الشريعة ما يناسب الواقع.

وهذه الجهود امتدت عبر مدرسة القضاء الشرعي، وشيوخ الأزهر وغيرهم أمثال: محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، والمراغي، ورشيد رضا، وعبد الرحمن الكواكبي، ومحمد بن عبد الوهاب، ومحمد الكتاني، وعبد العزيز الثعالبي، وعبد الحميد بن باديس، وسواهم من دعاة التجديد والإصلاح، الذين نبهوا الأمة الإسلامية إلى ضرورة العودة إلى ممارسة حقها في الاجتهاد، للملاءمة بين دينها وحياتها، وكانت حركاتهم وصيحاتهم، وكتبهم ونداءاتهم، الناقوس الذي جلجل في آذان شعوبنا، وأيقظها من سباتها ونبهها من غفوتها، ودفعها للبحث عن نفسها، وتغيير واقعها المرير.

وهكذا لم يخل عصر من العصور، ولا زمن من الأزمنة الإسلامية، من مجتهد من المجتهدين ـ ولو على قلتهم وندرتهم في العصور الأخيرة ـ بسبب تيار الجمود والجحود، الذي طمس نور التجديد والاجتهاد، لكنه لم يستطع القضاء عليه، بفضل الإرادة الثابتة والمصممة لأولئك الرواد، للعودة إلى الاجتهاد، وتجديد أمر الدين، وإذكاء روحه في النفوس والقلوب، عن طريق العودة إلى الأصول، والامتثال للأوامر الدينية، وإحياء القيم الإسلامية.

لقد أكد هؤلاء الرواد أن الاجتهاد ضرورة من ضروريات بقاء الأمة الإسلامية واستمرارها، باعتبار الإسلام دينا يخاطب العقل، ويدعو إلى استعماله، مثنيا في الكتاب الحكيم على أولي الألباب” وعلى “الذين يعقلون” والذين يتفكرون” وأن البقاء والاستمرار للإسلام كدين خاتم، لا يتحققان إلا بهذه الوسيلة، وإلا انقطعت ما بين الدين والحياة من روابط وانفصل أحدهما عن الآخر، وسلكت الحياة طريقا يأباه الإسلام، وهذا يؤدي إلى خمود شعلة الإيمان في القلوب، كما ذهب إلى ذلك الدكتور علي فؤاد باشكيل من الرواد المعاصرين الأتراك، في بحثه عن الاجتهاد باعتباره مفتاح قضية المسلمين.

لذلك لم يكتف هؤلاء العلماء والرواد بدعوة الأمة إلى ممارسة حقها في الاجتهاد، بل مارسوه هم أنفسهم سواء عن طريق الفتوى، أو عن طريق كتابتهم وأجوبتهم، لما يعرض عليهم من مشاكل العصر ووقائعه، ناهيك بفتوى الشيخ محمد الكتاني الشهيد في أوائل القرن الماضي عن الجنسية، والتجنس، حيث ذهب إلى تكفير المتجنسين من المسلمين، باعتبار المتجنس يستظل بظل الكافر، ويحتمي بحماه: مستدلا على ذلك بالآية الكريمة: ﴿ولن يجعل الله للكافرين على المومنين سبيلا﴾ [النساء: 141]، لقد كانت هذه الفتوى الاجتهادية العظيمة ضربة كبرى لسلاح خطير، وشر مستطير، أخذ يستشري في المجتمعات الإسلامية، ويمهد لاستعمارها، بتخطيط وتصميم من لدن أعداء المسلمين، واستطاعت هذه الفتوى أن تقف في وجه تيار التجنس، وتقضي عليه، مما دعا كثيرا من علماء المسلمين في تونس والجزائر والشام ومصر وغيرها، إلى الاقتداء بها ونشرها، والعمل بما جاء فيها، ومما جعل فتوى تحريم جنسية غير المسلمين عملا تجديديا اجتهاديا رائعا، جمع بين الأصالة والتجديد، في وقت كانت الأمة الإسلامية في حاجة إليها.

وكفتوى المرحوم عبد الله كنون الذي كان لا يرى الإحرام بالطائرة، وإنما يحرم من جدة بناء على الحديث الشريف “هن لهن؛ (أي المواقيت) ولمن أتى عليهن إلى يوم القيامة”[11] وكان يشاركه الرأي في هذا الموضوع العلامة المرحوم الشيخ الطاهر بن عاشور.

كما نجد فتاوى اجتهادية عظيمة للشيوخ الأفغاني وعبده، ورشيد رضا، والكواكبي، وذلك من أهم الوقائع والأحداث التي كانت جارية في عصرهم، غير أن هذه الاجتهادات الفردية لم تعد متفقة مع عصر الصحوة الإسلامية، وتعدد دول الإسلام، واختلاف أنظمة حكمها، وتعدد أساليبه، وحاجة المسلمين في جميع أنحاء العالم الإسلامي، إلى آراء وفتاوى موحدة في شؤون دينهم ودنياهم.

2.الاجتهاد الجماعي  

لقد عرفت العقود الأخيرة من القرن الهجري الماضي أنواعا من الاجتهاد الجماعي، صدرت عن الهيئات العلمية والروابط الإسلامية، والجمعيات الفكرية، في مختلف دول الإسلام، وكانت هذه الفتاوى صدى لدعوات المصلحين للعودة إلى الاجتهاد، وذلك مثل الفتاوى الصادرة عن الأزهر الشريف، والمجمع الفقهي بمكة المكرمة، ورابطة علماء المغرب، والمجلس الإسلامي الأعلى بالجزائر وغيرها.

إلا أن هذه الفتاوى أو بعضها اصطدمت بمعارضة الهيئات الإسلامية المختلفة، كما وقع في فتوى المجلس الإسلامي الأعلى بالجزائر، بجواز استبدال ذبائح الهدي بثمنها، عندما قرر المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي سنة 1395ﮪ عدم جواز ذلك ردا على الفتوى المذكورة، ولم يعد الزمان زمن الفرد، بل أصبح العصر مطبوعا بطابع الجماعة، كما أن الحكم لم يعد للفرد، بل غدا الحاكم شخصا معنويا ينبثق من روح الجماعة، وهذا هو منطق الإسلام، إذ كان أول من ندد بالاستبداد، وحمل على الطغيان، وأنشأ نظام الشورى، وجعل يد الله مع الجماعة، ودعا إلى الاعتصام الجماعي بحبل الله ﴿واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا﴾ [آل عمران: 103].

كما كان من نتائج وآثار الصحوة الإسلامية التي تعتبر ظاهرة العصر في العالم الإسلامي، شعور المسلمين بالذنب إزاء الفرقة التي أصابت شعوبهم، وبددت كلمتهم، وشتتت صفوفهم، حتى أصبحوا دويلات لا حول لها ولا طول، بالرغم من موقعهم الاستراتيجي، وإمكاناتهم المادية والطاقية، وكثرة عددهم، حتى أصبحت الوحدة اليوم، هدفهم وغايتهم لكي يصبح أمرهم بيدهم.

مجالات معاصرة للاجتهاد

لقد أخطأ من قال: إن باب الاجتهاد أغلق، أو دعا إلى إغلاقه، متذرعا بشتى الوسائل والأسباب، ذلك أن نشاط الفتوى لم ينقطع أبدا طوال تاريخ الفكر الإسلامي وما زال المفتون في جميع أنحاء العالم الإسلامي يجيبون المتسائلين، ويصدرون فتاويهم في كل حين، وكذلك ظل القضاء الشرعي قائما مستمرا، إذ استمرت الأحكام الشرعية تتوالى في الصدور، وهي مثل الفتوى، دائما، تحمل بين طياتها الجديد، الذي يحل مشاكل الناس، ويفصل في منازعتهم، مثلما تطمئن الفتاوى المستفتين المسلمين، وتهديهم إلى ما ينبغي عمله وتطبيقه، وإنما الذي توقف أو كاد هو الاجتهاد الجماعي نظرا لحال الدول الإسلامية وتفرقها، واختلاف أنظمتها، وقلة العلماء والمجددين والمفكرين، وانحسار دورهم بسبب الاستعمار الذي غزا دولنا بجيوشه ونظمه وقوانينه، وعاداته الغريبة عن مجتمعاتنا وكياننا، وعمل على عزل الدين عن الدولة، فقامت هذه الازدواجية التي ما زلنا نعاني منها في حياتنا، بالتزام الإسلام وتطبيقه في العبادات، والابتعاد عنه في ميدان المعاملات، التي تعتبر في نظر الإسلام روح الحياة وأساسها، لقيام العلاقات الإنسانية عليها، من باب تقليد المغلوب للغالب كما ذهب إلى ذلك ابن خلدون[12]، واستبدلنا مؤسساتنا الدينية ونظمنا الإسلامية، بهذه المؤسسات والنظم التي تقوم كلها على الربا والاستغلال، كالبنوك بأنواعها المختلفة، والبورصات، ومؤسسات التأمين والقرض، والقمار وغيرها، مما يتعارض مع أسس ديننا وأحكامه، وهذه في رأيي ومثيلاتها هي المجالات المعاصرة التي ينبغي أن تتصدى لها جهود وعمل الفقهاء والمجتهدين والمفكرين في العالم الإسلامي اليوم، حتى ترتفع هذه الازدواجية بين العبادات والمعاملات، وهذا التناقض من حياة المسلمين، الذين أخذ شعورهم بالذنب يتعاظم من جراء ذلك، بفضل روح الانبعاث التي أخذت تنمو فيهم، وانتشار التعليم والثقافة، وعودة الوعي لتصحيح المسار، ومحاولات بعض الدول مراجعة تشريعاتها وتنظيماتها، على هدي الكتاب والسنة، وظهور بعض المؤسسات الإسلامية التي تساعد على ذلك، وإن كانت قاصرة ففي تكوينها وعملها، وعدم الالتزام بضمان تنفيذ قراراتها، كمحاولة مجمع البحوث الإسلامية الذي بدأ دراسة التأمين بأنواعه لمعرفة مدى اتفاقه أو اختلافه مع أحكام الشريعة الإسلامية، ومن العجيب أنه بدأ تلك الدراسة والمناقشة منذ أزيد من عشرين سنة، وما زال إلى الآن لم يصل إلى حل أو نتيجة مرضية، وهذا في رأيي هو عين القصور، وإلا فلا معنى أن يجتمع عشرات العلماء والمفكرين من أنحاء مختلفة لدراسة موضوع بعينه، ولم يصلوا فيه إلى حل بالتحريم أو بالإباحة، حتى يستريح المسلم في عالم اليوم من هذه المعاناة، وهذا الشعور الذي أخذ يطغى وينتشر، بسبب الإيمان بشيء، وإلزامه بتطبيق شيء آخر يعتقد حرمته.

وننوه هنا بالمبادرة الطيبة المتمثلة في شركة التأمين الإسلامية المحدودة، التي أنشأها بنك فيصل الإسلامي السوداني بالخرطوم، برأسمال طرح للمساهمين شريطة عدم إفادتهم من فائض عمليات التأمين وإنما يعود عليهم عائد استثمار رأس المال”[13].

إن مؤسسات التأمين في أغلب أنواعها تقوم على وسائل وأنظمة يطبعها الغرر والغبن والربا، كما أنها لا تخلو من شبهة المقامرة، وتتنافى في أعمالها مع طرق الكسب الطبيعية والمشروعة، ولذلك اختلفت آراء وأنظار العلماء فيها، مما يحتم توحيد الرأي حولها بما يتفق وروح الإسلام وتعاليمه.

ومثل التأمين بجميع أنواعه من تعاوني وتجاري وغيرهما، نجد مؤسسة أخرى تطغى على مرافق مجتمعنا، وتستقطب نشاطه، وهي البنوك القائمة على الربا والاستغلال، والتي شهد هذا الجيل محاولة جادة لتغييرها، وإحلال البديل محلها، بقيام البنوك الإسلامية التي تقوم على أساس الشريعة الإسلامية وهديها، والتي أثبتت تجربتها ومصداقيتها ونجاحها، حتى امتد نشاطها إلى أوروبا بالرغم من بعض سلبياتها، ويوجد الآن حوالي ثلاثين بنكا ومؤسسة مالية إسلامية منتشرة في أرجاء العالم، إلى جانب مؤسسات أخرى يتم إنشاؤها في كثير من الدول الإفريقية والآسيوية، وفي الدوائر المالية والدولية الرئيسية، خاصة وأن هدف المصرف الإسلامي هو التوفيق بين ممارسة النشاط المصرفي في العصر الحديث، وبين الشريعة الإسلامية، وأن يوفر للمسلم وسائل استثمار مدخراته وفق أحكامها.

إن هذه التجربة الناجحة تؤكد أن المسلمين يستطيعون، ـ إن هداهم الله وأرادوا ـ أن يقيموا في دولهم مؤسسات مالية واقتصادية تتفق ومبادئ دينهم، ويكون لها الأثر الأكبر في حياتهم، وحبذا لو سارعت الدول الإسلامية إلى تبني هذه التجربة الرائدة، ودعمها ونشرها وتوسيعها، اقتداء بالدول التي تبنتها واعتمدتها، بعد التحقيق منها ودراسة نظمها والتأكد من نتائجها، كذلك نجد البورصات باعتبارها أسواقا مالية لتحديد قيم السندات والأسهم، وكافة الأوراق المالية، نجدها مجالا آخر ينبغي أن يستهدف نشاط الاجتهاد ومجالاته، وكذا الأمر بالنسبة لمؤسسات القرض بجميع أنواعها وأصنافها لاضطرار المسلمين للتعامل معها، واستعمال أموالها، والعقود الاقتصادية الحديثة كعقد التوريد، والبيع بما يسفر عليه سعر البورصة، وبيع العقار قبل بنائه حسب المخطط، الشفعة فيما يقبل القسمة، وثبوت هلال رمضان برقيا أو هاتفيا، وأطفال الأنابيب، وقطع الغيار البشرية، كاستبدال القلوب والكلي والعيون، وزراعة الأنسجة، وبنوك الحليب، والأطعمة المستوردة من البلاد الأجنبية، والتنظيم العائلي أو تحديد النسل، واستعمال الحاسوب في جمع القرآن والسنة تسهيلا للاستدلال بهما، ووضع الودائع في البنوك الأجنبية وحكم الفوائد عنها، كل ذلك يدعونا إلى التفكير الجدي، والعمل المستمر، ورعاية هذه المحاولات الفكرية والجماعية، في مجالات مهمة تستقطب حياة المسلمين، لما لها من مساس بدولهم وأنظمتهم، وتأثير في حياتهم ومجتمعاتهم، إنها تحتاج إلى رأي جماعي، واجتهاد موحد تقوم به مؤسسة إسلامية، تجمع أهل الرأي وعلماء الإسلام في مجمع واحد، يتفرغ لدراسة هذه الأمور، واستخراج الحكم المناسب لها، وتقديم البدائل والحلول المتفقة مع مقاصد الإسلام وروح الشريعة، والملائمة في نفس الوقت مع ما تقتضيه ظروف الحياة وروح العصر، وذلك بإقرار ما هو صالح ومتفق مع الشريعة، وإلغاء ما يتعارض مع أحكامها، حتى تستقيم حياتنا، وتنتظم أمورنا.

مجمع الاجتهاد للعالم الإسلامي

ومن هنا أخذت الحاجة إلى مؤسسة اجتهادية جماعية، تضم جميع ممثلي دول الإسلام وشعوبه، تتدارس أحداث المسلمين ومشاكلهم، وتتلمس لها الحلول والقرارات، وقد عرف منطلق القرن الهجري الماضي دعوة كريمة من عالم مسلم كبير هو بديع الزمان سعيد النورسي من أجل إنشاء” مجلس شورى للاجتهاد” كما أكده وأوضحه في كتابه “الاجتهاد في العصر الحاضر”.

وكم يكون لي الشرف أن أبادر بدوري إلى تجديد هذه الدعوة الكريمة من على هذا المنبر الإسلامي الكريم، والمسلمون أشد ما يكونون حاجة إلى الوحدة سياسيا وفكريا وتشريعيا، خاصة وأن هذا المجلس سيكون أوسع وأشمل وأكثر اختصاصا من هاته المجالس والمجامع الموجودة في العالم الإسلامي، والتي تعتبر بدورها طريقا ورافدا لهذا المجلس.

– ولهذا أقترح إنشاء مجمع الاجتهاد للعالم الإسلامي، ويعتبر هذا المجمع العقل المدبر، والدماغ المفكر، في العالم الإسلامي كله، لانتظام سائر الدول الإسلامية فيه، ويتكون من:

  1. ممثلين لكل دولة إسلامية بنسبة 3-5 من كبار علمائها المرموقين، ذوي الكفاءة والاقتدار.
  2. يختص هذا المجمع بالنظر في سائر قضايا المسلمين ومشاكلهم، وجميع ما يتصل بحياتهم الفكرية والسياسية والدينية، وتوحيد الرأي فيها، والاجتهاد في شأنها، وإصدار القرارات الموافقة لأحكام الشريعة ومقاصدها.
  3. يكون أعضاء المجلس متفرغين لعملهم المتواصل بالمجمع الذي يعقد دورات فصلية، تختم كل سنة بدورة عامة تعلن فيها قراراته.
  4. تصدر قراراته بالأغلبية المطلقة لأعضائه.
  5. يكون للمجمع مقر بمكة المكرمة، أو بأية عاصمة إسلامية أخرى يتفق عليها الأعضاء المؤسسون، ويشرف على تسييره وإدارته، رئيس وهيئة منتخبة من بين أعضائه بالتناوب مرة كل سنتين.
  6. يكون ممثلو كل دولة فروعا للمجلس في كل دولة إسلامية، تكون أداة وصل بينها وبين المجمع، تتلقى المشاكل والمسائل، وتحيلها على المجلس للبث فيها.
  7. تلتزم الدول المشاركة في المجتمع بتطبيق قراراته، والعمل على تنفيذها، واحترامها، وعدم مخالفتها.
  8. يصدر المجمع مجلة دورية أو سنوية تنشر قراراته باللغات المنتشرة في العالم الإسلامي.

وأخيرا، أحب أن أنوه بأن أسباب الاجتهاد، اليوم، أسهل وأيسر منها فيما قبل، وذلك بفضل تدوين علوم القرآن والسنة، ومعرفة حالة الرواة، واستقرار علم الأصول، ومعرفة طرق الاستنباط المعتمدة، مما يجعل أغلب العقبات ـ التي اعترضت المجتهدين في السابق ـ مهدت الآن وأزيلت.

كما أن المصادر الرئيسية للأحكام الشرعية، قد استنبط منها الفقهاء الأوائل، جل ما يمكن استنباطه من أحكام شرعية مستحدثة، إذ أن الاستنباط في عصرنا يمكن عن طريق الأصول المكملة كالقياس، والمصالح المرسلة، والاستحسان وغيرها.

﴿يأيها الذين ءامنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم﴾ صدق الله العظيم.

انظر العدد 9 من مجلة الإحياء

حاجتنا إلى اجتهاد قادر على مواجهة التحديات

الهوامش

  1. رواه الحاكم في مستدركه وانظر مختصر شرح الجامع الصغير للمناوي 2/206، طبع دار إحياء الكتب العربية، مصر، سنة 1373/1954.
  2. راجع تفصيل الموضوع في بحثنا عن “الاجتهاد مظهر الأصالة والمعاصرة في الفكر الإسلامي” في كتابنا” معالم إسلامية”، ص186-187.
  3. انظر تفصيل الموضوع في بحثنا” الحاجة إلى الاجتهاد اليوم ومجالاته” مجلة كلية الشريعة ـ جامعة القرويين ـ فاس ص27-40 العدد 13-14-1404/1984.
  4. الموافقات 4/59.
  5. الاجتهاد والتقليد ـ رضا المصدر ص21، دار الكتاب اللبناني، سنة 1976.
  6. رواه أبو داود في سننه 3/303، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، مطبعة مصطفى محمد، القاهرة.
  7. راجع تفصيل ذلك في كتابه” الموافقات” 4/1404 وما بعدها.
  8. رواه أبو داود في سننه، والحاكم في مستدركه، والبيهقي في معرفة السنن والآثار، والخطيب في التاريخ وغيرهم عن أبي هريرة.
  9. راجع ذلك في كتابه “إرشاد الفحول”.
  10. منطلقات إسلامية، عبد الله كنون، ص160-164.
  11. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحج، باب مهل أهل مكة للحج والعمرة، طبعة دار الفكر، 2/142.
  12. راجع المقدمة لابن خلدون، ص147، الطبعة الرابعة، دار إحياء التراث العربي، لبنان.
  13. الإسلام والتأمين للدكتور محمد شوقي الفنجري “مجلة العلوم الاجتماعية”، العدد الأول، السنة الحادية عشرة مارس 1983، الكويت، ص188.
Science
الوسوم

د. يوسف الكتاني

أستاذ علم الحديث، كلية الشريعة

جامعة القرويين-فاس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق