مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراثشذور

جواب في معنى الفتوى وصفة المفتي

سأل الفقيه الأستاذ النبيه أبو العباس أحمد بن محمد الطنجي المري رحمه الله أبا الوليد ابن رشد عن شأن الفتوى والمفتي، فقال: «بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على محمد وآله وسلم تسليما (…)

المسألة الأولى من المسائل المذكورة في السؤال أولا: تذاكر جماعة ممن ينتسب إلى العلوم، ويتميز عن جملة العوام بالمحفوظ والمفهوم شأن الفتوى والمفتي، وكلهم يشير إلى نفسه بالاستحقاق، وإلى أبناء جنسه بالإخفاق، وأكثروا الخوض في الاجتهاد والتقليد، والفرق بين الذكي والبليد، وفي من التفّت عليه أطراف تلك الساعة من لا يسلم لواحد من تلك الجماعة فقال: الفتوى على الإطلاق محظورة وغير محظورة، والتي هي غير محظورة إظهار الأحكام الشرعية بالانتزاع من الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، والفائز بهذه الرتبة هو الفقيه النّظّار، وليست الفتوى بالفقه المشهور، ولكنها ثمرة معرفة الفقه، فأما الحافظ الذاكر لما في أمهات مسائل مذهبه من الأحكام الشرعية؛ فهو الفقيه المقلد، وقد اختلف العلماء في جواز فتواه، وذلك بشرط أن يكون له من الذكاء والفطنة وسلامة القريحة ما يميز به فيما هو موجود في أمهات مسائل المذهب بين ما هو من المذهب، وما ليس من المذهب، ويميز في المذهب بين ما هو مجمل، وما هو مفسر، ويميز في الروايات بين ما هو خلاف قول مالك، وما هو خلاف حال، وما هو خلاف لفظ، وبين ما ينبني من الروايات، وبين ما لا ينبني.

وبالجملة فالمقصود أن يحصل عنده أصل المذهب منقولا بوجه صحيح، وأن يحصل له في كل ما له أن يفتي به من المذهب يقين أو ظن غالب، فإذا نزلت نازلة، وأفتى من هذه صفته بما وجد في كتب مذهبه من مذهبه بالفتوى التي هو عالم بأنها هي المشتملة على حكم النازلة بعلم قاطع، أو ظن غالب لم ينتزع ذلك من الكتاب، ولا من السنة، ولا من الإجماع، ولا من الاعتبار فتلك الفتوى هي فتوى التقليد، وذلك المفتي هو الفقيه المقلد، والذي في حفظي عن مذهب مالك ـ رحمه الله ـ أنه لا يجوز فتواه على الإطلاق، وبه قال جمهور العلماء خلافا لأحمد بن حنبل ومن أخذ بقوله، ولا بد للرجلين ـ يعني النظار والمقلد ـ من الورع في فتواه حتى لا يفتي واحد منهما في حق جميع الخلق إلا بما هو الحق عنده.

فأما الفقيه المقلد إذا لم يكن له من الذكاء والفطنة، وكمال القريحة والفطرة ما يميز به ما ذكرناه من الوجوه فليس للفتوى إليه طريق، ولا له في أربابها فريق، فإذا تعرض للفتوى فقد تعرض لما لا ينبغي، ولعله من الجهال المشار إليهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يقبض العلم من الناس انتزاعا، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبقَ عالم اتخذ الناس رؤوساً جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا».

هذا معنى ما وقع في المجلس المذكور، وفيه زيادة تكميل وبيان، فلما سمعته الجماعة المذكورة أنكرته إنكارا، واعتقدت صاحبه حمارا، وزعم بعضهم أن هذا المذهبَ محال، لأن الأحكام ضرورية الوجود في كل مرة، والإمام النظار لا يوجد البتة، أو يوجد قليلا جدا لا يمكن أن يعم بفتواه جميع أقطار المذهب الواحد، قال: وقد زعمت أن فتوى التقليد لا يجوز في مذهب مالك، وأن فتوى الثالث لا يجوز في مذهب أحد، فالحاصل عن ذلك أن أقطار مذهب مالك ـ رحمه الله ـ قد عمها ما لا ينبغي، واستولى عليها الباطل لعلمنا أنه ليس فيها إمام نظار.

قال صاحب الكلام الأول: هذه مغالطة بعد ظهور الحق، إن الله سبحانه لا يضع الخلق عبثا، ولا يجعل الحق خبثا، وما دامت الشريعة لازمة الخطاب للأمة فلا بد لها من إمام، وفي عصرنا جماعة منهم الفقيه الأجل أبو الوليد بن رشد، أدام الله توفيقه في أقطارنا هذه، فهو إمام الوقت، والحجة على المستفتين، وتفرق المجلس، فالرغبة إليه أعلى الله كلمة الحق بلسانه، وميز رجحانها في ميزانه أن يبين لنا ما في المجلس المذكور من الغلط إن كان، وهل هو جار على أصول مذهب مالك ـ رحمه الله ـ أو لا؟ وتمام ذلك أن يذكر لنا صفة المفتي الذي ينبغي أن يكون عليها في عصرنا هذا، وعلى طريقة أصول المذهب.

وبالجملة بَيّن لنا ما هو اللازم في مذهب مالك لمن أراد في وقتنا أن يكون مفتيا بمذهب مالك؟ وكيف الحكم في القاضي إذا كان ملتزما للمذهب المالكي، وليس في قطره من نال درجة الفتوى، ولا هو في نفسه أهل للفتوى، هل تمضي أحكامه، وفتاويهم (كذا) على الإطلاق، أو ترد على الإطلاق، أو يختلف الجواب وينقسم، وكيف الحكم إن رفع أمره إلى الوالي الأعلى في قطر من الأقطار الصغار التي لا تشتمل على مبرز في الفتوى أن من فيه من الحاكم والفقهاء بالصفة المذكورة؟ هل يقبل قوله، وينظر في كشف ما قاله، أو يرد قوله ولا يلتفت إليه؟ بيِّن لنا بطولك ذلك مأجورا مشكورا إن شاء الله تعالى.

نص الجواب:

فأجاب ـ رحمه الله ـ بما هذا نصه:

«تصفحت ـ أرشدنا الله وإياك إلى الصواب برحمته ـ جميع ما سألت عنه، ووقفت على ما استفتحت به السؤال من أن جماعة ممن ينتسب إلى العلوم، ويتميز عن جملة العوام بالمحفوظ والمفهوم تذاكروا شأن الفتوى والمفتي فاختلفوا في معنى الفتوى، وصفة المفتي، والذي أقول به في هذا: إن الجماعة التي ذكرت أنها تنتسب إلى العلوم، وتتميز عن جملة العوام بالمحفوظ والمفهوم تنقسم إلى ثلاث طوائف:

طائفة منهم اعتقدت صحة مذهب مالك تقليدا بغير دليل، فأخذت أنفسها بحفظ مجرد أقواله وأقوال أصحابه في مسائل الفقه دون أن تتفقه في معانيها؛ فتميز الصحيح منها من السقيم.

وطائفة اعتقدت صحة مذهبه بما بان لها من صحة أصوله التي بناه عليها؛ فأخذت أنفسها أيضا بحفظ مجرد أقواله وأقوال أصحابه في مسائل الفقه، وتفقهت في معانيها فعلمت الصحيح منها الجاري على أصوله من السقيم الخارج عنها إلا أنها لم تبلغ درجة التحقيق لمعرفة قياس الفروع على الأصول.

وطائفة اعتقدت صحة مذهبه بما بان لها أيضا من صحة أصوله، فأخذت أنفسها بحفظ مجرد أقواله وأقوال أصحابه في مسائل الفقه، ثم تفقهت في معانيها، فعلمت الصحيح منها الجاري على أصوله من السقيم الخارج عنها وبلغت درجة التحقيق بمعرفة قياس الفروع على الأصول بكونها عالمة بأحكام القرآن، عارفة بالناسخ منها من المنسوخ، والمفصل من المجمل، والخاص من العام، عالمة بالسنن الواردة في الأحكام، مميزة بين صحيحها من معلولها، عالمة بأقوال العلماء من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من فقهاء الأمصار، وما اتفقوا عليه، أو اختلفوا فيه، عالمة من علم اللسان ما تفهم به معاني الكلام، بصيرة بوجوه القياس، عارفة بوضع الأدلة فيها مواضعها.

فأما الطائفة الأولى فلا يصح لها الفتوى بما علمته وحفظته من قول مالك، أو قول أحد من أصحابه، إذ لا علم عندها بصحة شيء من ذلك، وإذ لا تصح الفتوى بمجرد التقليد من غير علم ويصح لها في خاصتها إن لم تجد من يصح لها أن تستفتيه أن تقلد مالكا، أو غيره من أصحابه فيما حفظته من أقوالهم، وأن تعلم من نزلت به نازلة بما حفظته فيها من قول مالك، أو قول غيره من أصحابه؛ فيجوز للذي نزلت به النازلة أن يقلده فيما حكاه له من قول مالك في نازلته، ويقلد مالكا في الأخذ بقوله فيها، وذلك أيضا إذا لم يجد في عصره من يستفتيه في نازلته فيقلده فيها، وإن كانت النازلة قد علم فيها اختلافا من قول مالك وغيره فأعلمه بذلك كان حكمه في ذلك حكم العامي إذا استفتى العلماء في نازلته فاختلفوا عليه فيها، وقد اختلف في ذلك على ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه يأخذ بما شاء من ذلك.

والثاني: أنه يجتهد في ذلك فيأخذ بقول أعلمهم.

والثالث: أنه يأخذ بأغلظ الأقوال.

وأما الطائفة الثانية فيصح لها إذا استفتيت أن تفتي بما علمته من قول مالك، أو قول غيره من أصحابه إذا كانت قد بانت لها صحته كما يجوز لها في خاصتها الأخذ بقوله إذا بانت لها صحته، ولا يصح لها أن تفتي بالاجتهاد في ما لا تعلم فيه نصا من قول مالك، أو قول غيره من أصحابه، وقد بانت له صحته؛ إذ ليست ممن كمل لها آلات الاجتهاد التي يصح لها به قياس الفروع على الأصول.

وأما الطائفة الثالثة؛ فهي التي تصح لها الفتوى عموما بالاجتهاد والقياس على الأصول التي هي الكتاب والسنة وإجماع الأمة بالمعنى الجامع بينها وبين النازلة، أو على ما قيس عليها إن عدم القياس عليها، أو على ما قيس عليها إن عدم القياس عليها، أو على ما قيس عليها.

ومن القياس جلي وخفي، لأن المعنى الذي يجمع بين الفرع والأصل قد يعلم قطعا بدليل قاطع لا يحتمل التأويل، وهو على وجوه، وقد يعلم بالاستدلال فلا يوجب إلا غلبة الظن، وهو أيضا على وجوه، ولا يرجع إلى القياس الخفي إلا بعد عدم الجلي.

وهذا كله يتفاوت العلماء في التحقق بالمعرفة به تفاوتا بعيدا، وتفترق أحوالهم أيضا في جودة الفهم لذلك، وحدة الذهن فيه افتراقا بعيدا، إذ ليس العلم الذي هو الفقه في الدين بكثرة الرواية والحفظ، وإنما هو نور يضعه الله حيث شاء، فمن اعتقد في نفسه أنه ممن تصح له الفتوى بما أتاه الله عز وجل من ذلك النور المركب على المحفوظ المعلوم جاز له إن استفتي أن يفتي، وإذا اعتقد الناس ذلك فيه جاز أن يستفتي، فمن الحظ للرجل ألا يفتي حتى يرى نفسه أهلا لذلك، ويراه الناس أهلا على ما حُكي عن مالك، عن ابن هرمز أشار بذلك على من استشاره السلطان فاستشاره في ذلك، وقد أتى ما ذكرناه على ما سألت عنه من بيان ما جرى في المجلس من غلط إن كان، ومن صفات المفتي التي ينبغي أن يكون عليها في هذا العصر، إذ لا تختلف في صفات المفتي التي يلزم أن يكون عليها باختلاف الأعصر.

وأما السؤال عن بيان ما هو اللازم في مذهب مالك لمن أراد في هذا الوقت أن يكون مفتيا على مذهب مالك فإنه سؤال فاسد، إذ ليس أحد بالخيار في أن يفتي على مذهب مالك، ولا على مذهب غيره من العلماء؛ بل يلزمه ذلك إذا قام عنده الدليل على صحته، ولا يصح له إن لم يقم عنده الدليل على صحته.

والسؤال عن الحكم في القاضي إذا كان ملتزما للمذهب المالكي، وليس في قطره من نال درجة الفتوى، ولا هو في نفسه أهل للفتوى قد مضى القول عليه فيما وصفناه من حال الطائفة التي عرفت صحة مذهب مالك بما بان لها من أصوله، وتفقهت فيما حفظته من أقواله فعرفت الصحيح منها من السقيم، ولم تبلغ درجة التحقق بمعرفة قياس الفروع على الأصول، لأنه لا يكون ملتزما للمذهب المالكي إلا بما بان له من صحة أصوله التي بُني عليها، ولأنه إذ لم يكن في نفسه أهلا للفتوى فإنما ذلك من أجل أنه لم يبلغ درجة التحقق بقياس الفروع على الأصول، فسبيل هذا القاضي مما تمر به من نوازل الأحكام التي لا نص عنده فيها من قول مالك، أو قول أصحابه قد بانت له صحته ألا يقضي فيها إلا بفتوى من يسوغ له الاجتهاد، ويعرف وجه القياس إن وجده في بلده، وإلا طلب في غير بلده، فإن قضى فيها برأيه ولا رأي له، أو برأي من لا رأي له كان حكمه موقوفا على النظر، ويأمر الإمام القاضي إذا لم يكن من أهل الاجتهاد، ولا كان في بلده من يسوغ له الاجتهاد ألا يقضي فيما سبيله الاجتهاد إلا بعد مشورة من يسوغ له الاجتهاد. وبالله تعالى التوفيق».

فتاوى ابن رشد (3/1494ـ 1504) بتصرف يسير. تقديم وتحقيق وجمع وتعليق د. المختار بن الطاهر التليلي، نشر دار الغرب الإسلامي ـ بيروت ـ الطبعة الأولى 1407هـ/1987م.

Science

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق