مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

جهود علماء الغرب الإسلامي في توجيه متشابه الكتاب (3): التحذير من الانسياق وراء اللهو و اللعب، ووجه تقدم أحدهما على الآخر في الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه اهتدى بهديه إلى يوم الدين.

أما بعد:
آلة الظفر بالمرغوب -بعد توفيق الله- القصد، فهو الزاد لمن أعيته المؤن، والعدة لمن طلب المعالي، والسياط الملهبة لمن تشوف للرتب العوالي، فباستصحابه تحرز الأماني، وتدرك الأمالي، سنة كونية أنيطت برغائب الدنيا، ليستدل بها العقلاء على مؤمل الباقية، وللآخرة خير من الأولى، وقد كانت وصية النبي لأمته النهل من سيبه، والاغتراف من معينه، توجيها للأمة إلى معاقد بلوغ المرام، وشحذا للهمم بأسلوب التوكيد المغري بالاستمساك بفحوى الخطاب، فيقول صلى الله عليه وسلم: “القصد القصد تبلغوا “.
وإن أعظم مناوئ للزوم الجادة فيه الإخلاد إلى اللعب، والركون إلى اللهو، و الاستجابة لداعي الهوى دون ارعواء، و هو ما حذر منه كتاب الله، تارة بتشبيه الدنيا وما تقله باللهو واللعب، “وَمَا هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ” [العنكبوت:64]، وقوله: “وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الأنعام:32]، و تارة بالأمر بمنابذة أهلهما ومصارمتهم، “وَذَرِ الذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيَا ” [الأنعام:70] و أخرى بالإخبار عنهما أنهما سبب الحرمان والخسران يوم العرض على الله “قَالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الكافِرينَ الذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيَا” [الأعراف:50]و في كتب اللغة نلفي أن اللعب واللهو بمعنى واحد، وتدور معانيها على عدم تحديد الوجهة، والاشتغال بما يصرف عن الأولى، جاء في اللسان، اللَّعِبُ واللَّعْبُ ضد الجِد، لعِب يلعَب لعِباً ولَعْباً ، و في حديث تمِيمٍ والجَسَّاسَة : ” صادَفْنَا البَحْرَ حينَ اغْتَلَم فَلَعِبَ بِنَا المَوْج شَهْراً ” سمَّى اضطراب الموج لعبا لمـَّا لم يسِـر بهِم إِلى الوجه الذي أرادوه، ويقال لكل من عمل عملا لا يُجدِي عليه نفعا: إنما أنت لاعب.
واللَّهْو ما لهوت به ولعِبت به وشغلك؛ من هوى وطرب، وفي الحديث: “ليس شيء من اللَّهْوِ إلاَّ في ثلاث… يقال: لهَوْتُ بالشيء أَلهُو به لَهْواً، وتَلَهَّيْتُ به إِذا لَعِبتَ به وتَشاغَلْت وغَفَلْتَ به عن غيره، و قوله تعالى: “لاهيةً قُلوبُهم” [الأنبياء:3]، أَي: متشاغلة عما يدعون إليه، وهذا من لها عن الشـيء إِذا تشاغل بغيره، واللهو: النكاح، ويقال المرأَة، وفي التنزيل العزيز “لو أَرَدْنا أَن نَتَّخِذ لَهْواً لاتَّخَذْناه من لَدُنَّا” [الأنبياء:19]، أَي: امرأة.
وقد جاء النهي عن كليهما في القرآن، تارة بتقدم اللهو على اللعب، وأخرى بتقدم اللعب على اللهو، وجملة الوارد منها في كتاب الهف ستة مواضع، اثنان منها بتقديم اللهو على اللعب، والأربعة الباقية بتقديم اللعب على اللهو، فكانت بذلك من المتشابه الذي يعنت الطلبة في الضبط، ومما يسعف على تعيين المتقدم منهما على الآخر تلك الأنصاص القرآنية التي يضعها المعلمون لتبصير الحفظة بمحال كل منهما، من مثل قولهم:
لَهْواً ولعِباً فِي الذِّكر وقُل معا صُرفت تجادِلوا وصل على النبي
أو:
اللَّهوُ قَبلَ اللَّعبِ يا نفسي تموتُ في سورة الأعراف ثم العنكبوت
وكما تقدم، فغاية الرجز أو النص تقييد محل الاشتباه، دون استكناه لسـر تقدم أحدهما على الآخر.
في مقاربة لطيفة لابن الزبير الغرناطي، نلفي نوعا من الشفوف التدبري في هذه المواطن، يقول رحمه الله: الآية التاسعة قوله تعالى: ” وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ” [الأنعام:32] وهذه الآية الأولى مغفلة وفى هذه السورة أيضا: ” وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ ” [الأنعام:70] وفى الأعراف: ” قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ” [الآية:51] وفى سورة العنكبوت: ” وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ” [الآية:64] وفى سورة القتال: إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ” [الآية:36]، وفى سورة الحديد: ” اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ”[الآية:20].
ففى آيتى الأنعام وسورة القتال وسورة الحديد تقديم اللعب وعطف اللهو علي عليه، وثبت في الأعراف والعنكبوت العكس، فقدم فيهما اللهو على اللعب ،والواو وان كانت لا ترتب، فإنه لا يتقدم اللفظ فى الكتاب العزيز ذكرا أو يتأخر إلا لموجب.
فوجهُ تقديم اللعب فى الأنعام أنه المتقدم فى الوجود الدنيوى على اللهو، ولأن أول ابتداء تعقل الإنسان وميْزُه حال اللعب، وهو المطابق لسن الابتداء، فإذا استمر ألهى عن التدبر والاعتبار وشغل تماديه عن التفكر فيما به النجاة والفوز ،وقد ينضاف إلى اللعب شاغل أو غيره أو يعاقبه، فيحصل بالمجموع الغفلة عن النظر فى الآيات، فيعقب الهلاك، قال تعالى: ” وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ… ” الآية، [الأنعام:179] فلما لم يبرح هؤلاء عن الجري على مهيع الصم والبكم الذين لا يعقلون، جرى الإخبار عنهم فى الآية الثانية من الأنعام بمقتضـى أحوالهم فى أعمارهم التى لم تخرج عن أحوال البهائم، فأول أعمارهم لعب، وعقب ذلك لهو، فورد الإخبار على حسب جري الأعمار، وأنهم اعتمدوا البقاء مع مقتضى الطبع الإنساني، إذ لم يصغ المكلف إلى داع، ولا تكلف الخروج عن مقتضى هواه، ولا جنح إلى مفارقة مألوف الطباع، قال تعالى: ” أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ” [الآية:23]، فأمر تعالى نبيه عليه السلام بالإعراض عنهم فقال: “وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا ” [الأنعام:70] على مقتضى الهوى والطبع، وهذه الحال هي التي نبه سبحانه عباده المؤمنين إليها، على أنها حال الحياة الدنيا وصفتها التي تمتاز بها، فأعلم بذلك ليجتنبوها ويحذروا غرورها، فقال تعالى في الآية الأولى من هذه السورة: ” وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ” [الأنعام:32] وقال فى سورة القتال: ” إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ” [الآية:36]، ألا ترى أن الخطاب قبل هذه الآية خطاب للمؤمنين بالأمر بالطاعة لله ورسوله، ووصية لهم، وإعلام بحال عدوهم من الكفار، وذلك قوله تعالى: ” يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ… ” [محمد:33-34]، وفى سورة الحديد: ” اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ” [الآية:20]،فعرَّف عباده المؤمنين فيها بالصفة التى هى فصْلُها، وبها امتيازها عن الترتيب الذي وجودها عليه، من تقديم اللعب وتبعية اللهو، حسب جري الأعمار ابتداء وانتهاء، كما تقدم، فهذا وجه تقديم اللعب في هذه الآي الأربع.
أما آية الأعراف فإنها من قول المؤمنين أهل الجنة إخبارا عن حال الكافرين الموجبة لتعذيبهم، فقدَّموا في الذكر اللهوَ الشاغل عن الاستجابة، الجاري مع سن التكليف والمساوق له الثاني عن اللعب، إذ وجود اللعب أولا في السن التي معظمها غير سن التكليف، وجري الأقلام بالتزام الطاعة واجتناب المخالفة، فقصدوا أن يخصُّوا موجب التعذيب من الأعمال، فذكروا مساوقه ومظنته، وهو معاقب اللعب، والذي اتخذه الكافر بالقصد والاختيار من شاق التكاليف، ولم يذكر اللعب أولا، لأنه جاز في البدأة، وحين لا تكليف، فكأن الكلام فى قوة أن لو قيل: إن الله محرم نعيم الجنة على من تأبط الكفر واعتمده، واتبع اللعب واللهو من كفره، فلم يبرح عن ملازمة الطبع والهوى.
وأما آية العنكبوت فإنها تقدم قبلها قوله تعالى: ” وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْاَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ “، [العنكبوت:61] ولا يسأل عن هذا ويجيب إلا من جاوز سن اللعب، وبلغ السن التي بها يتعلق التكليف بالمخاطب، ويصح خطابه وعتابه على تفريطه.
فناسب ذلك من ذكر الحياة الدنيا، تقديم ما يساوق تلك السن، فقدم ذكر اللهو والتالى للعب، ليناسب وليحصل ذكرُ مانعهم من الاستجابة وتكميل النظر المخلص لهم، وأخَّر ذكر اللعب الذي لا يساوق، مع أنه متبوع اللهو لزوما لمن لم يسبق له سابقة سعادة، فهذا وجه التقديم والتأخير فيما ذكر، ولو ورد على العكس لما كان ليناسب، والله أعلم” .
وهذا توجيه لطيف، مسعف لمن تدبره في ضبط متشابه الكتاب.

د.عبد الجليل الحوريشي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق