مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكمعالم

جهود العلامة محمد بن حماد الصقلي في الإفتاء

إن الحديث عن جهود الشيخ العلامة الشريف سيدي محمد بن حماد الصقلي –حفظه الله- هو من باب الاعتراف لأعلام العلماء بجهود بذلوها لنشر العلم والفضيلة، فالرجل خزانة متنقلة من العلم والمعرفة،  جمع الله له من المعاني والمعالي ما ينبئ عن همة عالية.  

لقد ساهم العلامة الشريف سيدي محمد بن حماد الصقلي في تكوين أجيال من العلماء في العلوم الشرعية بمختلف تخصصاتها، وفي توعية المسلمين المترددين على مجالسه، وتمكينهم من الفهم السليم للدين.

 كما ساهم في الجواب عن الكثير من النوازل والقضايا التي يحتاج الناس إلى معرفة حكم الشرع فيها، وقد خلف في هذا المجال أجوبة متعددة تعددت بتعدد النوازل والمسائل،  وتعدد الجهات والهيئات التي طلبت الفتوى.

أولا : منهج العلامة سيدي محمد بن حماد الصقلي في الإفتاء

يتلخص منهجه في ما يلي:

– ضرورة الاستناد في استنباط الأحكام الفرعية إلى الأدلة السمعية، وهو يحيل في بيان هذه القاعدة إلى ماذكره الشاطبي في الموافقات[1].

– استعراضه للآيات والأحاديث والروايات الثابتة في الموضوع مع ترجيح ما يطمئن إليه بالدليل العلمي.                                       

– إقراره بمشروعية الاختلاف.

-عرض ما يستجد من أقضية ومسائل على كليات الشريعة العامة وأدلتها المستوعبة حتى تنبني الفتوى على أساس قوي لا مدخل للهوى فيه.[2]

– وأما باعثه على الفتوى فهو شعوره بالأمانة الملقاة على عاتق العلماء لتبيين حكم الله في الأشياء المكتشفة، وفي ذلك يقول:(ولايضر اختلاف الأحكام في حكم النازلة الواحدة بعد الاجتهاد الذي استوفى شروطه).[3]           

– تواضعه وهو يفتي، فهو يقول:(أبرئ نفسي من (..) الوصول إلى مستوى الاجتهاد، فزادي من العلم قليل، وباعي عن وفرة التحصيل قاصروعليل، ولكني على كل أبرئ نفسي من التقصير وسوء القصد وأمنعها من الاعتماد على غير الله.)[4] ويقول أيضا في معرض فتواه حول أطفال الانابيب :(وأؤكد أن ما استنتجته في هذا البحث إنما هو فتوى قابلة للمناقشة قبل قبول الحكم بها وقبل جعلها مهيأة لتكون القانون المطبق)[5].

ثانيا نماذج من فتاوي العلامة سيدي محمد بن حماد الصقلي   

– الفتوى الأولى: حول موضوع الأوجه التي يتواكب فيها تنظيم الأسرة مع الإسلام[6].

 تبدأ الفتوى بتقرير مجموعة من القواعد وهي :

1- حرمة الحياة ويقررها الشيخ كما يلي: قاعدة تحريم قتل النفس بغير حق باقية باستمرار على عمومها لايدخلها أي تخصيص، فالقتل بغير حق محرم مهما كانت الأحوال والأسباب والأحداث[7].

 2- تنظيم الأسرة قبل الإخصاب لا يمس بحرمة الحياة، ذلك أن الشريعة الإسلامية أبقت للزوجين حريتهما في تنظيم الاتصال الزوجي وتنظيم الإنجاب.[8]

3- استدلاله بالأحاديث الواردة في العزل لاستخلاص وسيلة من وسائل تنظيم الإنجاب في العصر النبوي.

4- تأكيده على أن العزل لا صلة له بالإجهاض، فلا يكون العزل وأدا خفيا كما أنه لا يكون انصرافا عما يقدره الله من الحمل.[9]

ثم استخلص النتائج التالية قائلا: (لقد أثبتنا بما قدمنا من الحجج وبما سقناه من مذاهب الأئمة أن العزل لايخرج الحكم فيه عن نطاق الحلال، ثم قال: تجنب الحمل لا حرج فيه، لكن إذا دعت إليه الضرورة، واتخذت لاستعماله الوسائل المشروعة، فمنعه بالتعقيم أو بالتحديد الإجباري لاتؤيده الشريعة ولاتساعد عليه الفطرة، وتنظيمه حسب القدرة والاستعداد والإمكانات مقبول في الشريعة لاتتجافى عنه الطبيعة).[10]

والخلاصة كما يقول الشيخ سيدي محمد بن حماد الصقلي: (ولئن أباح الإسلام تنظيم الأسرة باتفاق الزوجين فقد اختار لها أخف الوسائل التي كانت معهودة وهي العزل، ومنع منعا باتا وسيلة الإجهاض، وتقوى الجناية فيه حسب فترات الحمل التي أصبح استعمال الأقراص أو ربط الرحم أخف من وسيلة العزل، فللزوجين إذا اتفقا على التنظيم أن يلجآ إلى هاتين الوسيلتين، وذلك من أجل تكوين أسر منتظمة يتوازن فيها عدد الأبناء مع المداخيل ومع الإمكانيات الصحية والإجتماعية[11].

الفتوى الثانية: استفتاء عن حكم الإسلام في  ظاهرة مرضية خاصة[12].

وهي في بعض حالات الاحتضار يتوقف كل جزء من أجزاء المخ عن مهمته نحو البدن، ونتيجة لذلك يموت في بدن المحتضر كل من حركته وجسمه ولا ينبض قلبه إلا بواسطة الجهاز المسمى ناظم القلب، بحيث لو سحب لهمد القلب وانتهى من المحتضر كل شيء[13].

والأمران اللذان ترتبا عن هذه الظاهرة هما:

أ- الحالة التي يعتبر الإسلام فيها أن حياة الشخص قد انتهت، وهذا يتطلب وضع السؤال الآتي هل يحكم الإسلام في هذه الحالة على المحتضر بأنه حي، وحينئذ لا يكون من حق الطبيب أن يحجم عن استعمال ناظم القلب، أم هل يحكم عليه بأنه ميت؟ وحينئذ يكون من حق الطبيب أن يحجم عن استعمال الجهاز المذكور.

ب- حكم الإسلام في عملية نقل الأعضاء وزرعها، وهذا يتطلب وضع السؤال الآتي: إذا كان حكم الإسلام بالنسبة لهذه الحالة هو أن المحتضر ميت، فهل يجوز للطبيب حينئذ أن يحتفظ بجثته بواسطة أجهزة الصيانة لينقل منها عند الحاجة العضو السالم ويزرع في موضع تعطل من بدن ترجى حياة صاحبه؟[14]

الجواب عن هذا السؤال يقتضي بيان المدلول اللغوي والفقهي لكلمة الحياة والمظهر الدال على انتهاء الأجل.

وقد بنى الشيخ على هذه الأسئلة فتواه فقال: (وليس معنى هذا أن تعاليم الإسلام لا تسمح بسحب جهاز ناظم القلب بل على العكس من ذلك فإنها تسمح بسحبه، وبهذا الصدد أفتي بأن تعاليم الإسلام تسمح بسحب الجهاز من المنهار جسمه بفقد الحس والحركة نتيجة لحصول اليقين بموت مخه، وليس في عودة الإحساس إليه أي أمل، وسماح الإسلام بسحب الجهاز على هذا الحال ليس هو على أساس أن الساحب للجهاز هو الذي تسبب في وضع الحد النهائي لحياة الشخص، فيكون فعلا يوثانيا مرخصا فيه،  ولكن على أساس أن الشخص قد توفي، وأن إبقاء الجهاز في جثته هو تأخير لتجهيز الميت المطلوب شرعا التعجيل به، فلا يوثانية مرخصة ولا مسؤولية حتى تزول بصدور قانون، فالساحب للجهاز لا يؤاخذ من قبل ربه حسب ظواهر النصوص كما لا يلام من أحد ).[15]

وأما الأدلة التي استلهم منها الشيخ فتواه فله فيها مستندان رئيسيان:

الأول: وهو ما يتعلق بالمدلول اللغوي والفقهي لكلمة حياة، فاستعرض في هذا السياق آيات قرآنية منها قوله تعالى: (ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا)[16]؛ دلت الآية أن الله تعالى جعل الأرض عامرة بجموع بشرية وغير بشرية تتعاقب عليها مع تعاقب الأزمان، فهي تحمل على ظهرها من تلك الجموع ما يحيى بالحس والحركة، ويدخل إلى باطنها من تلك الجموع ما يموت بانعدام الحس والحركة.

وقوله تعالى: (وما يستوي الأحياء ولا الأموات)[17]؛ دلت هذه الآية الكريمة على أن الفرق بعيد بين من يحس ويتحرك لأنه حي وبين من يفقد الحس والحركة لأنه بفقدها ميت، فبوجود الحس والحركة توجد الحياة التي ينصرف إليها الذهن عند الإطلاق، وتدل عليها اللغة، وتبنى عليها الأحكام الفقهية .

والحياة في اللغة عبارة عن قوة مزاجية تقتضي الحس والحركة، كما عرفها أبو البقاء في كلياته: أو هي كيفية يلزمها قبول الحس والحركة الإرادية. كما عرفها الوزاني في حاشيته النشر الطيب، فتعريف صاحب الكليات لا ينطبق على جسم انهار بموت المخ؛ لأن الجسم المنهار يختل فيه المزاج وتنعدم فيه القوة المزاجية التي هي النفس الحيوانية؛ لأن قوتها النفسانية اضمجلت باضمحلال قواتها الثلاث التي هي الإدراك الظاهري والإدراك الباطني والحركة، واضمحلت كذلك من الجسم النفس الإنسانية؛ لأن قوتها العقلية المنقسمة إلى العقل النظري والعقل العملي لم يعد لها في الجسم أي أثر، واضمحلت من الجسم كذلك النفس النباتية رغم خروجها عن نطاق الحياة العرفية بمقتضى تعريف أبي البقاء، واضمحلالها تحقق بكون قواتها الطبيعية من جاذبة وماسكة ودافعة ومولدة ومصورة لم يعد لها كذلك أي وجود.[18].

وأما الثاني فيتجلى في كثير من الحقائق منها:

 – أولا: زوال المعاني الحقيقية والمجازية للحياة الواردة في القرآن والحديث عن أن توصف بها الجثة التي بقي القلب فيها ينبض بواسطة الجهاز.

– ثانيا: فساد تطبيق تعاريف الحياة التي ذكرها الأئمة ومن بينهم أبو البقاء على الذي بقي قلبه ينبض بواسطة الجهاز وقد حصل اليأس من حياته.

– ثالثا: إنعاش قلب المأيوس منه بالجهاز هو شبيه بإنعاش يده أو أي عضو من جسده لا أثر له في جلب الحياة ولا يرد من قدر الله شيئا.

– رابعا: الحياة البشرية التي فرض الإسلام عصمتها ثبت طبيا أنها لا تكمن كلها في القلب؛ لأن القلب مجرد عضو يؤدي مهمة محددة، فلا ينبعث منه إحساس ولا شعور، فهو كغيره من الأعضاء إذا حصل له خلل أمكن استبداله بحسب النظر وأوائل التجربات إما بقلب بشري آخر لا يسبب للشخص المنقول إليه أي تغيير في المزاج أو الطبيعة، وإما بجهاز مصنوع يؤدي دور القلب تبقى معه حياة الشخص على طبيعتها، لذلك لا ترتبط الحياة بخصوص القلب.

– خامسا: المخ هو الطاقة التي بها تنسج شبكات الحركة والإحساس والشعور، ومنه ينطلق الوعي، وبه يوجد العقل النظري والعقل العملي، فأي خلل حصل فيه انعكس أثره على البدن وتعطل تبعا لتعطله، لذلك كانت عملية تعويضه بمخ آخر متعذرة، وحتى لو فرض نجاحها فإن المريض يتقمص شخصية المخ المزروع في كل من التفكير والمشاعر، ومن لطف الله بالبشر تعذر زرع المخ، فهو لا يتصل بحال بعملية زرع الأعضاء وإنما فيه قتل لشخص وتغيير خلق الله في حق شخص آخر، فالشخص المقتول هو صاحب المخ السليم الذي يراد نقله، وتغيير خلق الله يحصل للشخص المنقول إليه المخ السليم، وكل هذا يؤكد أن موت المخ هو موت للشخص.

– سادسا: لم يذكر الله تعالى حالة يكون الشخص فيها لا هو بالحي ولا هو بالميت، وإنما ذكر سبحانه أنه خلق الموت والحياة دون أن يخلق واسطة بينهما، فقال تعالى: (الذي خلق الموت والحياة) [الملك:2]، فعلى هذا لا يكون صاحب القلب النابض بالجهاز المأيوس منه إلا ميتا، والموت لا يتجزأ أيضا.

– سابعا: استمرار تركيب الجهاز الناظم للقلب مع تيقن عدم جدواه ومع عدم حصول أية منفعة، فيه نوع اعتراض[19] على قوله تعالى: (قد جعل الله لكل شيء قدرا )، وقوله تعالى: (لكل أجل كتاب) .

والخلاصة أن جهود العلامة سيدي محمد بن حماد الصقلي أكثر من أن تعد وحبذا لو توجه جهود الباحثين لدراستها والتعريف بها وجمعها وترتيبها وتيسير نشرها ليعم النفع بها.

الهوامش:


[1] -حكم الإسلام في أطفال الأنابيب:محمد بن حماد الصقلي:ص2

[2]ـ نفس المرجع ص( 3-6)

[3]- نفس المرجع ص 5

[4] – نفس المرجع ص5

[5]- نفس المرجع ص 5.

[6]- الأوجه التي يتواكب فيها تنظيم الأسرة مع الإسلام :محمد بن حماد الصقلي

[7]- نفس المرجع ص 2

[8]- نفس المرجع ص2

[9]- المرجع السابق ص2

[10]- المرجع السابق ص(5-6)

[11]- المرجع السابق ص(6-7).

[12] – وهذه الفتوى مسجلة بتاريخ آواخر نونبر سنة 1978.

[13]- الفتوى السابقة ص 1

[14]- المرجع السابق ص1

[15]- المرجع السابق ص18.

[16]- سورة المرسلات الآية .25

[17]- سورة فاطر الآية .22

[18]- الفتوى السابثة ص(9 –  16).

[19] – الفتوى السابقة ص( 18-20).

الدكتور عبد الله معصر

• رئيس مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوك بالرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق