مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات محكمة

جهود الإمام مالك في الدراسات الفقهية – 1 –

أولا: المنهج  العام للإمام مالك في الموطأ

         جمع الإمام مالك رضي الله عنه في كتابه الموطأ بين الحديث والفقه والفتوى، وضمنه منهجه  العام في الفقه والفتوى، وبذلك أصل الإمام مالك لمذهبه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ما استخرجه الإمام بنفسه من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

         ويمثل موطأ الإمام مالك الأصول الأولى للمذهب، وفيه يتجلى المنهج العام للإمام في الفقه والفتوى والقضاء، كما تتجلى فيه جهوده التطبيقية في تقعيد الفقه، وجمع أطرافه أصولا وفروعا ومسائل في الفنون الفقهية المرتبطة به [1].

         ولقد بين الإمام منهجه الذي سار عليه في كتابه الموطأ،فانتقى فيه أحسن ما صح عنده من الأحاديث المروية عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم –وما روي عن الخلفاء الراشدين،وفقهاء الصحابة، ومن بعدهم من فقهاء المدينة، وما جرى عليه عملهم، مما يرجع إلى تلقي المأثور عن عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين، وأئمة الفقه.

         وبوب كتابه بحسب ما يحتاجه المسلمون في عباداتهم ومعاملاتهم وآدابهم،وجعل فيه بابا جامعا في آخره ذكر ما لا يدخل في باب خاص من الأبواب الفقهية المخصصة بفقه بعض الأعمال، وأضاف إلى ذلك ما استنبطه من الأحكام في مواضع الاجتهاد، مما يرجع إلى جمع بين متعارضين، أو ترجيح أحد الخبرين، أو تقديم إجماع، أو قياس، أو عرض على قواعد الشريعة.[2]

وقد اشتمل الموطأ على مادة علمية يمكن حصرها في الأقسام التالية:

–   القسم الأول: أحاديث مروية -عن النبي صلى الله عليه وسلم- بأسانيد متصلة من مالك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

–   القسم الثاني: أحاديث مروية عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- بأسانيد مرسلة.

–   القسم الثالث: أحاديث مروية بسند سقط فيه راو، ويسمى المنقطع.

–  القسم الرابع: أحاديث يبلغ في سندها إلى ذكر الصحابي، ولا يذكر فيها أنه سمع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين يكون الخبر مما يقال بالرأي، وهذا الصنف يسمى الموقوف.

–  القسم الخامس: البلاغات، وهي قول مالك-رحمه الله- بلغني أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال ….

–  القسم السادس:أقوال الصحابة،وفقهاء التابعين

– القسم السابع:ما استنبطه الإمام مالك- رحمه الله- من الفقه المستند إلى العمل، أو إلى القياس، أو إلى قواعد الشريعة[3].

لعل مما يبين لنا القيمة العلمية لكتاب الموطأ ما قاله الشيخ ولي الله الدهلوي – رحمه الله- حيث قال:( تيقنت أنه لا يوجد الآن كتاب ما في الفقه أقوى من موطأ الإمام مالك؛ لأن الكتب تتفاضل في ما بينها، إما من جهة فضل المصنف،أو من جهة التزام الصحة، أو من جهة شهرة أحاديثها، أو من جهة القبول لها من عامة المسلمين، أو من جهة حسن الترتيب واستيعاب المقاصد المهمة ونحوها، وهذه الأمور كلها موجودة في الموطأ على وجه الكمال، بالنسبة إلى جميع الكتب الموجودة على وجه الأرض الآن….، وطريق الاجتهاد وتحصيل الفقه بمعنى معرفة الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية مسدود اليوم على من رام التحقيق إلا من وجه واحد، وهو أن يجعل المحقق الموطأ نصب عينيه، ويجتهد في وصل مراسيله، ومعرفة مآخذ أقوال الصحابة والتابعين… ثم يسلك طريق الفقهاء المجتهدين في المذاهب…

وما قلناه: إن طريق الاجتهاد مسدودة إلا من هذه الجهة الباعث على ذلك أن الأحاديث المرفوعة وحدها لا تكفي جميع الأحكام، بل لابد لها من آثار الصحابة والتابعين، ولا يوجد كتاب جمع لهذا وذاك الآن، ويكون مع ذلك مخدوما من العلماء، ونظر فيه نظر المجتهدين، طبقة بعد طبقة غير الموطأ، وهذا لا يحتاج إلى دليل عند من عرف الكتب المأثورة التي هي أصول الشرع، وعلم أيضا كلام أهل العلم فيها،وأنظار المجتهدين في شرحها)[4].

والخلاصة أن أبعاد المنهجية في الموطأ تقوم على معالم منها:

1- إن منهج الإمام مالك في الأخذ هو استيعاب جل الصحابة إن لم يكن كلهم في الرواية عنهم، حتى وإن  كانت الرواية عن أحدهم قليلة، وكذلك الإكثار من الرواية عن التابعين وتابعيهم المدنيين.

2- وفي الفقه كانت إجابات الموطأ الفقهية غنية بأدلتها الأصلية والفرعية، غناها بمصطلحاته الخاصة، وهو لا يتحرج في مسألة لا يعلم حكمها أن يعلن ذلك، فقد اشتهر عنه في غير الموطأ قول:لا أدري، وفي الموطأ يستعمل: لم يبلغني، أو لم أسمع، وما إليها[5].

3- التعقيب على النصوص بالتأكيد أو الشرح، أو بإيضاح المعنى المراد، أو بالتمثيل، وأحيانا بالتأويل والرد، وقلما يقدم إجاباته، ثم يؤيدها بالنصوص والآثار، ويلتزم مع تعقيبه بمصطلحات خاصة تحمل معاني الحكم الفقهي والأخلاقي، وهي إذ تقصر في بعض الأمور التي لا يحتاج إليها الناس، تطول وتفصل في الأمور التعبدية والمعاشية اليومية.

4- يعنى الإمام مالك بأصول الفقه، ويوسع مفهومها، ويدفع إلى تحريها في علل الأحكام، وينبه إلى أهميتها وخصوبتها، ويضع الحكم الفقهي الواحد في دليل واحد أو عدد منها، ويرفع من قيمة الأثر للصحابي، والتابعي، والفقيه المدني بالاستدلال الفقهي، ويبرز كفاءة علماء المدينة وعمل أهلها، وإجماعهم في التشريع ويقدر الرواية الموثقة من غيرهم، ويجتهد ويقيس، ويرى ويستحسن في إطار النص إن وجد، ويعلل للحكم فيما لا نص فيه، أو لا يعلل، ولا يعدل عن النص الصريح، ويفسر إشاراته، ويقنع بدلالاته، ويستأنس بسبب نزوله.

5- وفي العقيدة لا يعقب على النصوص والآثار إلا بالقليل، ويكتفي بما تحمله من توجيهات عقائدية سليمة، وما فيها من زواجر للمبتدعين والمنحرفين، ولكنه يسوق تلك المرويات على نمط منطقي منظم، فهو يروي عن قدم الكلام في القدر ويتبعه بتساؤلات الصحابة، ثم يبين عمومه وحكمته وعقوبة القدرية.

6- تتكامل في الموطأ القضايا الفقهية والأصولية والعقائدية والأخلاقية برواية صحيحة، ولغة مبينة.

7- إن ختام الموطأ بالأدب ( كتاب الجامع)بعد التوسع في الفقه، يربط تعامل الإنسان المسلم بالأدب الرفيع والسلوك القويم، فالقواعد القانونية الفقهية لاتجدي نفعا إن لم تقم على قواعد راسخة من حسن الخلق، كما أن السلوك القويم ثمرة من ثمار العقيدة والعبادة.[6]

ثانيا: نماذج تطبيقية للضوابط  والكليات الفقهية عند الإمام مالك :

   الضابط الأول:  كل أحد دخل في نافلة فعليه إتمامها إذا دخل فيها كما يتم الفريضة[7].

ومضمون هذا الضابط أن الأعمال الصالحة التي يتطوع بها الناس لا ينبغي أن يقطعوها إذا دخلوا فيها، حتى يتموها على سنتها [8].

تطبيقات هذا الضابط: 

1-  إذا كبر لم ينصرف حتى يصلي ركعتين.

2-  إذا صام لم يفطر حتى يتم صوم يومه[9]  لقوله تعالى : ” وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، ثم أتموا الصيام إلى الليل “[10].

3-  إذا أهل لم يرجع حتى يتم حجه، وإذا دخل في الطواف لم يقطعه حتى يتم سبوعه[11]،  لقوله تعالى : ” وأتموا الحج والعمرة لله ” [12]، فلو أن رجلا أهل بالحج تطوعا وقد قضى الفريضة، لم يكن له أن يترك الحج بعد أن دخل فيه ويرجع حلالا في الطريق [13].

* الضابط الثاني : لا ينبغي أن يرث أحد أحدا بالشك، ولا يرث أحد أحدا إلا باليقين من العلم والشهداء [14].

تطبيقات هذا الضابط :

 1- الأخوان للأب وللأم يموتان ولأحدهما ولد، والآخر لا ولد له، ولهما أخ لأبيهما، فلا يعلم أيهما مات قبل صاحبه، فميراث الذي لا ولد له لأخيه لأبيه، وليس لبني أخيه لأمه شيء [15].

 2- أن تهلك العمة وابن أخيها، أو ابنة الأخ وعمها، ولا يعلم أيهما مات قبل، فإن لم يعلم أيهما مات قبل لم يرث العم من ابنة أخيه شيئا، ولا يرث ابن الأخ من عمته شيئا [16].

 -3كل متوارثين هلكا بغرق أو قتل أو غير ذلك من الموت إذا لم يعلم أيهما مات قبل صاحبه لم يرث أحد منهما من صاحبه شيئا ، وكان ميراثهما لمن بقي في ورثتهما من الأحياء[17].

وهذه جملة من الضوابط والكليات الفقهية المبثوثة في الموطأ :

1-  من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح [18].

2-  من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر [19].

3-  من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة [20].

4-  إذا فاتتك الركعة فقد فاتتك السجدة [21].

5-  من أدرك الركعة فقد أدرك السجدة [22].

6- كل ما كان صعيدا فهو يتيمم به [23].

7- كل سهو كان نقصانا من الصلاة فإن سجوده قبل السلام، وكل سهو كان زيادة في الصلاة فإن سجوده بعد السلام [24].

8- كل من انقطع إلى مكة من أهل الآفاق وسكنها، ثم اعتمر في أشهر الحج، ثم أنشأ الحج منها فليس بمتمتع ، وليس عليه هدي ولا صيام ، وهو بمنزلة أهل مكة إذا كان من ساكنيها [25].

9-  كل شيء صيد في الحرم، أو أرسل عليه كلب في الحرم، فقتل ذلك الصيد في الحل، فإنه لا يحل أكله، وعلى من فعل ذلك جزاء الصيد [26].

10- كل ما عقر الناس وعدا عليهم وأخافهم، مثل الأسد والنمر والفهد والذئب ،فهو الكلب العقور [27].

11- كل من حبس عن الحج بعدما يحرم، إما بمرض، أو بغيره، أو بخطأ من العدد أو خفي عليه الهلال فهو محصر [28].

12- كل شيء لا يبلغ أن يحكم فيه ببعير، أو بقرة، فالحكم فيه شاة، وما لا يبلغ أن يحكم فيه بشاة فهو كفارة، من صيام أو إطعام مساكين [29].

13- كل أمر تصنعه الحائض من أمر الحج، فالرجل يصنعه وهو غير طاهر [30].

14- كل شيء من النسور، أو العقبان أو البزاة، أو الرخم، فإنه صيد، يودى كما يودى الصيد إذا قتله المحرم [31].

15- كل شيء فدي ففي صغاره مثل ما يكون في كباره [32].

16- كل شيء في كتاب الله في الكفارات كذا أو كذا، فصاحبه مخير في ذلك أي شيء أحب أن يفعل ذلك فعل [33].

17- الإشارة بمنزلة الكلام [34].

18- كل شيء ناله الإنسان بيده أو رمحه أو بشيء من سلاحه فأنفذه وبلغ مقاتلـــه فهو صيد [35].

19- كل ما قدر على ذبحه وهو في مخالب البازي، أو في في الكلب فيتركه صاحبه وهو قادر على ذبحه حتى يقتله البازي أو الكلب، فإنه لا يحل أكله [36].

20- إذا كانت الضرورة فإن دين الله يسر [37].

21- الرضاعة قليلها وكثيرها إذا كان في الحولين تحرم، فأما ما كان بعد الحولين فإن قليله وكثيره لا يحرم شيئا، إنما هو بمنزلة الطعام [38].

22- كل ما أخطأ به الطبيب أو تعدى إذا لم يتعمد ذلك، ففيه العقل [39].

ثالثا:  اهتمام الإمام مالك بتفسير النصوص وتوجيهها:

كتفسيره قوله تعالى : ” وآتوا حقه يوم حصاده “[40] أن ذلك الزكاة [41].

 وقوله في الأيام التي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامهن وأمر بفطورهن، قال: هي أيام التشريق[42].

وقوله في تفسير قول عمر بن الخطاب أيما رجل تزوج امرأة وبها جنون أو جذام أو برص فمسها فلها صداقها كاملا وذلك لزوجها غرم على وليها. قال مالك: ” وإنما يكون ذلك غرما على وليها لزوجها إذا كان وليها الذي أنكحها هو أبوها، أو أخوها، أو من يرى أنه يعلم ذلك منها، فأما إذا كان وليها الذي أنكحها ابن عم، أو مولى، أو من العشيرة، ممن يرى أنه لا يعلم ذلك منها، فليس عليه غرم، وترد تلك المرأة ما أخذته من صداقها، ويترك لها قدر ما تستحل به[43].

رابعا: بيان الإمام مالك  للراجح من الأحاديث:

وذلك من خلال النص على أن العمل على حديث فلان، أو نصه على عدم الأخذ بالرواية الفلانية أو قوله: ” وحديث فلان أحب إلي “،  من ذلك قوله في صلاة الخوف: “وحديث القاسم بن محمد عن صالح بن خوات أحب ما سمعت إلي في صلاة الخوف”[44].

خامسا: عناية الإمام مالك بالفروق الفقهية :

مما يدل على دقة ملاحظته وعمق نظره ورسوخ اجتهاده، عنايته بالفروق الفقهية، فمن ذلك :

         1- الفرق بين نكاح المعتكف ونكاح المحرم :

أن المحرم يأكل ويشرب ويعود المريض ويشهد الجنائز ولا يتطيب. والمعتكف والمعتكفة يدهنان ويتطيبان، ويأخذ كل واحد منهما من شعره، ولا يشهدان الجنائز ولا يصليان عليها، ولا يعودان المريض [45].

          2- الفرق بين المزابنة والعرايا :

أن بيع المزابنة بيع على وجه المكايسة والتجارة، وأن بيع العرايا على وجه المعروف لا مكايسة فيه [46].

          3- الفرق بين المساقاة في النخل والأرض البيضاء :

أن صاحب النخل لا يقدر أن يبيع ثمرها حتى يبدو صلاحه، وصاحب الأرض يكريها وهي أرض بيضاء لا شيء فيها [47].

           4- الفرق بين القسامة في الدم والأيمان في الحقوق :

أن الرجل إذا داين الرجل استثبت عليه في حقه، وأن الرجل إذا أراد قتل الرجل لم يقتله في جماعة من الناس، وإنما يلتمس الخلوة، قال فلو لم تكن القسامة إلا فيما تثبت البينة، ولو عمل فيها كما يعمل في الحقوق هلكت الدماء، واجترأ الناس عليها، إذا عرفوا القضاء فيها، ولكن إنما جعلت القسامة إلى ولاة المقتول يبدّؤون بها فيها؛ ليكف الناس عن القتل؛ وليحذر القاتل أن يؤخذ في مثل ذلك بقول المقتول [48].

سادسا:عناية الإمام مالك بالمصطلح الفقهي [49]

       تكلم الإمام مالك عن كثير من المصطلحات الفقهية، وبينها وأصلها، وشرح بعض الألفاظ الغريبة.

      ومستويات بيان المصطلح عند الإمام مالك تأخذ المراتب التالية:

أ‌-  البيان من خلال النصوص التشريعة،الكتاب والسنة،كقوله في تحديد معنى الأذان :النداء للصلاة[50]،ثم أصل هذا المصطلح من خلال الكتاب والسنة،فاستشهد بقوله تعالى( إذا نودي للصلاة)[51]،وقوله صلى الله عليه وسلم:(إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن)[52]،فيكون النداء في أحد تعريفاته:هو النداء للصلاة.

ب‌- بيان المصطلح من خلال تفسير الصحابة،كتفسير عبدالله بن عمر للكنز بأنه المال الذي لاتؤدى فيه الزكاة.[53]

بيان المصطلح من خلال تفسير التابعين، كتفسير سعيد بن المسيب للمضامين ببيع ما في بطون إناث الإبل، والملاقيح ببيع ما في ظهور الجمال.[54]

روايات الموطأ

         اختلف كتاب التراجم في إحصاء الرواة عن الإمام مالك سماعا وإجازة، فقد أوصلهم القاضي عياض في تأليف له إلى أكثر من ألف وثلاثمائة راو، قال القاضي عياض:( كنا قديما جمعنا الرواة عن مالك على حروف المعجم … فاجتمع لنا منه نيف على الألف اسم وثلاثمائة اسم،وذكرنا في كتابنا هذا منهم في الطبقات الثلاث الفقهاء منهم)[55].

 وذكر عددا منهم  ممن رووا الموطأ عن الإمام مالك مباشرة دون واسطة، ثم قال:( فهؤلاء الذين حققنا أنهم رووا عنه الموطأ، ونص على ذلك أصحاب الأثر والمتكلمون في الرجال…ولا مرية أن رواة الموطأ أكثر من هؤلاء من جملة أصحابه، ومشاهير رواته، ولكنا إنما ذكرنا من بلغنا نصا سماعه له منه، وأخذه له عنه، أو من اتصل إسنادنا له فيه عنه.والذي اشتهر من نسخ الموطأ،مما رويته،أو وقفت عليه،أو كان في رواية شيوخنا-رحمهم الله-،أو نقل منه أصحاب اختلاف الموطيات ،نحو عشرين، وذكر بعضهم أنها ثلاثون نسخة)[56] .

وقال الحافظ صلاح الدين العلائي :(روى الموطأ عن مالك جماعات كثيرة، وبين رواياتهم اختلاف من تقديم وتأخير وزيادة ونقص)[57]  .

وقد اختلف العلماء في عدد الروايات المشتهرة للموطأ عن مالك سماعا وإجازة، فبعضهم يقلل، كما ذكر القاضي عياض والذي لايجاوز بها نحو العشرين نسخة، فإن آخرين أوصلوها إلى نحو تسعة وسبعين راويا، كما صنع ابن ناصر الدين[58] في كتابه إتحاف السالك برواة الموطأ عن الإمام مالك[59].

وأشهر روايات الموطأ حسب التوزيع المجالي هي :

فمن أهل المدينة:

1-  رواية معن بن عيسى بن يحيى بن دينار الأشجعي، مولاهم القزاز، أبو يحيى المدني ( ت198هـ)[60]

 قال إسحاق بن موسى الأنصاري – رحمه الله- : سمعت معنا يقول ( كان مالك لايجيب العراقيين في شيء من الحديث حتى أكون أنا الذي أسأله عنه، وكان يقول: كل شيء من الحديث في الموطأ سمعته من مالك إلا ما استثنيت أني عرضته عليه، وكل شيء من غير الحديث عرضته عليه إلا ما استثنيته أني سألته عنه )[61].

وقد قدمه الإمام أبو حاتم على سائر رواة الموطأ، فقال- رحمه الله-:( أثبت أصحاب مالك وأوثقهم: معن بن عيسى القزاز، وهو أحب إلي من عبد الله بن نافع الصائغ، ومن ابن وهب)[62].

 قال  ابن دحية[63] : (هو أكبر من روى عن مالك الموطأ)[64]، واعتمد الجوهري روايته في مسند الموطأ، كما اعتمدها الترمذي في سننه.

2- رواية عبد الله بن مسلمة بن قعنب  القعنبي الحارثي، أبو عبد الرحمن المدني نزيل البصرة ( ت 221هـ)[65].

  قال محمد بن إسماعيل الرقي – رحمه الله-: سمعت القعنبي يقول:(لزمت مالكا عشرين سنة حتى قرأت عليه الموطأ)[66].

قال  نصر بن مرزوق – رحمه الله- : سمعت يحيى بن معين وسألته عن رواة الموطأ عن مالك؟ فقال: أثبت الناس في الموطأ عبد الله بن مسلمة القعنبي وعبد الله بن يوسف التنيسي[67].

وقال النسائي- رحمه الله-: القعنبي فوق عبد الله بن يوسف في الموطأ[68].

وقال موسى بن سعيد البرداني-رحمه الله-: قلت لأحمد بن حنبل: عمن أكتب الموطأ؟ فقال:اكتبه عن القعنبي.

قلت :أيهما أحب إليك، إسماعيل بن أبي أويس، أو عبدالعزيز بن أبي أويس، أو القعنبي؟

قال: القعنبي أفضلهم.[69]

وقال ابن أبي حاتم- رحمه الله-: قلت لأبي: القعنبي أحب إليك في الموطأ، أو إسماعيل بن أبي أويس؟ قال: القعنبي أحب إلي، لم أر أخشع منه.[70]

وقال العجلي –رحمه الله- : قرأ مالك بن أنس على القعنبي نصف الموطأ، وقرأ هو على مالك النصف الباقي.[71]

 وقال أبو الحسن الميمون: سمعت القعنبي يقول: اختلفت إلى مالك ثلاثين سنة، ما من حديث في الموطأ إلا لو شئت قلت: سمعته مرارا، ولكن اقترأت بقراءتي عليه؛ لأن مالكا يذهب إلى أن قراءة الرجل على العالم أثبت من قراءة العالم عليه[72].

ورواية القعنبي من أكثر الروايات زيادة، وقد اعتمدها أبو داود في سننه[73].

3- رواية أبي مصعب أحمد بن أبي بكر بن الحارث ابن زرارة الزهري المدني(ت241هـ)[74].

وأما مكانته في الرواية عن الإمام مالك فقد  قال الدارقطني:-رحمه الله- (أبو مصعب ثقة في الموطأ)[75]، وقال ابن حزم: ( آخر ما روي عن مالك موطأ أبي مصعب، وموطأ أبي حذافة السهمي)[76].

 وقال أيضا: ( في موطأ أبي مصعب زيادة على سائر الموطآت نحو مائة حديث)[77] .

 وقال الذهبي ( سماعه للموطأ صحيح في الجملة)[78] .

ورواية أبي مصعب تتشابه مع رواية يحيى بن يحيى الليثي، وهو ما يبينه ابن عبد البر في قوله:

( وقد تأملت رواية يحيى فيما أرسل من الحديث، ووصل ما في الموطأ، فرأيتها أشد موافقة لرواية أبي مصعب في الموطأ كله من غيره، وما رأيت في الموطأ أكثر اتفاقا منها)[79] .

ولعل السبب في ذلك أنها من آخر الروايات عن مالك.

4 – رواية بكار بن عبدالله الزبيري.

رواية مصعب بن عبد الله  بن مصعب بن ثابت بن الزبير بن العوام القرشي الأسدي، أبو عبد الله الزبيري المدني، عم الزبير بن بكار(ت 230هـ)[80]  قال عياض :(روى عن مالك الموطأ وغير شيء، وعرف بصحبته، وروايته في الموطأ معروفة)[81]

5 – رواية عتيق بن يعقوب  بن صديق بن موسى بن عبد الله بن الزبير بن العوام القرشي (ت 228هـ وقيل 229هـ)، قال القاضي عياض:( قال محمد بن سعد كاتب الواقدي في تاريخه: كان ملازما لمالك، كتب عنه الموطأ وغيره.)[82]

6 – رواية مطرف بن عبدالله بن مطرف بن سليمان بن يسار اليساري الهلالي، أبو مصعب المدني، مولى ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، (ولد سنة 139هـ وتوفي سنة 220هـ)[83] سمع الموطأ من خاله مالك[84]

7- رواية إسماعيل بن أبي أويس عبد الله( ت 226هـ وقيل 227هـ)[85]

8- رواية سعيد بن داود[86]

9- رواية عبدالله بن نافع بن ثابث بن عبد الله بن الزبير بن العوام الأسدي القرشي(ت216هـ وقيل 210هـ).

الهوامش:


[1]  : انظر المقدمة التي كتبها المحقق الشيخ محمد الشاذلي  لكتاب موطأ الإمام مالك برواية ابن زياد.

[2] :كشف المغطى: محمد الطاهر بن عاشور ج1ص27.

[3] كشف المغطى:ج1ص 29 – اصطلاح المذهب عند المالكية: محمد إبراهيم أحمد علي ص 93.

[4] المسوى :ولي الله الدهلوي ج1ص(17-30).

[5] – راجع نماذج من هذه الإجابات في كتابنا:مسائل الإمام مالك.

[6] – الموطآت:نذير حماد ص(284- 294).

[7]  : تنوير الحوالك، ج : 1، ص: 285.

[8]  : نفس المرجع، ج : 1، ص: 285.

[9]  : نفس المرجع، ج : 1، ص: 285.

[10] : سورة البقرة، الآية : 186.

[11] : تنوير الحوالك، ج : 1، ص: 285.

[12] : سورة البقرة، الآية : 195.

[13]  : تنوير الحوالك، ج : 1، ص: 285.

[14]  : تنوير الحوالك، ج : 2، ص: 60.

[15] : تنوير الحوالك، ج : 2، ص: 61.

[16]  : تنوير الحوالك، ج : 2، ص: 61.

[17]  : تنوير الحوالك، ج : 2، ص: 60.

[18] : تنوير الحوالك، ج : 1، ص: 23.

[19] : تنوير الحوالك، ج : 1، ص: 23.

[20]  : تنوير الحوالك، ج : 1، ص: 28.

[21] : تنوير الحوالك، ج : 1، ص: 28.

[22]  : تنوير الحوالك، ج : 1، ص: 28.

[23] : تنوير الحوالك، ج : 1، ص: 76.

[24] : تنوير الحوالك، ج : 1، ص : 116.

[25]  : تنوير الحوالك، ج : 1، ص: 318.

[26]  : تنوير الحوالك، ج : 1، ص: 326.

[27]  : تنوير الحوالك، ج : 1، ص : 327.

[28]  : تنوير الحوالك، ج : 1، ص : 331.

[29]  : تنوير الحوالك، ج : 1، ص 346.

[30]  : تنوير الحوالك، ج : 1، ص : 349.

[31]  : تنوير الحوالك، ج : 1، ص : 364.

[32]  : تنوير الحوالك، ج : 1، ص 364.

[33] : تنوير الحوالك، ج : 1، ص : 367.

[34] : تنوير الحوالك، ج : 2، ص : 7.

[35] : تنوير الحوالك، ج : 2، ص : 40.

[36] : تنوير الحوالك، ج : 2، ص: 41.

[37] : تنوير الحوالك، ج : 2، ص : 112.

[38] : تنوير الحوالك، ج : 2، ص : 115

[39] : تنوير الحوالك، ج : 3، ص : 61.

[40] : سورة : .الأنعام  الآية : 141

[41] : تنوير الحوالك، ج : 1، ص : 260.

[42] : تنوير الحوالك، ج : 1، ص : 341.

[43] : تنوير الحوالك، ج : 2، ص : 64.

[44] : تنوير الحوالك، ج : 1، ص : 192 – 193.

[45] : تنوير الحوالك، ج : 1، ص : 296.

[46]  : تنوير الحوالك، ج : 2، ص : 147.

[47] : تنوير الحوالك، ج : 2، ص : 189.

[48] : تنوير الحوالك، ج : 3، ص : 79.

[49]– -نشير إلى أن الإمام مالك –رحمه الله- كانت له عناية بالمصطلح اللغوي في الموطأ،واتخذت مظاهر هذا العمل اللغوي أنحاء متعددة،منها ما يرجع إلى القصد إلى الحقائق الشرعية لتنزيلها على مجالها،بحسب ماأداه إليه اجتهاده في ضبط المعنى المقصود من ذلك اللفظ الشرعي،وذلك مثل لفظ بيع العربان والركاز والنجش ومثل هذا النحو من تقرير الحقائق الشرعية كثير جدا في الموطأ ،وهناك نحو ثان يرجع إلى التعبير عن صورة من الأحكام،أو باب منها بعبارة لم ترد لذلك الباب بخصوصه في لسان الشرع،ولكنها استمدت من تعبير شرعي فيما لايختلف عن المعنى المقصود ،فانتزعت للمعنى المقصود وخصصت به وأصبحت حقيقة عرفية فيه،كتعبير الإمام في الموطأ عن ميراث الولد والدهم أو والدتهم باسم ميراث الصلب،وهو التعبير الذي شاع عند الفرضيين،قال القاضي ابن العربي في القبس:إن ما لكا رضي الله عنه هو أول من عبر بهذه العبارة أخذا من قوله تعالى: ( يخرج من بين الصلب والترائب)،ونحو ثالث يرجع إلى تعبير تقرر عند فقهاء المدينة من قبل اعتمده مالك،وعبر به وطبقه على محله وفصل صوره،كما في لفظ العهدة في تقسيمها إلى عهدة الثلاث وعهدة السنة، ونحو رابع  يرجع إلى التصرف بالإختيار بين لفظين وردا مترادفين في استعمال الحقائق الشرعية،ووقع الإقتصار على أحدهما حتى أصبح تخصصه بذلك مصطلحا عرفيا،وذلك مثل اختياره لفظ القراض على لفظ المضاربة،،ومن ذلك اختيار لفظ الحبس في مقابلة لفظ الوقف،ونحو خامس من الأنحاء التي ورد عليها التصرف اللغوي في الموطأ يظهر في أسماء راجت على ألسنة الناس تبعا لرواج مسمياتها،فعبر بها في مقام تقرير الحكم الشرعي المنطبق عليها،ومثال ذلك بيع العينة وهو البيع بثمن إلى أجل ،ثم اشتراء نفس المبيع بأقل من ذلك الثمن،كما فسرها في القاموس،وقد عنون بها مالك تصور بيع الطعام قبل قبضه،ونحو سادس من هذه الأنحاء هو معان فقهية قال بها الإمام مالك،وارتجل للتعبير عنها ألفاظا تصلح للوفاء بمعناها،ولكنها لم تستعمل عند غيره في خصوص ذلك المعنى ،مثل الإعتصار للرجوع في العطية،وهو في أصل اللغة مطلق الطلب والأخذ،ومثل البيع على البرنامج،الذي جعله عنوانا للبيع بالصفات والمقادير الضابطة،وقد يلتحق بهذه الأنحاء نحو سابع يرجع إلى مجرد الذوق في اختيار التعبير ،أو اختيار المناسبة والترتيب،مما يخترع له الإمام ما انفرد به ولم يسبق إليه،مثل اختراع كتاب الجامع،في ختام الموطأ للمعاني المفردة التي لم يتأت له جمعها في كتاب،فجمعها أشتاتا في كتاب الجامع،ومن ذلك الجوامع التي ختم بها كتبا من الموطأ بجمع المسائل المفردة التي لم تفصل على تراجم مثل جامع الصيام وجامع الحج ،وجامع الطلاق،وجامع البيوع ،فمن هذه الأنحاء السبعة تكونت لكتاب الموطأ قيمة ذات الأثر في وضع المصطلح الخاص بالفقه المالكي،المخالف في كثبر من تفاصيله للمصطلح المأخوذ به في المذاهب الأخرى .- انظر كتاب ومضات فكر : لمحمد الفاضل ابن عاشور ج 1ص61/65.

[50] تنوير الحوالك ج1 ص86.

[51] سورة الجمعة الآية 9.

[52]– تنوير الحوالك ج1ص 87.

[53] تنوير الحوالك ج1 ص249.

[54] تنوير الحوالك ج2 ص150.

[55]– ترتيب المدارك ج2ص170.

[56] ترتيب المدارك ج2ض89.

[57]  تنوير الحوالك:السيوطي ج1ص9- وشرح الزرقاني على موطأ مالك ج1ص13.

[58] أبو عبدالله محمد بن أبي بكر بن أحمد القيسي الدمشقي الشهير بناصر الدين توفي سنة 840،انظر مقدمة تحقيق كتاب إتحاف السالك.

[59] انظرمقدمة اتحاف السالك – ودراسات في مصادر الفقه المالكي ص 257.

[60]– الجرح والتعديل ج8ص278، وتهذيب التهذيب ج10ص 236.

[61]– الجرح والتعديل ج8ص278.

[62]– الجرح والتعديل ج8ص278 وترتيب المدارك ج3ص 149.

[63]– أبو الخطاب عمر بن الحسن بن علي ابن دحية الكلبي، مؤرخ وأديب ومحدث من أهل سبتة،ولي قضاء دانية ورحل إلى مراكش والشام والعراق وخراسان،واستقر بمصر، من مصنفاته النبراس في تاريخ خلفاء بني العباس، توفي سنة 633هـ انظر ترجمته في وفيات الأعيان ج1ص381 والأعلام ج5ص44.

[64]– إتحاف السالك برواة الموطأ عن الإمام مالك ص81.

[65]– الجرح والتعديل ج5ص18،- تهذيب التهذيب ج6 ص28.

[66]– ترتيب المدارك ج3ص198.

[67]– شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك ج1ص13.

[68]– سؤالات السلمي للدارقطني ص193.

[69]– سؤالات السجزي ص238.

[70]– الجرح والتعديل ج5ص181.

[71]– تاريخ الثقات ص279.

[72]– شرح الزرقاني على الموطأ ج1ص.

[73]– سير أعلام النبلاء ج10ص260.

[74]– الجرح والتعديل ج1ص43،- تهذيب التهذيب ج1ص17.ترتيب المدارك ج2ص 347.

[75]  تذكرة الحفاظ ج2ص483.

[76] تذكرة الحفاظ ج2ص483.

[77] تنوير الحوالك ج1ص 9.

[78] تهذيب الكمال في أسماء الرجال ج1ص15.

[79] التمهيد ج2ص 339.

[80]– الجرح والتعديل ج8ص309، وترتيب المدارك ج3 ص 170.

[81] ترتيب المدارك ج3 ص170.

[82]-ترتيب المدارك ج3ص173.

[83] ترتيب المدارك ج3ص133،  تهذيب التهذيب ج10ص158.

[84] إتحاف السالك ص131.

[85] ترتيب المدارك ج3ص151.

[86] ترتيب المدارك ج3ص 157.

الدكتور عبد الله معصر

• رئيس مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوك بالرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق