مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةأعلام

جهود الإمام أبو القاسم عبد العزيز بن موسى بن معطي العبدوسي (837ه) في الحديث الشريف

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد، فإن أهل المغرب كانت لهم عناية خاصة وحرص شديد بالحديث النبوي، ويتجلى اهتمامهم في جوانب كثيرة منها الرحلة للتلقي ووضع المصنفات والشروح، وتميزهم في التدريس. ومن بين هؤلاء الأعلام المغاربة الذين اعتنوا بالسنة النبوية العلامة الحافظ المحدث الشريف أبو القاسم عبد العزيز بن أبي عمران موسى العبدوسي رحمه الله تعالى، وهو أحد أفراد بيت العبدوسي، الذين ظلوا رجالا ونساء حاملين راية الفقه والحديث بفاس زمانا طويلا.

وقد رحل أبو القاسم هذا إلى تونس، ودرس بها، فقضى التونسيون العجب من وعيه للعلوم وكثرة حفظه. ولما رأوا تفرده بإتقان علوم الشريعة من فقه وحديث وتفسير، قالوا إنه لا يحسن غيرها، فاقترحوا عليه أن يقدم لهم درسا في العربية فدرسها أيضا، وبهرهم ما شاهدوه مما هو فوق الطاقة، فأجمعوا حينئذ على إمامته وتفوقه في العلوم، وأنه لا يضاهيه في جمعه وتحصيله أحد من المعاصرين سواء بإفريقيا أو بالمغرب. ولأهمية جهود هذا العالم الجهبذ خصصت له ترجمة تناولت فيها حنكته العلمية وسمته الحسن.

أولا:ترجمته:

اسمه ونسبه:

هو: أبو القاسم عبد العزيز بن موسى بن معطي العبدوسي ابن شيخ الإسلام أبي عمران العبدوسي الفاسي نزيل تونس[1].

ولادته:

لم تذكر المصادر تاريخ ولادته.

شيوخه:

لقد حاولت أن أحصي مشايخ المحدث أبي القاسم العبدوسي الذين كان لهم دور في تكوينه العلمي، بدءا من موطنه فاس، لكن لم أجد المصادر المعينة على ذلك، إلا بعض الإشارات من بعض المؤلفين. نذكر منهم: أحمد بابا التنبكتي الذي قال عنه:”أبو القاسم شيخ الإسلام ابن شيخ الإسلام أبي عمران العبدوسي الفاسي نزيل تونس.أخذ عن أبيه وغيره”[2].

ومن أبرز مشايخه: والده أبو عمران موسى بن محمد بن معطي العبدوسي الفاسي (776ه)[3]، وهو عمدته في أغلب العلوم والفنون، والعلامة ‏محمد بن أحمد الحسني الفاسي المكي (832ه)[4]، فقد سمع منه “أربعة أحاديث من أول أربعينه المتباينة، وهى أحاديث الخلفاء الأربعة الراشدين”[5]، والإمام أحمد بن حجر العسقلاني ( 85ه)[6]، الذي قال عنه:”وكتب لي في استدعاء ولدي بالإجازة. وكان ماهرا في قراءة الحديث سريعا. وينسب إلي مجازفة، وله ببلاده شهرة كبيرة”[7].

تلاميذه:

نهل ثلة من العلماء من علوم المحدث أبي القاسم العبدوسي، وانتفع به الخاص والعام منهم:

عمر بن يوسف اللخمي الإسكندري “التلقوني” (ت771هـ).

قاسم بن عبد الله بن منصور الهلالي الهزبري (ت788ه).

أحمد بن محمد التجاني ابن كحيل التونسي (ت865ه)[8].

إبراهيم بن محمد التازي (ت866هـ)[9].

عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبي، الجزائري، المغربي، المالكي،(ت875ه)[10].

محمد بن قاسم الأنصاري التلمساني التونسي أبي عبد الله ابن الرصاع، (ت894هـ)[11].

ثناء العلماء عليه:

أثنى على الشيخ العبدوسي غير واحد من العلماء منهم:

تلميذه الشيخ الرصاع قال:”شيخنا الإمام العلامة المحدث الصالح الرباني يقال:”اجتمع ليلة في جهاز بالشيخ أبي القاسم البرزلي، وهو أعمى، ولما تكلم العبدوسي قال له البرزلي: أهلا بواعظ بلدنا، فقال له العبدوسي: قل وفقيهها، فسكت البرزلي، فعد ذلك من رجلة العبدوسي وسرعة جوابه، رحمهم الله تعالى”[12].

قال عنه ابن القاضي المكناسي:” كان واسع الباع، والحفظ، والرواية”[13].

وصفه أبو العباس التنبكتي بقوله:”الإمام الحافظ الفقيه المحدث العلامة الجليل”[14].

وقال عنه محمد مخلوف:”الإمام الحافظ العالم الجليل نادرة الزمان في الحفظ والإتقان”[15].

وتحدث عنه الحجوي فقال:”سُئِلَ حافظ فاس بل المغرب، عبد العزيز العبدوسي عن مالك والشافعي فقال: بينهما ما بين قبريهما”[16].

وفاته:

ذكر الونشريسي في وفياته أنه توفي بتونس في التاسع والعشرين في ذي القعدة عام837 ه[17]، وقال ابن صعد التلمساني في شهر ذي الحجة من نفس السنة[18].

ثانيا: الجهود الحديثية لأبي القاسم عبد العزيز العبدوسي.

عنايته بالحديث رواية ودراية:

اعتنى العلامة أبو القاسم عبد العزيز العبدوسي بعلم الحديث الشريف؛ حيث كانت له معرفة دقيقة بالحديث حفظا ورواية ودراية، حتى وصل في قوة الحافظة الدرجة العظمى، “قال القاضي أبو عبد الله بن الأزرق: كتب إلي الشيخ الفقيه الجليل أحد المفتيين بتونس أبو عبد الله الزلديوي يعرفني حاله بالحفظ فيما يقضي منه العجب من الغرابة، قال: ورد علينا في أخريات عام سبعة عشر وثمانمائة الفقيه العالم الحافظ أبو القاسم ابن الشيخ الإمام أبي عمران موسى العبدوسي بكتاب في يده من قبل الإمام أبي عبد الله محمد بن مرزوق، ويقول لنا فيه: يرد عليكم حافظ المغرب الآن، فقلنا: لعل ذلك من تعسيل الإخوان لإخوانهم في الوصية بهم، فلما اجتمعنا به، وأقام عندنا أزيد من عام، رأينا منه العجب العجاب من حفظ، لا نتوهم يكون لأحد لما رأينا في بلادنا إفريقيا ومجالس أشياخنا بتونس وبجاية، كان عندنا بتونس الشيخ أبو القاسم البرزلي سلم له أهل زماننا في حفظ الفقه، وأشياخ المدونة والناس دونه في ذلك، وببجاية الشيخ الفقيه أبو القاسم المشذالي حضرنا مجالسهم، فما رأينا ولا سمعنا من يشبه العبدوسي في حفظه، وعلمنا صدق ابن مرزوق فيما وصفه به، وأن من ورعه ألا يذكر ولا يكتب إلا بما تحقق كما قال الشاعر:

فلما التقينا صدق الخبر الخبر

وقال الآخر: بل صغر الخبر الخبر

وقال الونشريسي في تحليته: إنه الفقيه الحافظ المدرس المحدث الصدر الراوية المعتبر الأرفع الأفضل”[19].

قال ابن صعد التلمساني وهو يتحدث عن سعة اطلاعه في السيرة النبوية:”قرأت بخط من أثق به، أنه كان يدعى بخادم سنة رسول الله، قال: وكان حافظا لسيرته صلى الله عليه وسلم ومغازيه وأيامه، يذكر ذلك في كثير من مجالسه، ثم يتبعه بذكره وزرائه وأزواجه، وأولاده، وسراريه، ومؤذنيه، وأمرائه، ومواليه وحراسه. ثم يستطرد الكلام إلى ذكر خيله وإبله، وسلاحه وبغاله، وحماره وثيابه وفراشه، وراياته وأوانيه، وجميع أحواله صلى الله عليه وسلم قال: ولا يترك شيئا من صفته وكريم أخلاقه وخصائصه، ويسرد ذلك في مجلسه كأنه يمليه من كتاب، ثم يختم ذلك بدعاء يقول في بعضه: اللهم لا تجمع علينا حرمان النظر إلى وجهه صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، يا أرحم الراحمين”[20].

تمكنه من القراءة والحفظ والنسخ:

كان الإمام العبدوسي حافظا لمصنفات الحديث، قائما عليها، ذاكرا لمتونها، وكاتبا لها، جيد الفهم، متوقد الذهن، رحل الناس إليه، وعولوا عليه في الرواية، وسمع منه أعلام تونس وكبارها وفقهاؤها، حتى عد من شيوخ الإسلام ومجتهديه.

يقول عنه ابن صعد وهو يصف رجاحة عقله وموهبته العلمية: “وحدث عنه بعض من قيد عنه قال سمعت سيدي أبا القاسم يقول قرأت البخاري في حصار فاس الجديد في يوم واحد ابتدأته بعد أذان الفجر، وختمته بعد العتمة بقليل، قلت كان سيدي أبو القاسم ممن فتح عليه في حفظ البخاري والقيام عليه نسخا وفهما. رأيت بعض التقاليد أنه نسخ منه ثمان نسخ وربما جعل أكثرها في سفر واحد، ونسخ أيضا من مسلم سبع نسخ، وأما غيرهما من كتب الحديث والفقه فنسخ من ذلك ما لا يأتي عليه العد والإحصاء، وخصوصا شمائل النبي صلى الله عليه وسلم، وكتاب الشفا لعياض، فإنه نسخ منها كثيرا، وهذا من أعظم الكرامات”[21]. 

وأخبر عنه أيضا فقال:”رأيت النقل عن الشيخ سيدي محمد بن مرزوق أنه كان يقول سيدي أبو القاسم حافظ المغرب في وقته، وإمام الدنيا؛ لأن الله أجرى عادته في علماء الإسلام أن يبارك لأحدهم في قراءته والآخر في إلقائه وتفهيمه ولآخر في نسخه وجمعه وعبادته”[22].

وقال المحبي:” وحُكي أن حافظ المغرب العبدوسي قرأ البخاري بلفظه أيام الاستسقاء في يوم واحد”[23].

تصدره للتدريس:

أمضى الشيخ أبو القاسم العبدوسي حياته في التعليم والإفادة والتوجيه، محافظا على دروسه، وملازما لها، لا تعطله عنها وظيفة، ولا يشغله عنها شاغل، وكانت له معرفة تامة بمتون الأحاديث ورواتها جرحا وتعديلا، فسعة اطلاعه أهلته لإلقاء دروس الحديث، وإقراء كتب السنة في مساجد تونس، فأعجب به خاصتهم وعامتهم، قال عنه الحجوي في حلقة درسه:”الإمام الحافظ، المتقن، الجامع، المتفنن، الذي اعترف حفاظ وقته بأنه أحفظ أهل الأرض، وأوسع العلماء علما في الطول والعرض، حامل لواء المذهب في وقته شيخ الإسلام، وابن شيوخ الإسلام بيت اشتهر بفاس فضله، وسلم له الأئمة الأعلام، قد أعجب به علماء تونس وأمراؤها لما ورد عليهم، وعطلت دروس جامع القصر وقت تدريسه، وصار جميع العلماء يحضرون إلقاءه، ويستفيدون منه مدة نحو عشرين سنة”[24].

فدروس  أبو القاسم العبدوسي كانت تملأ مساجد تونس، يحضرها العلماء والأماثل والأكابر، حيثما حل وارتحل؛ إذ خدمته للحديث الشريف شملت التفنن، والتصرف الكامل في فهم معانيه إلى اضطلاعه بتفسير القرآن، وفنون اللغة العربية، ومهارته الفقهية في أسلوب جزل أنيق، يقوم على البيان والسلاسة، والتحقيق والتدقيق في العبارة، تتخلله النكت الفقهية والنحوية والبلاغية، واللمحات الذكية الرشيقة في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين وأخبار السلف.

ثم ينتقل إلى شرح المدونة مبرزا ا أقوال أعلام المذهب المالكي على اختلاف طبقاتهم ومدارسهم، وتميز منهجه بالتقصي والتحقيق والمقارنة بفضل اطلاعه الواسع وقريحته المتوقدة.   

ويخبرنا  أبو عبد الله الزلديوي مفتي تونس عن مجلسه فيقول:”تركت درسي، وحضرت درسه، فرأيت شيئا لا يدرك إلا بعناية ربانية، موقوف على من رزقه الله الحفظ، ينفق منه كيف يشاء، قال: لازمناه حضرا وسفرا، وعلمنا طريقه تفكرا ونظرا، فلا يقدر على طريقه إلا من حاز فطنة كاملة الاستواء ممدة من جميع القوى، فمن طريقه إذا قرأ المدونة فاستمع لما يوحى: يبتدئ على المسألة من كبار أصحاب مالك، ثم ينزل طبقة حتى يصل إلى علماء الأقطار من المصريين والأفريقيين والمغاربة والأندلسيين وأئمة الإسلام وأهل الوثائق والأحكام حتى يمل السامع، وينقطع عن تحصيله المطالع، وكذا انتقل إلى الثانية وما بعدها، هذا بعض طريقه في المدونة، وأما إذا ارتقى إلى كرسيه في التفسير، فترى أمرا معجزا ينتفع به من قدر له النفع من الخاصة والعامة يبتدئ بأذكار وأدعية مرتبة لذلك يكررها كل صباح يحفظها الناس، ويأتونها من كل فج عميق يتسابقون في حفظها وبعد ذلك يقرأ القارئ آية، فلا يتكلم بشيء منها إلا قليلا، ثم يفتتح فيما يناسبها من الأحاديث النبوية وأخبار السلف، وحكايات صوفية، وسير شريفة نبوية وصحابية وأخبار التابعين وتابعيهم، ثم بعدها يرجع للآية، وربما أخذ في نقل الأحاديث فيقول: الحديث الأول كذا، والثاني كذا، والثالث كذا، إلى المائة فأزيد حتى يختمها، ثم كذلك في المائة الثانية، ونشك في المائة الثالثة، ويأتي في نظر ذلك ونقلها بأمر خارق للعادة، هكذا فعل في مسجد القصر وغيره، وكان الناس يتسابقون إلى المواضع قبل الصبح رجالا ونساء، يتزاحمون عليها، وفي خارج المسجد أكثر مما في داخله، وصوته جهير يسمع الكل، ومنع السلطان من يخلط عليه ويحيره من الطلبة، وإلا فطلبة تونس لا يردهم ذلك عمن لا يشاركهم في علومهم يأتونه من قبلها، وما تصدى لمعارضته إلا شيخنا أبو العباس المعقلي حرض الطلبة تحريضا عاما، ويقول: إنا لله خلت تونس حتى صار هذا يتكلم فيها بما يشتهي، ولكن خافوا من السلطان رحمه الله، وهذه الطريق قالوا إن ابن أخيه عبد الله يفعلها بفاس بالقرويين وعملها بمصر، فتعجبوا من حفظه ونقله المتين من الأحاديث وثباته عليها وترتيبه، وتكلموا فيه في العربية، فقرأ لهم ألفية ابن مالك، فسلك مسلكه في المدونة بدأ بالنقل عن أصحاب سيبويه، ثم نزل إلى السيرافي وشراح الكتاب، وطبقات النحويين حتى مل الحاضرون وأذعنوا”[25].

لقد عرف الشيخ بالمنقطع النظير في الحفظ والاستحضار وحسن القول، وقوة العارضة، يكسوه جلالة العلم، لما يعز جمعه من قوة الحفظ ودقيق الفهم ومحكم التقرير.  

وقد روي عن “عمر الرجراجي، وكان من أساتيذ وقته وحافظ زمانه أنه قيل له: كيف تحضر مجلس العبدوسي، وهو ولد صغير وأنت أنت. فقال لهم: إن الله تعالى قد جعل معه بركة فما أنظر أنا في شهر، أسمعه من العبدوسي في مجلس واحد”[26].

نستشف من هذا الخبر المكانة العلمية المرموقة التي تتمتع بها أبو القاسم العبدوسي، وهو في ريعان شبابه ومقتبل عمره، حيث هرع علماء زمانه إلى مجالسه للأخذ عنه والتعلم منه، فحاز بذلك رياسة العلم، والدرجة العليا بين أقرانه.

وتميزت دروسه بالإتقان والدقة، فقد كان يعلم ويفيد، ويقرئ ويسمع، لا يسأم ولا يفتر، ويسند في مجلسه عن شيوخه بالسند المتصل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:”أنا مدينة اليقين وأبو بكر بابها، وأنا مدينة الشجاعة وعمر بابها، وأنا مدينة الحياء وعثمان بابها، وأنا مدينة العلوم وعلي بابها”[27].

فضائله وكرماته:

ومن بركة تعلق أبي القاسم العبدوسي بالحديث النبوي، ذكر الشيخ أحمد بن أحمد بابا التنبكتي في نيل الابتهاج آخر ترجمة الإمام عبد العزيز العبدوسي عن الشيخ أبي عبد الله الرصاع “أن صاحب الترجمة، كان يقول في مجلسه بجامع القصر من تونس مما جرب لتسهيل الرزق، والأمان، والتحصن من آفات الزمان، أن تكتب في ورقة، ويجعل على الرأس مناقب السادات الكرام من الصحابة جمعهم من كتب عديدة أثنى عليهم سيد المرسلين  صلى الله عليه وسلم  قال الرصاع: وقد قيدتها قديما ووجدت لها بركات في جميع الحالات.

قال رضي الله عنه وهي قال صلى الله عليه وسلم:«من أحب أبا بكر، فقد أقام الدين، ومن أحب عمر بن الخطاب، فقد أوضح السبيل، ومن أحب عثمان بن عفان، فقد استضاء بنور الله، ومن أحب علي بن أبي طالب، فقد استمسك بالعروة الوثقى، ألا وإن أرأف أمتي بأمتي أبو بكر، وإن أقواهم صلابة في دين الله عمر بن الخطاب، وإن أشدهم حياء عثمان بن عفان، وإن أقضاهم علي بن أبي طالب، ولكل نبي حواري، وحواريي الزبير، ومن أراد أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض، فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد من أحباب الرحمن، وسعد بن أبي وقاص يدور مع الحق، وعبد الرحمن بن عوف تاجر الله، وأبو عبيدة بن الجراح أمين الله، وما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء أصدق لهجة من أبي ذر. ومن أراد أن ينظر إلى زهد عيسى، فلينظر إلى زهد أبي ذر، وإن الله ليرضى لرضا سلمان، ويسخط لسخط سلمان، وإن الجنة لتشتاق إلى سلمان أشد من اشتياق سلمان إلى الجنة، ولكل أمة حليم، وحليم هذه الأمة أبو هريرة، وحذيفة بن اليمان من أصفياء الرحمن، وإن أعلم الناس بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وإن أعلم الناس بالفرائض زيد بن ثابت، وإن أقرأ أمتي أبي بن كعب، وحمزة أسد الله وأسد رسوله. وخالد بن الوليد سيف الله وسيف رسوله، وجعفر بن أبي طالب ذو الجناحين في الجنة، يطير بهما فيها حيث يشاء، والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأبوهما خير منهما، والعباس عمي وصنو أبي، ورضيت لأمتي ما رضي لها عبد الله بن مسعود، وصوت أبي طلحة في الجيش خير من مائة أو خير من فئة، ولكل نبي خادم وخادمي أنس بن مالك، ولكل نبي خليل وخليلي سعد بن معاذ، ولكل أمة فارس وفارس القرآن عبد الله بن العباس، وأول من يقرع باب الجنة بلال، وإن أول من يأكل من ثمارها أبو الدحداح، وإن أول من تصافحه الملائكة أبو الدرداء، وإن أول من يرد حوضي صهيب بن سنان، والمقداد بن الأسود من المجتهدين، وعمار بن ياسر من الصديقين، وعبد الله بن عمر من وفود الرحمن، وإن أفضل النساء آسية ومريم وخديجة وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام، ونسائي خير نساء هذه الأمة، وأحبهن إلي عائشة، وأصحابي كلهم كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم، ومن أحب أصحابي فقد أحبني، ومن أبغض أصحابي فقد أبغضني، ألا وإن عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا».

هذه وصية نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في ساداتنا، نفعنا الله بهم، وحشرنا في زمرتهم، ونرغب من حامل هذا الكتاب أن يعطي منه نسخا للمؤمنين والسلام من كاتبه محمد بن قاسم الرصاع اهـ.

نقلته من خط والدي، قائلا نقلته من خط عبد العزيز بن إبراهيم بن هلال، قال نقلته من خط الرصاع، وقد رأيت لعمي نزيل المدينة الحاج أبي بكر بن أحمد شرحا على هذه المناقب رحمه الله اهـ بلفظه“[28].

ويخبرنا ابن صعد التلمساني عن كرامة حصلت لأبي القاسم العبدوسي مع السلطان، حيث يقول:”وكان ملك الوقت أمير المؤمنين مولاي أبو فارس يعتني به، ويفضله على علماء حضرته، ويسارع لقضاء حاجته، وقبول شفاعته، ثم إن بعض الحسدة المارقين من الدين، الطاعنين على أولياء الله الزاهدين، دس للخليفة أن سيدي أبا القاسم يستعمل الكيمياء، وحقق عنده ذلك، واستدل عليه بكثرة ما يخرج مزيده من الصدقات، والصلاة لطلاب العلم وغيرهم، فبينما سيدي أبو القاسم يوما في داره إذا بحاجب الخليفة يدق عليه، أن قم لأمير المؤمنين فقام إليه، وأدخله وليس معه سوى حاجبيه، فقال له سيدي أبو القاسم: ما جاء بك في هذا الوقت؟ فقال له: بلغني أنك وصلت لحقيقة علم الكيمياء، وأنك تستعملها فنريد معرفتها، فقال له: نعم. ثم قام فتوضأ، ولبس أحسن ثيابه، وتطيب، وأخذ كتاب البخاري وجعل يقرأه بسكينة ووقار، فينما هم كذلك، وإذا برجل يدق الباب فأذن له، فدخل، فأعطى للشيخ صرة من الذهب وانصرف، ثم رجع الشيخ لقراءته، وإذا برجل كذلك معه صرة من الذهب أو فضة، وثالث ورابع إلى أن اجتمع من ذلك عدة صرر، ثم ختم الشيخ القراءة، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ودعا ثم أقبل على الخليفة، فقال له: هذه الكيمياء التي عند محبكم، فبكى السلطان، فقال له: بارك الله فيك، فيما أتاك، وأطال عمرك، وأبقاك، وجزاك عن الإسلام خيرا، وانصرف عنه على حالة عظيمة من الاعتباط والتعظيم له، رحم الله جميعهم”[29].

رئاسته للفتوى:  

بلغ الإمام أبو القاسم العبدوسي المراتب العليا في العلم، حتى أصبح يعود إليه العلماء؛ ليجيزهم، ويأذن لهم في الإفتاء والتدريس، فقد “لقيه الشيخ عمر ابن يوسف البسلقوني في سنة إحدى وعشرين وأذن له في الإفتاء والتدريس”[30].

-مصنفاته:

أما جهود الشيخ في التأليف فلم أجد شيئا منها يذكر-هذا بعد بحث وتنقيب- فربما يكون انشغاله بالتدريس والإقراء منعه من التأليف، كما هو حال كثير من العلماء الأفذاذ الذين تفرغوا للتعليم والتربية؛ لإعداد علماء يحملون لواء الدعوة والإصلاح.

من خلال هذه السيرة العلمية المباركة للعلامة الحافظ أبي القاسم عبد العزيز العبدوسي، يتبين لنا أنه شيخ ألمعي في الصناعة الحديثية مع مهارته الفائقة في سائر العلوم والفنون، ونبوغه هذا يمنحه بحق لقب حافظ المغرب في عصره، وثناء العلماء عليه، وإشادتهم بتفوقه على أقرانه في جميع علوم الشريعة. ففضل أبي القاسم العبدوسي بارز للعيان، على الرغم من قلة المصادر المعتنية بترجمته ومؤلفاته وشيوخه.

**************************

هوامش المقال:

[1] – نيل الابتهاج بتطريز الديباج، ص270.  شجرة النور الزكية في طبقات المالكية، 1 /363-364. درة الحجال في أسماء الرجال، 3/126.

[2] – نيل الابتهاج بتطريز الديباج، ص270.

[3] – الرحلة العياشية للبقاع الحجازية، 2 /268. شجرة النور الزكية في طبقات المالكية، 1/ 338. الوفيات لابن قنفذ، ص369. درة الحجال في أسماء الرجال، 3 /6. نيل الابتهاج بتطريز الديباج، 1 /605.

[4] – العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين، 2 /71.

[5] – العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين، 2 /58. نشر الرياحين في تأريخ البلد الأمين: تراجم مؤرخي مكة وجغرافييها على مر العصور، ص538.

[6] – الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر، ص9.

[7] – المجمع المؤسس للمعجم المفهرس، 1 /216.

[8] – تراجم المؤلفين التونسيين، 1 /153.

[9] – نيل الابتهاج بتطريز الديباج، ص61.

[10] – الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، 4 /152.

[11] – شجرة النور الزكية في طبقات المالكية، 1 /364. تراجم المؤلفين التونسيين، 2/ 358.

[12] – نيل الابتهاج بتطريز الديباج، ص72.

[13] – درة الحجال فى أسماء الرجال، 3 /281.

[14] – نيل الابتهاج بتطريز الديباج، ص270.

[15] – شجرة النور الزكية في طبقات المالكية، 1/ 363-364.

[16] – الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، 1 /451.

[17] -وفيات الونشريسي ص88-89. شجرة النور الزكية في طبقات المالكية، 1/ 364.

[18] – روضة النسرين في التعريف بالأشياخ الأربعة المتأخرين، ص223. درة الحجال في أسماء الرجال، 3 /282.

[19] – نيل الابتهاج بتطريز الديباج، ص270-271.

[20] – روضة النسرين في التعريف بالأشياخ الأربعة المتأخرين، ص219.

[21] – المصدر السابق، ص220.

[22] – روضة النسرين في التعريف بالأشياخ الأربعة المتأخرين، ص220.

[23] – خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر، 1/ 73.

[24] – الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، 2/ 298.

[25] – نيل الابتهاج بتطريز الديباج، ص271-272. الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، 2/ 298-299.

[26] – روضة النسرين في التعريف بالأشياخ الأربعة المتأخرين، ص220.

[27] – روضة النسرين في التعريف بالأشياخ الأربعة المتأخرين، ص222-223.  لم أقف على هذا الحديث باللفظ المذكور، لكن وجدت لفظا قريبا منه في “بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما لها وما عليها” لابن أبي جمرة، وهو:”أنا مدينة السخاء وأبو بكر بابها، وأنا مدينة الشجاعة وعمر بابها، وأنا مدينة الحياء وعثمان بابها، وأنا مدينة العلم وعلي بابها”، 1/ 105.

[28] – نيل الابتهاج بتطريز الديباج، ص273-274.

[29] – روضة النسرين في التعريف بالأشياخ الأربعة المتأخرين، ص221.

[30] –  الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، 4/ 236. توشيح الديباج وحلية الابتهاج، ص108. نيل الابتهاج بتطريز الديباج، ص305.

**********************

لائحة المصادر والمراجع

 بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما لها وما عليها شرح مختصر صحيح، ابن أبي جمرة، المطبعة الخيرية-القاهرة، الطبعة الأولى: 1348هـ.

تراجم المؤلفين التونسيين، محمد محفوظ، دار الغرب الإسلامي بيروت-لبنان، الطبعة الأولى 1982.

توشيح الديباج وحلية الابتهاج، محمد القرافي، تحقيق علي عمر، مكتبة الثقافة الدينية، الطبعة الأولى: 1452ه-2004م.

الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر، أبو الخير محمد السخاوي، تحقيق: إبراهيم باجس عبدالمجيد، دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت-لبنان، الطبعة: الأولى، 1419هـ- 1999م.

خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر، محمد أمين المحبي، دار صادر–بيروت، تاريخ النشر1990م.

درة الحجال فى أسماء الرجال، ابن القاضي المكناسي، تحقيق محمد الأحمدي، دار التراث (القاهرة)-المكتبة العتيقة (تونس)، الطبعة الأولى:1391هـ- 1971م.

الرحالة العياشية للبقاع الحجازية المسمى ماء الموائد، عبد الله بن محمد العياشي، تحقيق سعيد الفاضلي وسليمان القرشي، دار السويدي للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى:2006م.

روضة النسرين في التعريف بالأشياخ الأربعة المتأخرين، محمد بن صعد الأنصاري التلمساني، مراجعة وتحقيق يحيى بوعزيز، عالم المعرفة للنشر والتوزيع- الجزائر، طبعة خاصة 2009م.

شجرة النور الزكية في طبقات المالكية، محمد مخلوف، خرج حواشيه وعلق عبد المجيد الخيالي، دار الكتب العلمية، لبنان، الطبعة الأولى: 1424هـ-2003م.   

الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، محمد بن عبد الرحمن السخاوي، دار مكتبة الحياة-بيروت.

العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين، تقي الدين محمد المكي، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة: الأولى، 1998م.

الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، محمد الحجوي الثعالبي، دار الكتب العلمية -بيروت-لبنان، الطبعة الأولى: 1416ه-1995م. 

 المجمع المؤسس للمعجم المفهرس، أحمد بن حجر العسقلاني، تحقيق: الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشلي، دار المعرفة-بيروت، الطبعة: الأولى، 1413هـ-1992م.

نشر الرياحين في تأريخ البلد الأمين: تراجم مؤرخي مكة وجغرافييها على مر العصور، عاتق بن غيث البلادي،  دار مكة للنشر والتوزيع، سنة النشر: 1415ه-1994م.

نيل الابتهاج بتطريز الديباج، أحمد بابا التنبكتي، عناية وتقديم: عبد الحميد عبد الله الهرامة، دار الكاتب، طرابلس-ليبيا، الطبعة الثانية:2000م.

وفيات الونشريسي، أحمد بن يحيى الونشريسي، تحقيق محمد بن يوسف، شركة نوابغ الفكر.

الوفيات، أبو العباس أحمد ابن قنفذ القسنطيني، تحقيق: عادل نويهض، دار الآفاق الجديدة، بيروت، الطبعة: الرابعة، 1403هـ-1983م.

راجعة المقال الباحثة: خديجة ابوري، والباحث: يوسف أزهار

Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق