مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

جمالية العبادة: الشوق إلى الله تعالى

د. مصطفى بوزغيبة                       

باحث بمركز الإمام الجنيد              

   تختزن العبادة في الإسلام معاني عظيمة، وتكتنز في أعماقها دررا جليلة، فهي كمياء السعادة الحقيقية التي تمد قلوب السالكين بمعاني القرب والأنس بالله تبارك وتعالى وتشحن هممهم بالتعلق به وملازمة أعتابه، وتُلهب نار الحب والشوق إلى لقائه، إنه مقام القرب والمشاهدة، الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: {أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك}[1] فمن تحقق به وذاق برد حلاوته، فهو الفائز بالنعيم الأبدي، والحياة الطيبة، فحياة المشتاقين إلى الله تعالى كلها لذة وجمال، فهم بذكر حبيبهم يتلذذون، وإلى مشاهدة جماله وجلاله يتنعمون، قد أحرق الشوق أضلعهم، وألهب أفئدتهم. فلا يقر لهم قرار ولا يهنئ لهم بال، حتى يتملوا بالنظر في وجه حبيبهم وقرة عينهم، لذلك يتمنون لو يسرع بهم أجلهم للقاء بهجة روحهم وإثمد عيونهم، قال أبو الدرداء: “أحب الموت اشتياقا إلى ربي”[2]، وكان عبد الله بن أبي زكريا يقول: “لو خيرت بين أن أعمِّر مئة سنة من ذي قبل في طاعة الله أو أن أقبض في يومي هذا، أو في ساعتي هذه، لاخترتُ أن أقبض في يومي هذا، أو في ساعتي هذه شوقا إلى الله، وإلى رسوله، وإلى الصالحين من عباده”[3]. قال أحمد بن حامد الأسود لعبد الله بن المبارك[4]: “رأيت في المنام أنك تموت إلى سنة، فلو استعددت للخروج، فقال له عبد الله بن المبارك: لقد أجلتنا إلى أمد بعيد، أعيش أنا إلى سنة!؟ لقد كان لي أُنس بهذا البيت الذي سمعته من هذا الثقفي يعني أبا علي:

يا من شكا شوقه من طول فرقته    اصبر لعلك تلقى من تحب غدا”

ففي “المواعظ” 14 لابن الجوزي أن بعض العابدات كانت تقول: والله لقد سئمت الحياة حتى لو وجدت الموت يباع لاشتريته شوقاً إلى الله وحباً للقائه، فقيل لها: على ثقةٍ أنت من عملك؟ قالت: لا والله؛ لحبي إياه وحسن ظني به، أفتراه يعذبني وأنا أحبه:

يا ناظرَ العينِ قُل هَل ناظرتَ عينِى       إِليكَ يوماً وهَل تَدنُو مِنَ البين
اللَهُ يعلَمُ أَني بعـدَ فُرقَتِكُــــم        كطائرٍ سَلَبوهُ مِن الجنَاحَيــن
ولَو قدِرتُ ركبتُ الريح نحـوَكُـم        فإِنَّ بُعدِي عَنكم قد حَنَا حيـن

فلولا أنهم يتعللون باللقاء لقطعت أكبادهم شوقا، ولاشتعلت قلوبهم نارا، من فرط حبهم وهيامهم بحبيبهم.

قال أحدهم[5]:

لولا التعلل بالـرجاء لقطعت    نفس المحب صبابة وتشوقـا

ولقد يكاد يـذوب منه قلبـه    مما يقاسي حسرة وتحرقــا

حتى إذا روْح الرجاء أصابه    سكن الحريق إذا تعـلَّل باللقا

هذا الشوق الحار والحب الوقاد، الذي فاضت به قلوب السالكين وسالت بها أقلامهم، يبعث في النفوس همة عالية وشعور جميل يسري في الروح، ويروي القلوب المتعطشة لزلال الحضرة العلية، هذه التجربة السلوكية الصوفية تغرينا حقا بأن نخوض غمارها ونسلك طريقها.

فيا لها من معاني ورقائق لا يستشعرها إلا من هبت نسمات القرب عليه بعد طول الانتظار، ففاض قلبه وأرواحه حبا وعشقا، وبُشر بنيل الوطر ولسان حاله يقول:

من ذا يبشرني بيوم اللقاء     أعطيه من فرط السـرور ردائي

 لو لم أكن عبـدا لكـنت      وهبته روحي وتلك هدية الفقراء

ويقول أحد الهائمين:

نسيم القرب هب على الندامى       فأسكرهم ومـا شربوا المدامة

ومالت منهم الأعطاف ميـلا        لأن قلوبهم مـلئت غـرامــا

وناداهم عبادي لا تنـامـوا        ينال الوصل من هجر المـناما

وما مقصودهم جنات عـدن        ولا الحور الحسان ولا الخياما

                 سوى نظر الجليل فذا مناهم        فيا بشرى لهم قوم كـرامــا                 

هذا الشوق الكبير إلى الحبيب، لا يمكن وصفه؛ فهي عبرات لا يفهمها إلا المشتاق، وأحاديث وترانيم لا تروق إلا للعشاق، بل هي أذواق يعيشها المحب؛ وتسري في قلبه وروحه ووجدانه وجسمه؛ فيستسهل كل صعب، ويسترخص كل غال ونفيس، ويبذل في سبيل حبه كل مجهود، ويستعذب الموت، ويستطيب الفوت لما عاين جمال حبيبه، ولم ير طعم الراحة إلا في جنبات أعتابه، ولا يذوق الطمأنينة إلا في رحاب حبيبه.

لولا مدامعُ عشاق ولوعتهـم        لبان في الناس عز الماء والنار

فكل نار فمن أنْفَاسِهم قـدحت       وكل ماء فمن دمع لهم جار[6]

فهذا حال المشتاقين وحال المحبين لا يفترون لحظة عن ذكر حبيبهم وقرة عينهم وبهجة نفوسهم، لا يعزب عنهم محبوبهم طرفة عين، فإذا تكلموا نطقوا به، وإذا سكتوا أمعنوه بقلوبهم وفكرهم، قال سلطان العاشقين ابن الفارض:[7]

فإن حدثوا عنها فكُلي مسامع      وكلي إن حدثهم ألسُن تتلو

وقال أحدهم:

ما عنك يشغلني مال ولا ولد       نسيت باسمـك ذكر المـال والولـد

فلو سفكت دمي في التـرب       لانكتبت به حروفك لم تنقص ولم تزد

 وقد ذكر ابن الجوزي أن أحد الهائمين وهو أبو العباس أحمد الرفاعي مات بسبب أبيات أُنشدت بين يديه، وهي أبيات كلها شوق حارق، ومعنى فياض نابع من قلب متعلق بالملأ الأعلى، فتواجد الشيخ أحمد الرفاعي عند سماعها تواجدا كان سبب مرضه الذي مات فيه، وكان المنشد لها الشيخ عبد الغني بن نقطة حين زاره وهي:

إذا جن ليلي هـام قلـبي بذكركُم     أنوح كما ناح الحمـام المُطوق

وفوقي سحاب يُمطر الهم والأسى     وتحتي بحار بالأسـى تتدفـق

سلوا أُمَّ عمرو كيف بات أسيرها      تُفَكُ الأسارى دونه وهو مُوثق

فلا هو مقتول ففي القتـل راحة      ولا هُو مأسور يُفك فيُطلـقُ[8]

فهذه المعاني الروحية التي ينتعش لها القلب وتطرب لها الروح، تغرينا بخوض غمار التجربة الروحية، والغوص في أسرار العبادة، وتذوق جماليتها، والعيش في أحضانها، لعلنا نصيب من نفحاتها ما يجعلنا نسعد ونحيى حياة أهل النعيم في الحال والمآل.

ثبت المصادر والمراجع

● تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، لشمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، حققه وضبط نصه وعلق عليه: بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي، الطبعة:  الأولى، سنة 1424هـ  2003م.

● تهذيب الكمال في أسماء الرجال، لجمال الدين أبي الحجاج يوسف المزي، تحقيق: بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، ط1، 1408هـ/1988م.

● ديوان ابن الفارض، لابن الفارض، دار صادر، بيروت – لبنان، بدون طبعة ولا تاريخ.

● الرسالة القشيرية في علم التصوف، لابي القاسم عبد الكريم القشيري، 330. تحقيق: معروف مصطفى زريق، المكتبة العصرية، صيدا بيروت، سنة 1426هـ/2005م.

● شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد الإمام شهاب الدين أبي الفلاح عبد الحي بن أحمد بن محمد العكري الحنبلي الدمشقي،  أشرف  على تحقيقه وتخريج أحاديثه: عبد القادر الأرناؤوط، وحققه وعلق عليه: محمود الأرناؤوط، دار ابن كثير، دمشق، بيروت، ط1، 1406هـ 1986م.

● الطبقات الكبرى لابن سعد، 7/392. تقديم: إحسان عباس، دار صادر، بيروت، ط1/ 1418هـ/1998م.

● مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، لابن قيم الجوزية، 3/44. تحقيق: عماد عامر، دار الحديث القاهرة، بدون ط، سنة 2005هـ.

هوامـش 


[1] متفق عليه.

[2] الطبقات الكبرى لابن سعد، 392/7. تقديم: إحسان عباس، دار صادر، بيروت، ط1/ 1418هـ/1998م.

[3] تهذيب الكمال في أسماء الرجال، لجمال الدين أبي الحجاج يوسف المزي، تحقيق: بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، ط1، 1408هـ/1988م.

[4] الرسالة القشيرية في علم التصوف، لابي القاسم عبد الكريم القشيري، 330. تحقيق: معروف مصطفى زريق، المكتبة العصرية، صيدا بيروت، سنة 1426هـ/2005م.

[5] مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، لابن قيم الجوزية، 44/3. تحقيق: عماد عامر، دار الحديث القاهرة، بدون ط، سنة 2005هـ.

[6] تاريخ الإسلام، 779/7.

[7] ديوان ابن الفارض، 138.

[8] شذرات الذهب، 430/6.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق