وحدة المملكة المغربية علم وعمرانمعالم

جامع الأندلس بفاس

محمد بن عبد العزيز الدباغ

تنقسم فاس إلى عدوتين : عدوة الأندلس وعدوة القرويين، أما الأولى فبناها المولى إدريس سنة 192 هـ وأما الثانية فبناها بعد ذلك بسنة.
أن المولى إدريس حينما كان بمدينة وليلي وفد عليه عدد وافر من الأندلسيين والقيروانيين فكان من الضروري أن يفكر في تأسيس مدينة تضم الوافدين وتجمع أسرهم وتلائم أحوالهم فما كان منه إلا أن بنى مدينة فاس.
كانت المدينة أول الأمر صغيرة وكان البناء فيها يقتصر على ناحية كرواوة وما جاورها حيث بنى المولى إدريس مسجدا صغيرا سماه مسجد الأشياخ ولكن الوفود كانت تتوالى عليه وتنضم إلى دولته وتستظل بحمايته فضاقت المدينة وعمد إلى بناء الضفة الأخرى حيث بنى دورا للسكنى ومسجدا آخر عرف فيما بعد بمسجد الشرفاء.
إن العدوة الأولى كانت مسكنا للأندلسيين الذين التجأوا إلى المغرب بعد فرارهم من الحكم بن هشام الذي أوقع بالفقهاء فنسبت إليهم وأما العدوة الثانية فقد استقر بها المولى إدريس مع بعض القيروانيين فعرفت بعدوة القروانيين.
إن هاته الهجرة التي قام بها القيروانيون والأندلسيون إلى مدينة فاس كانت سببا في نهضتها العلمية والاقتصادية وسببا في ازدهارها وترقيتها وعاملا فعالا في نشر اللغة العربية بين أرجائها وتعميم هاته اللغة من بعد في بلاد المغرب.
وإن الاهتمام الذي أولاه المولى إدريس لهؤلاء المهاجرين جعل الهجرة إلى هاته المدينة يعلو رقمها يوما فيوما وجعلها تستمر ولو بعد وفاته حتى بلغت رقما قياسيا أيام حفيده يحيى بن محمد الذي تولى الملك سنة 234هـ.
إن كثرة الوافدين على مدينة فاس أيام هذا الملك العظيم كانت سببا في عمرانها وحيويتها وتمكين نفوذها في باقي أجزاء المملكة ولكن ليس من المعقول أن تظل المدينة كما كانت من قبل لأن الضرورة أصبحت تدعو إلى الزيادة فيها وإلى توسيعها وإلى تهيئ المساجد الكافية للصلاة والتعليم فقد كان المسجد في بلاد الإسلام يعتبر مركزا ثقافيا يتلقى فيه المسلمون دروس دينهم ولغتهم بعد أن يؤدوا فيه صلواتهم ولم يعد المسجدان اللذان كانا بالمدينة كافيين لهذا الجم الغفير من السكان بل أصبح الواقع يدعو إلى التفكير في بناء مساجد أخرى وكانت أريحية المسلمين تدعوهم إلى الاهتمام بشؤون دينهم وإلى العمل على تركيز أسسه وإلى إنفاق الأموال في سبيل ذلك ولكنهم كانوا يخشون أن ينفقوا مالا حراما في شيء من هذا لذلك كانوا ينتظرون الفرصة حتى يملكوا مالا لا شبهة فيه وحينئذ تطمئن قلوبهم إلى أن يحققوا بعض المشاريع الدينية وهذا ما وقع بالفعل أيام يحيى بن محمد بن إدريس فإن أسرة قيراونية كانت تسكن عدوة القيروانيين تتكون من رجل اسمه محمد الفهري القيرواني ومن ابنتين له إحداهما اسمها فاطمة والثانية اسمها مريم فلما مات هذا الأب خلف مالا كثيرا ففكرت فاطمة في بناء جامع القرويين بهذا المال الموروث وفكرت أختها مريم في بناء جامع الأندلس وشرعتا في ذلك سنة 245 هـ.
إن هذا الشعور الديني الذي شع من هاتين المرأتين ليعد مفخرة من مفاخر المرأة العربية المسلمة وليعتبر من أقوى مظاهر الرقي الفكري عند نسائنا في الماضي، وأن تفكير السيدة مريم القيروانية لنستدل به على الانسجام الذي كان سائدا بين سكان فاس أيام الأدارسة وعلى التآلف الحاصل بين عدوتيها وأن ما وقع من التناحر أيام المغراويين بين هاتين العدوتين إنما كان أساسه الخلاف الحاصل بين الحاكمين.
ولما تم المسجد بالبناء أقبل الناس عليه واهتموا به إلا أنه لم يصبح مسجدا جامعا تقام فيه الخطبة إلا في أيام الزناتيين الموالين للأمويين بالأندلس سنة 345 هـ بعد مائة عام من تأسيسه (*) فقد زاد فيه الأمير أحمد ابن أبي بكر الزناتي زيادة كثيرة ونقل إليه الخطبة من مسجد الأشياخ.
وبعد نقل الخطبة إليه أصبح له دور سياسي خطير لأن منبر المسجد كان يوجه الشعب حسب آراء الدولة الحاكمة ويشرح للرعايا نظام الحكم الجديد ويحلل لهم المبادئ والخطط التي يسير عليها الملوك الحاكمون خصوصا في تلك الفترة الحاسمة التي كان المغرب يعيش فيها مهدد الجانبين وتحاول كل من الدولة الفاطمية التي كانت قد تأسست بتونس سنة 297هـ والدولة الأموية بالأندلس أن يكون تحت قبضتهما وكلما حاول الاستقلال عنهما أو الصمود في وجهيهما لقي الأهوال والشدائد، فهذا يحيى بن إدريس بن عمر ابن إدريس أعظم الأدارسة صيتا وأقدرهم على مجابهة الأهوال وتسيير الدولة، مني بهجوم العبديين عليه سنة 305 هـ ورغم مقاومته لهم فقد اضطر إلى أن يقيم معاهدة صلح معهم على شرط ذكرهم في المنابر والدعاء لهم في المساجد، ورغم هذه الشروط فقد رجع إليه العبيديون مرة أخرى سنة 309 هـ وبقي سجينا في يد موسى بن أبي العافية ما يزيد على العشرين سنة.
ورأى الأمويون أن سلطتهم بالأندلس ستنهار إذا ما استمر العبيديون بالمغرب لأنهم سيجعلونه ممرا إلى غزوهم ولذلك ارتأى نظرهم أن يحتلوه ويشجعوا فيه الفتن حتى إذا جاؤوا إليه وجدوه طائعا لينا واستخدموا دهاءهم السياسي فأفسدوا العلاقة بين موسى بن أبي العافية والعبيديين سنة 320 هـ وضيقوا الختاق على الدولة الإدريسية التي انتقلت إلى شمال المغرب، وتمكن عبد الرحمن الناصر من سبتة وطنجة وجعلهما مبدأ انطلاقه لاحتلال البلاد وأصبح يقاتل البربر حينا ويستميلهم أحيانا حتى أصبحوا تحت طاعته وماهي إلا أيام حتى احتل مدينة فاس وجعل عليها وليا من الزنانيين هو محمد بن الخير ثم ولى من بعده ابن عمه أحمد بن أبي بكر الذي أبعد الرأي العام عن المسجدين الأولين اللذين كانت تنبعث منهما الدعوة للعبيديين والأدارسة ووجه عنايته إلى إصلاح مسجد الأندلس ومسجد القرويين ونقل الخطبة إليهما.
وكادت فاس تعرف في أيامه نوعا من الاستقرار السياسي وتأمن غوائل الفتن التي كانت تتعاقب عليها وكاد السكان ينسون ما لا قوة من محن وأصبحوا يهتمون من جديد بالثقافة وأصبح مسجد الأندلس منبعا علميا يأوي إليه الطلاب من كل صوب وحدب ينهلون منه غذاءهم الفكري ويستفتون فيه عن قضاياهم الدينية بل كاد يصبح مركزا للفقه المالكي نظرا لما يقوم به علماء المذهب من نشاط تعليمي حينذاك، يقول الجزنائي في كتابه زهرة الآس (*) (إن جماعة من الصلحاء والعباد التزموا جامع الأندلس وتفرغوا فيه للعبادة بعد تحصيل العلم ويقصدهم الناس للفتاوي وطلب العلم والأدب والتماس الدعاء) وذكر منهم الفقيه جبر الله بن القاسم نزيل عدوة الأندلسيين بفاس فقال : (وهو ممن أدخل علم مالك إليها وهو من مشاهير فقهائها ومتقدميهم لقي أصبغ بن الفرج وسمع منه.. وهو ممن لحق دراس بن اسماعيل رحمه الله).
كان جبر الله هذا مطلعا على الفقه المالكي اطلاعا متينا أنه استطاع أن يجيب دراسا عن كل ما تضمنه كتاب ابن المواز.
• قيل أن الخطبة انتقلت إليه سنة 321 هـ في أيام حامد بن حمدان الهمداني عامل العبيديين على فاس
• سلوة الأنفاس لمحمد بن جعفر الكتاني الطبعة الحجرية بفاس الجزء الأول صفحة 356.
وشاء القدر لهاته النهضة العلمية أن يكبح جماحها ولهذا المسجد أن يفقد نشاطه العلمي حين أرسلالعبيديون جيشا عظيما سنة 349 هـ بقيادة قائدهم جوهر فدخل فاسا عنوة وقتل عددا كبيرا من أبنائها وعلمائها وأسر أميرها أحمد بن أبي بكر الزناتي وخمسة عشر من أعيان البلاد وحملهم إلى القيروان وهم في أقفاص من خشب وطاف بهم ثم حملهم بعد ذلك إلى المهدية حيث سجنوا إلى أن ماتوا في السجن.
أن مسجد الأندلس بعد هاته الوقعة فقد مركزه الثقافي وأصبح مقرا سياسيا يوجه السكان إلى خطط جديدة خصوصا بعد أن استقلت كل عدوة عن الأخرى وذلك حينما حاول الأمويون إبعاد شبح العبيديين عن المغرب مرة أخرى فقد أعطوا أمرهم لزيري بن عطية المغراوي باحتلال المغرب فأرسل قائده عسكلان الذي احتل عدوة الأندلس سنة 375 هـ واستغل منبر جامع الأندلس للدعاية لبني أمية وأعلن البيعة لعبد الرحمن الناصر في حين أن عدوة القرويين بقيت في يد العبيديين إلى سنة 376 هـ.
ثم وقع ذلك مرة أخرى حينما استقل فتوح ابن دوناس بن حمامة المغراوي بعدوة الأندلس وأخوه عجيسة بعدوة القرويين.
إن هذا الاضطراب أفقد البلاد ازدهارها وأطفأ شعلتها وأزال لمسجد الأندلس مكانته الثقافية، ولم يسلم المغرب من هذا الاضطراب إلا حينما استولى المرابطون على المغرب بقيادة يوسف بن تاشفين الذي دخل مدينة فاس سنة 462 هـ بعد حصار طويل وبعد أن قتل من أهلها عددا كبيرا، وذكر ابن أبي زرع أن ابن تاشفين قتل بجامع القرويين وبجامع الأندلس ما يزيد على ثلاثة آلاف.
وفي أيامه استتب الأمن في البلاد لأنه كان مشتهرا بالحزم والجرأة في مجابهة المخالفين، ولقد عمل على نشر المذهب المالكي بكل الوسائل وعمر المساجد وأعطى الأوامر بعقاب الذين لا يبنونها بأحيائهم، لذلك كثرت وانتشرت فلا تمر إلا خطوات حتى تجد مسجدا يذكر فيه اسم الله أو يعلم فيه كتابه أو يلقن فيه درس في الثقافة العامة.
إلا أن الملاحظ يرى أن جامع الأندلس في أيام المرابطين فقد تلك المكانة التي كان يمتاز بها من قبل وأصبح مسجدا عاديا وتوجهت عناية الدولة إلى جامع القرويين، فهذا علي بن يوسف بن تاشفين قد وسع مسجد القرويين وزينه بكثير من النقوش ووشى جدرانه بالزخارف البديعة في حين أنه لم يفعل شيئا من ذلك في مسجد الأندلس، ولعل السبب يرجع إلى الظاهرة الجديدة التي أصبحت عليها مدينة فاس بعد احتلالها من طرف يوسف بن تاشفين لأنه هدم الأسوار التي كانت تحجز بين العدوتين وصير المدينتين مدينة واحدة، فقد سئم من تلك الوضعية التي كانت عليها البلاد لأنها كانت تجرد دائما إلى التفرقة والثورة، ويكفي فاسا ما قاسته أيام المغراويين، ويكفيها ما شاهدته من الأهوال أيام تنافس العبيديين والأمويين وأن المصلحة تقضي الوحدة بين جزئيها ولم شتاتها وتوجيه سكانها إلى مسجد واحد يدرسون به، وتكون له الأهمية الكبرى في البلد، فقر رأيهم أن يكون هذا المسجد هو جامع القرويين، ولذلك، لانجد لمسجد الأندلس في عهدهم، وتولى الحكم أصحاب المهدي بن تومرت رجعت له مكانته لحاجة الموحدين إلى المساجد يشرحون فيها نظريتهم التي يدعون إليها ويبينون للناس مدى الفرق بين التحرر الفكري الذي يسيرون عليه وبين ما كان عليه الفقهاء أيام المرابطين، لقد استغلوا المساجد حينذاك في شرح العقيدة الأشعرية، وشجعوا المجددين الذين يعملون على نشرها، واشترطوا في الخطباء أن يكونوا عارفين باللغة البربرية بعيدين عن التقيد بمذهب مالك وأصبح مسجد الأندلس يشارك بدوره في توجيه الأفكار ضد المذهب المالكي سيرا مع الدولة الحاكمة التي قاومته بكل نشاط خصوصا أيام الناصر الذي بويع له سنة 595 هـ، قال عبد الواحد المراكشي في كتابه المعجب: (وفي أيامه انقطع علم الفروع وخافه الفقهاء وأمر بإحراق كتب المذهب بعد أن يحرر ما فيها من حديث رسول الله (ص) والقرآن ففعل ذلك وأحرق منها جملة في سائر كمدونة سحنون ونوادر ابن أبي زيد ومختصره وكتاب التهذيب للبرادعي وواضحة ابن حبيب وما جانس هذه الكتب ونحا نحوها) قال ولقد شهدت منها وأنا يومئذ بمدينة فاس يؤتى منها بالأحمال فتوضع ويطلق فيها النار) ثم قال (وكان قصده في الجملة محو مذهب مالك وإزالته من المغرب مرة واحدة، وحمل الناس على الظاهر من القرآن والحديث وهذا المقصد بعينه كان مقصد أبيه وجده إلا أنهما لم يظهره وأظهره يعقوب هذا(*).
ولا شك أن مثل هذا التضييق على مذهل مالك لا يكفي فيه الضغط والإكراه بل يحتاج أيضا إلى تبيين ذلك على أسس العلم والمعرفة وتلك مهمة العلماء في المساجد وإذا كان مسجد الأندلس في تاريخه مرتبطا بحلقات دروس الفقهاء المالكيين فلماذا لا يرجع أيام الموحدين مركزا للدراسات الجديدة؟ لذلك استقر رأي الناصر الموحدي على تجديده وأدخل فيه من الإصلاحات ما بقي خالدا إلى الآن، ويكفيه فخرا أنه هو الذي بنى أعظم أبوابه وأحسنها زخرفة تلك هي الباب المدرجة التي توجد في جنوب المسجد.
قال الناصري (*) (وفي سنة 604 هـ، أمر الناصر ببناء دار الوضوء والسقاية بإزاء الجامع وجلب إليها الماء من العين التي خارج باب الحديد وأمر ببناء الباب الكبير المدرج الذي بحصن الجامع وأنفق عن ذلك كله من بيت المال).
وأصبح المسجد بعد هذا الإصلاح من أعظم مساجد فاس وتهافت الناس على التعبد فيه والاستماع إلى العلماء والخطباء من منبره خصوصا في السنوات الأولى بعد إصلاحه أن مدة ازدهاره لم تدم نظرا لوفاة الناصر الذي كان حريصا على نشر العلم ونظرا للسيل العظيم الذي جرف عدوة الأندلس سنة 626هـ فهدم من جامعها ثلاثة بلاطات وهدم دورا كثيرة وفنادق متعددة ونظرا للحالة التي كانت عليها البلد حينذاك فإن الدولة الموحدية كانت في حالة احتضار بعد موت الناصر سنة 610 هـ ولم يبق لها الفراغ للعمل على رتق ما فسد إنما كانت تقضي أيامها في الحروب الداخلية التي منيت بها بسبب الخلاف الحاصل بين أفرادها وبسبب اكتساح بني مرين لنواحي فاس وسبب استقلال الدولة الحفصية بتونس وبسبب المحاولة التي قام بها بنو عبد الواد في الجزائر ليستقلوا عن حكم الموحدين لذلك بقي مسجد الأندلس مهدما في بعض الجوانب لا تقام الصلاة إلا في جزء منه حتى إذا كانت سنة 695 هـ في أيام المرينيين عرف خطيبه وأمامه الشيخ أبو عبدا الله محمد بن مسونة الأمير أبا يعقوب ابن أبي يوسف بن عبد الحق بحالته فجدده وأصلحه من مال الأوقاف.
وبعد هذا الإصلاح أصبح المسجد كلية تكاد تكون مختصة بدراسة الفقه المالكي وتحليل كتبه لأن رد الفعل من بني مرين كان في منتهاه ضد الموحدين وأصبحوا يحيون من جديد جميع الكتب التي أحرقت في أيامهم وقام العلماء بتدريس ذلك في جامع الأندلس فهذا أبو الربيع سليمان الونشريسي الفاسي المتوفى في سنة 705 هـ كان يدرس بهذا المسجد كتاب التفريغ لابن الجلاب والمدونة يقوم عليهما أتم قيام ولأهمية دروسه كان يحضره علماء البلد الأكفاء فقد كان يحضر مجلسه خلف الله المجاصي (*) الذي كان يحفظ المقدمات والتحصيل والبيان لابن رشد والقاضي أبو سالم إبراهيم البزناسني (*).
وفي عهد المرينيين بلغ ازدهار هذا المسجد أوجه لأنهم كانوا يعتنون بالعلم عناية فائقة ويعلمون على نشره بكل الوسائل خصوصا في أيام أبي سعيد عثمان وأبي الحسن وأبي عنان فلقد بنى أبو الحسن مدرسة الصهريج بإزائه ليقرب على الطلبة مشقة السير وليجعل مأواهم قرب المسجد الذي يدرسون به وكذلك بنى مدرسة السبعين وجعلها خاصة للروايات السبع في القرءان.
ورغم أن مسجد الأندلس كان يدرس به في هذا العهد بعض فطاحل العلماء ويخطب به فضلاؤهم فقد كان يعتبره بعض الخطباء دون جامع دون جامع القرويين لذلك نرى أن ابن الحباك المكناسي المتوفى سنة 870 هـ حينما كان خطيبا بالقرويين وأزيل من الخطبة طولب بعد ذلك بالإمامة بجامع الأندلس فأبى وقال إذا كان خلعي عن تجريج فأنا لا أصلح لإمامة الأندلس أيضا وأن
• المعجب في تخليص إخبار المغرب لعبد الواحد المراكشي.
• الاستقصاء طبعة دار الكتاب الجزء الثاني صفحة 196.
• الربع الرابع من الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي للحجوي صفحة 70.
• سلوة الأنفاس الجزء الثالث صفحة 316.
كان عن غير ذلك فقبولي من قلة الهمة (*) وعلق ابن زيدان على هاته الملاحظة فقال لأن منصب الخطابة بالقرويين أشرف من منصب الإمامة بالأندلس(*)
وبما أن البحث قد جرنا إلى ذكر بعض الخطباء والمدرسين بجامع الأندلس فإني أرى واجبا علي أن أذكر من بينهم العلامة الفاضل عليا بن عبد الرحمن الأنفاسي المتوفى سنة 860هـ لقد كان مطلعا على الفقه المالكي وانتفع به في قراءة المدونة جماعة من العلماء كالشيخ زروق والأستاذ الصغير النيجي والعلامة ابن غازي ذكره في سلوة الأنفاس فقال : (حكي أن الناس احتاجوا في أيامه للمطر فسألوه إن يستغيث لهم ويستسقي وألحوا عليه في ذلك فوعدهم ليوم ثالث من يومئذ ولما كان الغد أخرج ما عنده من الزرع وصيره صيرة في صحن جامع الأندلس ثم تصدق به وقال لهم الآن أبكي كبكاء المسلمين فاستقسى لهم فسقوا (*) وبعد وفاته تولى الخطابة بالمسجد تلميذه أبو عبد الله محمد بن الحسين بن محمد بن حمامة الأوربي النيجي المعروف بالصغير ذكر ابن غازي أنه لازمه كثيرا وقرأ عليه القرءان ثلاث ختمات آخرها للقراءات السبعة وذكر المنجور في فهرسته أنه ختم عليه القرءان بالقراءات السبعة ثلاثمائة طال وتوفي سنة 887 هـ وبعد وفاته تولى الخطابة أبو الحسن علي بن القاسم التجيبي الشهير بالزقاق صاحب النظم المعروف بالزقاقية توفى سنة 912 هـ.
وإذا تتبع الباحث هؤلاء الخطباء أيام بني مرين وبني وطاس فإنه سيجدهم من العلماء المبرزين ويكفيك دليلا على ذلك أن من بينهم رواية المغرب ومفتي فاس أبا محمد عبد الله بن أحمد العاصمي المعروف بسقين لقد كان مشتهرا بعلمه في الشرق والمغرب رحل إلى المشرق سنة 909 هـ وزار بلاد السودان وروى الحديث بمصر عن القلقشندي وزكرياء الأنصاري والسخاوي ورواه بمكة عن ابن فهد وكلهم عن الحافظ بن حجر لذلك اجتمع له من العلم بالحديث ما لم يتبسر لغيره من أهل فاس (*) خطب بجامع الأندلس سنة 944 إلى أن توفي سنة 956 هـ وهي السنة التي استولى فيها محمد الشيخ السعدي على فاس.
لقد رأى محمد الشيخ أن الدولة السابقة كانت تعتني بجامع الأندلس فتختار لها من العلماء والخطباء ذوي الكفاءة والفضل فسار على نهجهم، ولما وفد على فاس العالم التلمساني أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمان المغراوي قلده السلطان منصب الفتوى والتدريس وجعله خطيبا بمسجد الأندلس فاستمر به مدة ثماني سنوات تم انتقل بعد ذلك إلى الخطبة بجامع القرويين.
وسار السعديون على هذا النهج رغم اشتغالهم بالحروب ومحافظة الثغور ومعارضة التدخل الأجنبي، لأن اهتمامهم بالعلم كان من أسس سيرتهم خصوصا في أيام أحمد المنصور الذهبي الذي تولى الملك سنة 986 هـ بعد الانتصار العظيم الذي حصل عليه بوادي المخازن، وبعد القضاء على كل سعي يحاول الأجنبي القيام به لاحتلال البلاد من جديد.
وفي أيامه كان المتولي لخطابة الأندلس والتدريس به العالم الشهير يحيى بن محمد السراج الأندلسي وهو حفيد الشيخ يحيى السراج (*) صاحب ابن عباد وكان ماهرا في علوم الفقه مدرسا يعرف المدونة ويدرسها توفى سنة 1007 هـ.
ورغم اعتناء السعديين بالدراسة في هذا المسجد وباختيار أحسن الخطباء له فهم لم يهتموا ببنايته ولم يصلحوه لذلك وجده العلويون في حاجة إلى عنايتهم فقام المولى إسماعيل فخر الدولة العلوية ومحرر المهدية والعرائش من يد الإسبان وطنجة من يد الإنجليز بتجديده وترصيفه يقول ابن زيدان في كتاب الدرر الفاخرة حين تحدثه عن المولى اسماعيل : (وفي عام 1093 هـ جدد مسجد الأندلس ورصف صحنه بالزليج يشهد بذلك ما هو منقوش في الخشب خارج قبة السقاية هناك ولفظه :
مولاي اسماعيل البني إليها
فسحبت ذيلي فوق كل نفيس
زهوي يبيت الله حبي مفخرا
إذ صرت أجلي فيه جلو عروس
فرفعت فوق السلسبيل سرادقا
في عام (1093 يحمل شاهد) تأسيسي
وكان ابتداء العمل فيه عام تسعة وثمانين وألف هـ (1).
وفي عهد العلويين كانت الدراسة بالمساجد تعتبر ذات أهمية كبرى وكان العالم لا يبلغ إلى التدريس بها إلا إذا ظهرت مقدرته العلمية وكفاءته في التلقين وكان الأستاذ قبل مهارته يلقي دروسه الأولية بالمدارس الموجودة في المدينة حتى إذا أنس من نفسه الكفاءة أو آنسها منه طلبته توجه إلى المسجد وذلك ما وقع بالفعل لأبي العباس أحمد بن علي الوجاري المتوفى سنة 1141 هـ فقد كان يدرس بالمدرسة الرشيدية برأس الشراطين لكن الطلبة ألحوا عليه في الذهاب إلى مسجد الأندلس فلبى رغبتهم وأصبح أستاذ اللغة في هذا المسجد وأقبل الناس على دروسه وتخرج عليه جل علماء فاس ومن ورد عليها وكان يهتم بتحرير المشكلات اللغوية والنحوية وهكذا أصبح مسجد الأندلس يهتم بالدروس اللغوية كما كان يهتم من قبل بالدروس الفقهية.
وفي عهدهم تشجع العلماء على التدريس لأن الدولة كانت تضفي عليهم من العطايا ما يغنيهم عن التفكير في مشاكل العيش وكانت تمكنهم من أجرة محددة تختلف باختلاف طبقاتهم وتستغل في ذلك مال الأوقاف وقد نص على ذلك محمد بن عبد الله في منشور كتبه إلى سيدي التاودي بن سودة حين قال : (وكذلك الفقهاء الذين يقرأون الأسطرلاب وعلم الحساب فيأخذون حظهم من الأحباس لما في ذلك من المنفعة العظيمة والفائدة الكبيرة لأوقات الصلاة والميراث(2)
ولقد عمل المولى محمد بن عبد الله على توجيه العلماء إلى نبذ المختصرات والاقتصار على أمهات الكتب قال الناصري : (ومن عجيب سيرته رحمه الله أنه كان يرى اشتغال طلبة العلم بقراءة المختصرات في فن الفقه وغيرهم وإعراضهم عن الأمهات المبسوطة الواضحة تضييعا للأعمار في غير طائل، وكان يشهر في ذلك غاية ولا يترك من يقرأ مختصر خليل ومختصر ابن عرفة وأمثالهما ويبالغ في التشنيع على من اشتغل بشيء من ذلك)، ويفهم من هذا النص أن المولى محمد ابن عبد الله قد منع ذلك منعا مطلقا مع أننا نراه في المنشور الذي كتبه سنة 1203 هـ إلى العلامة السيد التاودي بن سودة قد أباح تدريس مختصر خليل فإنما يدرسه بشرح بهرام الكبير والموافق والحطاب والشيخ علي الأجهوري والخرشي الكبير لا غير فهذه الشروح الخمسة بها يدرس خليل مقصورا، وفيها كفاية، وما عداها من الشروح كلها ينبذ ولا يدرس به) ولعل هذا القرار الأخير إنما كان اعتدالا من السلطان محمد بن عبد الله حتى لا يثير عليه بغض بعض الفقهاء، إلا أن الذي زاد اهتمامه بكيفية التدريس بالمساجد هو المولى عبد الرحمن بن هشام فقد كان يؤسفه أن يرى العلماء يقتصرون في تدريسهم على مما حكات لفظية ويقضون مع طلبتهم السنوات الطوال من غير طائل لذاك أصدر ظهيرا سنة 1260 هـ يأمر فيه العلماء أن يقتصروا في التدريس على ما يفيد وأن يبتعدوا عن تلك التشعبات في التفكير ومن فقرات هذا الظهير قوله : (3) .. فترى الفقهاء يكثرون على المبتدي من نقل الحواشي والاعتراضات وينوعون الأقوال والعبارات حتى لا يدري ما يمسك، ولا سبيل يسلك، ويقوم من مجلس الدرس أجهل مما كان، ولا يحل زيادة مع بلوغه في نفسه الإمكان، وهذا يؤدي إلى ضياع العلم الذي هو ملاك الدين، ويحمل على عموم الجهل في العالمين) وبين في هذا المنشور الطريقة التعليمية التي يجب أن يسيروا عليها ولقد سار على هديه العلماء في جميع مساجد فاس وخصوصا بالقرويين والأندلس، إلا أن الواقع يثبت أن الأندلس في هذا العصر إنما كانت تابعة لجامعة القرويين، ومع ذلك فقد كان يعتني بها ويختار لها من المدرسين والخطباء من اشتهروا بالعلم والفضل كأبي عبد الله محمد بن الطالب التودي بن سودة المتوفى سنة 1209 هـ وابنه الشاعر السيد جعفر المتوفى سنة 1276 هـ.
وفي عهد محمد الخامس رحمه الخامس رحمه الله تجدد بناء هذا المسجد فقد قام بذلك في سنة 1356 هـ ثم أعطى الأوامر فجعله فرعا تابعا لجامعة القرويين، أما الآن وقد انتقلت الدراسة العلمية من المساجد إلى الكليات الخاصة والمدارس العصرية(4) فإن مسجد الأندلس ما زال يقوم بدوره الديني، وأما الدور العلمي فقد كان ينعدم إلا من بعض المتطوعين الذين يلقون بعض الدروس النحوية أو الفقهية البسيطة يعينون بها المبتدئين، أو من فئة تقوم بدروس الوعظ والإرشاد تابعة لوزارة الأوقاف التي تشجع هذا الجانب الديني في جميع مساجد البلاد وتحاول بذلك أن تعيد للمساجد قيمتها الاجتماعية في هذا العصر الذي طغت كثير من المظاهر المادية على الناس فغيرت وجهتهم من المسجد إلى المقاهي والملاهي فعسى أن تنجح في مسعاها، وطوبي لمن أحيا بيتا من بيوت الله.
————
(1) الدرر الفاخرة بمآثر ملوك العلويين بفاس الزاهرة تآليف عبد الرحمن بن زيدان طبع سنة 1937 م صفحة 40 ـ 41.
(2) نفس المصدر صفحة 62.
(3) الاستقصاء للناصري طبعة دار الكتاب الجزء الثامن صفحة 67.
(4) الدرر الفاخرة صفحة 80.

دعوة الحق، العدد 53.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق