مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةتراث

تقييد في صلاة القدر للفقيه العلامة محمد الحجوي الثعالبي (تـ: 1376هـ) ضبط وإخراج

بسم الله الرحمن الرحيم

إن من أوجه تعظيم رمضان التماس ليلة القدر وإحيائها بالعبادة، ففي الحديث: “من قام رمضان إيمانا واحتسابا غُفر له ما تقدم من ذنبه”[1]، وقد شرف الله هذه الليلة واحدة ومدحها في سورة خاصة بها، وعظمها بنزول القرآن، فقال تعالى: “إنا أنزلناه في ليلة القدر”[2]، أي أنزلناه في ليلة ذات قدر[3] وتعظيم لنزول القرآن فيها، وعظمها كذلك بنزول الملائكة فيها إلى الأرض بالرحمات، تؤمن على دعاء المؤمنين، وأنها خير من ألف شهر.

وقد اختلف العلماء في تعيين ليلة القدر على أقوال كثيرة، وأرجح الأقوال أنها في العشر الأواخر من رمضان، وهذا ما حاول أن يبينه الفقيه محمد الحجوي في تقييده، معتمدا في ذلك على المنقول والمعقول من الأدلة في استدلالاته، ومبرزا فوائد نفيسة في مناقشاته العلمية، يقل نظيرها إلا من أوتي دقة العلم، وحصافة الفهم، وخبرة الواقع.  

ولتحقيق متن هذا التقييد، سأتناول فيه قسمين هما: الأول: التعريف بالتقييد، الثاني: تحقيق النص.

أولا: التعريف بالتقييد.

هو: جواب عن مجموعة من الأسئلة لم يحدد المؤلف صاحبها، بل اكتفى بقوله: “سئل كاتبه”، ويتعلق مضمون الأسئلة حول ليلة القدر، وصحة خصوصيتها بالأمة الإسلامية، وحقيقة انتقالها بين أيام السنة، ومدى مشروعيتها في الأيام الوترية من العشر الأواخر لرمضان.   

تاريخ تأليفه: وكان تاريخ التقييد في 7 رمضان 1356ه، بالرباط.

واعتمدت في تحقيق هذا التقييد على النسخة المحفوظة بالخزانة الوطنية تحت رقم: 113ح، بخط مؤلفها رحمه الله، ويظهر أنها مسودة التأليف، لكثرة التشطيب الموجود فيها، وتصحيح الأخطاء والاستدراكات.

 وهو في مجموع من ص:171 إلى ص: 172، مسطرته: مختلفة، مقياسه: 22 18 سم. مكتوب بخط مغربي معتاد.

ثانيا: النص المحقق.

الحمد لله، سئل كاتبه عن ليلة القدر. هل هي خاصة بالأمة المحمدية؟ وهل تنتقل في السنة كلها أم لا؟ وما وجه قيام الناس في رمضان فقط، وبالأخص في الليالي الأوتار من العشر الأواخر منه يحيون الليلة كلها؟ وهل لذلك أصل؟  وما هو المرجح من حيث الدليل في أمرها؟  

أجيبوا مأجورين.

الجواب:  

إن ليلة القدر قد حكى فيها الحافظ ابن حجر في فتح الباري أقوالا كثيرة تنتهي إلى 48 قولا[4]، ولكنها عند التمحيص لا يستقيم الدليل لعشرها، وهو ما يمكن أن يكون دليلا له وجه من النظر، وأن تتبع ذلك يطول، ويعلمه من له إلمام بصنعة الحديث والأصول.

وبوجه الاختصار أن كل قول فيها بكونها تكون خارج رمضان، فهو مناقض في نظري لظاهر القرآن، قال الله سبحانه تعالى:  ﴿إنا أنزلناه في ليلة القدر﴾[5]، “شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن”[6]، وبإمعان النظر في الآيتين وضم مدلوليهما؛ نجد الأولى: تنص على أن القرآن نزل ليلة القدر، النزول الخاص المعلوم، ونجد الثانية: تنص على أن القرآن أنزل النزول الخاص أيضا في رمضان، فنتج أن ليلة القدر في رمضان.

ولم يبق لنا التفات إلى كل قول يخالفه واسترحنا من هوسه، ولا سيما عند المالكية؛ الذين يقدمون ظاهر القرآن على الخبر الصحيح الصريح، كما هو مبرهن عليه في محله.

وهذا الدليل وإن لم أر من نص عليه؛ فإن سلفي فيه علي كرم الله وجهه، الذي ركب آيتين وهما: ﴿والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين﴾[7]، ﴿وحمله وفصاله ثلاثون شهرا﴾[8]، فأخذ منها أن أقل الحمل ستة أشهر[9].

وهذا ما يسمى دلالة الاقتران، وهو استخراج مدلول من مجموع دليلين، لا يستقل أحدهما به؛ وذلك معلوم للأصوليين.

فإن قلت: إن القرآن تكلم على فرد من كلي؛ وذلك الفرد هو ليلة معينة نزل فيها القرآن وكلامنا في الليالي بعدها.

الجواب:

إن بمثل هذه الأبحاث الفارغة والفلسفة البيزنطية ضحم الفقه وصعب، فانتشر الجهل، وأن تخصيص الآية بليلة معينة وخص الفضل عليها، لا بد له من مخصص.

وإن الأصل هو أن ما جرى على الليلة المعينة يجري على غيرها، قياسا أو نصا، ولو علمنا بهذا البحث، لما وجب صيام غير ذلك الرمضان المعين، ولا كان الفضل إلا لليلة معينة.   

ثم إنا تصفحنا أحاديث الصحيحين؛ الذين هما عمدة الدين، فوجدناها دائرة على أن ليلة القدر تلتمس في العشر الأواخر منه، ولم نجد حديثا صحيحا مرفوعا مصرحا بأنها في غير ذلك.

وذلك يضعف ما سوى ذلك من الأقوال، وذلك حديث أبي بن كعب في مسلم: “أنها ليلة سبع وعشرين”[10]، وبتأمله يظهر أن القدر المرفوع منه هو أنه صلى الله عليه وسلم وقع له تعيينها في ليلة سبع وعشرين، والسياق يدل أن ذلك كان في سنة من السنين، وليس حكما عاما في كل سنة، وليس في المرفوع منه ما يدل له، وإن فهمه الراوي.

ولما رأينا حديثين آخرين أحدهما: حديث عبد الله بن أنيس في مسلم:”أنها ليلة ثلاث وعشرين”[11].

والثاني: حديث أبي سعيد الخدري في الصحيحين: “أنها ليلة إحدى وعشرين منه”[12].

وفي حديث أبي بن كعب جعل لها علامة وهي طلوع الشمس بيضاء ونقية.

وحديث أبي سعيد جعل لها علامة وهي نزول المطر في ليلة إحدى وعشرين، وكذا حديث ابن أنيس، وهاتان العلامتان لا يمكن عادة اطرادهما في كل ليلة سبع وعشرين، أو ليلة إحدى وعشرين، أو ثلاث وعشرين؛ إذ الصحو أو المطر قد يكون وقد لا يكون، والفصول تتبدل في السنة القمرية مع اختلاف الأقطار والشريعة عامة، فإدعاء اطرادها يخالف المحسوس، ويرده المعقول، وليلة القدر لا بد منها كل سنة، وذلك كاف في خطأ من عينها في واحدة من الليالي الثلاث خاصة بها كل سنة، ووجب علينا عدم تقليد ذلك الاجتهاد، والاقتصار على القدر المرفوع من الأحاديث الثلاثة.

من هذه الأحاديث الثلاثة، وأنها وقعت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم معينة في سنة بإحدى وعشرين، وفي أخرى بثلاث وعشرين، وفي أخرى بسبع وعشرين، وحيث إن المطلوب كان تعيين ليلة القدر في سنة معينة، صادف وجود إحدى العلامتين في سنة، والأخرى في سنة أو سنتين بوحي منامي أو غيره.

ثم نظرنا في الصحيح فوجدنا أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف في العشر الأول، فلم تعين له فيها، ثم في العشر الثانية، (فقيل له: إن الذي تطلب أمامك)[13]، وبعدما قوض بناءه في المسجد، أعاد بناء قبته في العشر الثالثة، واعتكفها مترصدا هذه الليلة المباركة؛ التي هي خير من ألف شهر، فعلمنا أنها في العشر الأواخر، وأنها تنتقل فيها خاصة.

ووجدنا في الصحيح أنه قال: ارقبوها في العشر الأواخر في الوتر، فقلنا: إنها في الوتر منها أرجى، وإن ورد في “الصحيح” أيضا ما يدل على أنها تكون أربع وعشرين، وفسر أبو سعيد حديثه في بعض روايات مسلم، بما يدل على أنها ليلة اثنتين وعشرين، وذلك كله لا يخرجها عن العشر الأواخر.

فهذا يحكي الجمع بين الأحاديث الصحيحة كلها، وإلغاء ما سواها، وفك هذه المعضلة، وينعدم الخلاف الذي هو شر على الدين.

أما حكمة إخفائها في العشر فليجتهد الناس فيها لعلهم يصادفون ويربحون فضلها. وعلمت مستند الناس في إحياء الليالي الأوتار من العشر الأواخر، وأنهم يرجون مصادفتها فيها، وبالأخص ليلة السابع والعشرين، اعتمادا على حديث أبي بن كعب، الذي كان يفصح أنها فيها اجتهادا منه، وجلالته في العلم والدين معلومة.       

ثم إن حصرها في العشر تخفيف من الحق سبحانه ورأفة بالأمة الضعيفة؛ إذ لو كانت تدور في السنة كلها لكان إدراكها لا يحصل، إلا بقيام ثلاثمائة ونيف وخمسين ليلة، وفيه من المشقة ما هو ظاهر، على أن بعض الليالي من السنة منهي عن قيامها، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه.

هذا وإن هذه الليلة ليست خاصة بهذه الأمة لحديث النسائي، عن أبي ذر مرفوعا: “على أنها للأنبياء ولأممهم”[14]، وهو دليل على ضعف حديث الموطأ الذي هو أحد البلاغات أنه عليه السلام: “تفاخر أعمار أمته عن أعمار الأمم الماضية، فأعطاه ليلة القدر”[15].

هذا ما عن للفقير في هذا العجالة جوابا عن السؤال ورفعا للإشكال، وإني أزيد على السؤال أن ما يقع من إسراج المساجد، واجتماع الناس لما سوى الصلاة والقراءة والعبادة، برفع الأصوات والتجاهر بالمنكرات كله من البدع التي يجب تغييرها، لأنها بيوت أمر الله أن ترفع.

وخير أمور الدين ما كان سنة ***وشر الأمور المحدثات البدائع

وكتبه بالرباط في 7 رمضان 1356 هـ، خادم السنة محمد الحجوي الثعالبي.

خاتمة

وختام القول، يعتبر تقييد ليلة القدر للفقيه الحجوي بحثا نافعا للمتشوف إلى ليلة القدر وأحكامها؛ حيث أورد المؤلف أمورا مهمة تتعلق بليلة القدر، وموضحا ذلك بالأدلة النقلية والعقلية، ومؤكدا أن الراجح من الأقوال في ليلة القدر: أنها لا يمكن أن تخرج عن العشر الأواخر من رمضان مع عدم تحديدها في ليلة معينة. وأن الأحاديث الواردة في إخبار أن ليلة القدر تكون بإحدى الليالي الوترية؛ كالواحد والعشرين، والثالث والعشرين، والسابع عشرين، جاءت متعلقة بسياقات متعددة؛ منها ما اختص به النبي عليه الصلاة والسلام لنبوته، ثم ترك الشارع أمرها من غير تعيين، ليجتهد المسلم في إحياء ليالي رمضان بالذكر والصلاة؛ لا سيما العشر الأواخر، كما بين المؤلف رفق الشارع بالمكلفين، بأن جعلها محجوبة عنهم في العشر الأواخر بدل السنة كلها، وهذا يدل على التخفيف والتيسير بالعباد، ونبه الحجوي على أن دعوى ليلة القدر خاصة بالأمة المحمدية ضعيفة لحديث النسائي، وأشار إلى أن البدع والمنكرات التي يصنعها بعض الجهلة في المساجد بريء منها الإسلام، لمخالفتها كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

*********************

هوامش المقال:

[1] – صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب: تطوع قيام رمضان من الإيمان، رقم الحديث: 37، (1 /22). صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها ، باب: الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح، رقم الحديث: 759، (1/ 532).

[2] – سورة القدر:1.

[3] – مفاتيح الغيب، 32 /229.

[4] – فتح الباري، 4 /262.

[5] – سورة القدر:1

[6] – سورة البقرة: 184.

[7] – سورة البقرة: 233.

[8] – سورة الأحقاف: 15.

[9] – السنن الكبرى للبيهقي، كتاب العدد، باب: ما جاء في أقل الحمل، رقم الحديث: 15549، (7 /727).

[10] – صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب: الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح، رقم الحديث: 762، (2 /828).

[11] – صحيح مسلم، كتاب الصيام، باب: فضل ليلة القدر، والحث على طلبها وبيان محلها وأرجى أوقات طلبها، رقم الحديث: 1168، (2/ 827).

[12] – صحيح البخاري، كتاب صلاة التراويح، باب: تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر، رقم الحديث: 1914، (2 /710). صحيح مسلم، كتاب الصيام، باب: فضل ليلة القدر، والحث على طلبها وبيان محلها وأرجى أوقات طلبها، رقم الحديث: 1167، (2 /825).

[13] – صحيح البخاري، صفة الصلاة، باب: السجود على الأنف والسجود على طين، رقم الحديث: 780، (1 /280).

[14] – أخرج النسائي عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله أخبرني عن ليلة القدر أفي كل رمضان هي؟ قال: “نعم”، قلت: أفتكون مع الأنبياء، وإذا رفعوا رفعت أو إلى يوم القيامة؟ قال: “لا بل إلى يوم القيامة”. السنن الكبرى، كتاب الاعتكاف، ليلة القدر في كل رمضان، رقم الحديث: 3413، (3 /407). وقد حكم ابن حجر على صحة الحديث فقال: هذا إسناد حسن صحيح. المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية، 6/230. وذهب النووي إلى تضعيف إسناده. المجموع شرح المهذب، 6/ 473.

[15] – روى مالك أنه سمع من يثق به من أهل العلم يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أري أعمار الناس قبله. أو ما شاء الله من ذلك. فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل، مثل الذي بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر، خير من ألف شهر”. الموطأ، كتاب الاعتكاف، باب: ما جاء في ليلة القدر، رقم الحديث: 15، (1 /321).

*****************

لائحة المصادر والمراجع:

السنن الكبرى، أبو بكر أحمد البيهقي، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، الناشر: مركز هجر للبحوث والدراسات العربية والإسلامية-القاهرة، الطبعة: الأولى، 1432هـ-2011م. 

السنن الكبرى، عبد الرحمن بن شعيب النسائي، تحقيق: حسن عبد المنعم شلبي، الناشر: مؤسسة الرسالة – بيروت الطبعة: الأولى، 1421هـ-2001م.

صحيح البخاري، محمد البخاري، تحقيق: مصطفى ديب البغا، الناشر: (دار ابن كثير، دار اليمامة)- دمشق، الطبعة: الخامسة، 1414هـ-1993م.

صحيح مسلم، أبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركائه، القاهرة، سنة النشر: 1374هـ-1955م.

فتح الباري بشرح صحيح البخاري، أحمد بن حجر العسقلاني، رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، قام بإخراجه وصححه وأشرف على طبعه: محب الدين الخطيب، عليه تعليقات: عبد العزيز بن بن باز الناشر: دار المعرفة-بيروت، 1379هـ.

المجموع شرح المهذب،  أبو زكريا محيي الدين بن شرف النووي، الناشر: إدارة الطباعة المنيرية، مطبعة التضامن الأخوي– القاهرة، عام النشر: 1344-1347هـ.

المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية، أحمد بن حجر العسقلاني، الناشر: دار العاصمة، دار الغيث- السعودية، الطبعة: الأولى، 1419هـ.

مفاتيح الغيب، أبو عبد الله محمد فخر الدين الرازي، الناشر: دار إحياء التراث العربي-بيروت، الطبعة: الثالثة، 1420هـ.

الموطأ، مالك بن أنس، صححه ورقمه وخرج أحاديثه وعلق عليه: محمد فؤاد عبد الباقي الناشر: دار إحياء التراث العربي، بيروت – لبنان عام النشر: 1406هـ-1985م.

*راجع المقال الباحثة: خديجة ابوري، والباحث: يوسف أزهار.

Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق