مركز الدراسات القرآنيةتراث

تقييد في التفسير للعلامة سيدي محمد بن إبراهيم بن عباد(ت792هـ)

تقييد في تفسير قوله سبحانه: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ سورة الحديد، الآية21.

 للعلامة سيدي محمد بن إبراهيم بن عباد(ت792هـ).

الحمد لله الذي بقدرته تدفع الكروب، وتنقشع الخطوب، والصلاة والسلام على من كان قدوة للمهتدين، ونموذجا للصابرين.

أما بعد؛

فمع آية عظيمة تقرب مبدأ وتقرر حقيقة كونية عظيمة يعيش عليها الإنسان المسلم ويكتسب بها كثيراً من أسباب القوة وأسباب الانتصار على عوائق الحياة، وهي جزء من معتقد الأمة الإسلامية، قوله سبحانه: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾، أي هذه الوقائع والمصائب التي يعيشها الناس والتي تنفر منها النفس كل ذلك: ﴿فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا﴾ فالكتابة متقدمة جدا عن خلق الأرض والإنسان، فهي إذا تقرر أن مايقع في الكون الآن من وقائع وأحداث إنما هو تنفيذات وتجليات للأشياء كتبت، بمعنى أن الحسرة والآسى التي يبديها الإنسان على ما يقع في الكون من تغييرات ومشاكل وكوارث هي حسرة ليس لها مبرر ومصوغ، فما وقع وما يقع الآن من أحداث كله مكتوب. وقد تناول الشيخ ابن عباد هذه المسألة بتفصيل ومزيد بيان كما سيأتي في النص الذي أورده الونشرسي في كتابه.

يقول أبو العباس أحمد بن يحيي الونشـرسي(ت914هـ): «وسئل الخطيب الشيخ الصالح العالم أبو عبد الله سيدي محمد ابن إبراهيم بن عباد رضي الله عنه ونفعنا ببركاته عن رسول الله تعالي: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا﴾.

ثم قال: ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ. الآية وفهمت عدم ترتب الأسى على سبق المصيبة في كتاب، ولم أفهم عدم ترتب الفرح عليه. وكنت سألتكم عنه فأجبتموني بجواب بعيد، وضاع مني. وأنا ألتمس إعادة بركتكم فيه وقد أراحكم الله من تعبي زماناً طويلاً ما كنت لأصبر عنكم بعضه لولا سبقُ ذلك في الكتاب.

فأجاب رحمه الله ورضي عنه: الحمد لله مَن فَهَم أحد القسمين فهم الآخر، لأن الموجب لترتب عدم الأسى على ما فات، إنما هو توطينُ النفس عليه إذا علم أنه أمر سابق لا بد منه، فإنه كان واقعاً به قد مرن على ملاقاته، ولذلك حُمد الصبر عند الصدمة الأولى، بخلاف ما بعدها، وكذلك يُنسيهم الأثر في الفرح بالموتى، لأنه يقدم ذلك الشيء في يده ثم يتجدد فلا يفرح كما نشاهد ذلك في أبناء الدنيا المنعَّمين فيها على الدوام، لا يكون لهم تجدد نعم، فلا يقع لهم ذلك الفرح. وكما نشاهد عكسه في فقير تجدَّد له غنى وسعة، فإنه حينئذٍ لا يملك نفسه أن يفرح فرحاً لا مزيد عليه، وما ذاك إلا من قبل صدمة التجدد. ثم إن الأسى والفرح اللذين في الآية الكريمة، ليس المراد منهما ما الطبع مجبول عليه، بل ما يؤدي إلى الضجر في الأسى، والبطر في الفرح، وحينئذٍ يسهُل فهم الترتب في كل واحد منهما.

وهذا ما ظهر لي ولم أتعقل ما كنت كتبت به إليكم ثم راجَعَهُ السائل وهو الشيخ الفاضل أبو العباس المراكشي بما نصه: هذا الكلام صحيح في نفسه، غير أنه لا يستفاد جميعه من الآية الكريمة، ومن أين يلزم من سبق جميع المصائب في كتاب انتهاء المصاب أو غيره من الفرج بما أوتي وأين وجه أخذه من الآية الكريمة؟ وأقل ما يؤديه من الألفاظ قول القائل بعدم ذكر المصاب وما قيل من خير فكذلك فما وجه الاستغناء بذكر أحد الطرفين دون الآخر؟

فأجاب رضي الله عنه، بما نصه ومن خطه ما نقلت: اختلف الناس في معنى قوله: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ﴾. فقال بعضهم ما حدث من حادث خير وشر، على معنى لفظ أصاب، لا على عرف المصيبة، فإن عُرفها في الشر، فعلى هذا يسقط السؤال ولا يحتاج إلى قول القائل: وما قيل من خير فكذلك، لأن الخير مذكور فيها بالنص كالضر سواء. وقال آخرون: إنما أراد عرف المصيبة وهو الشر، وخصها بالذكر لأنها أهم على البشر. فعلى هذا الخير في الآية كالمنصوص عليه، فلا حاجة أيضاً إلى ذلك القول، بمنزلة قوله تعالي: ﴿سَرَابِيْلً تًقٍيْكُمُ الحًرًّ﴾. يعني: والبرد. فالبرد في الآية كالمنصوص عليه. فحصل من هذا أن الأسى والفرح في الآية الكريمة ترتَّبا ترتباً مساوياً على ما تقدم من ذكر المصيبة على القولين، وسقط قول السائل: ومن أين يلزم من سبق المصائب في كتاب انتهاء المصاب أو غيره عن الفرح بما أوتي وظهر وجه أخذه من الآية الكريمة».

ومما يستفاد من هذه الآية الكريمة أيضا:

  • ـ أنّ هذه الآية عظيمة جدا بحيث تقرر مبدأ وتقرر حقيقة عظمى يعيش عليها الإنسان المسلم ويكتسب بها كثيرا من أسباب القوة والطمأنينة، والانتصار على عوائق الحياة وعوارضها؛ ويخبر فيها الحق جل جلاله أن كل ما في هذا الكون يجري بتقدير الله ومشيئته، وكل شيء مكتوب ومقدر وهذا من الإيمان بعلم الله وبالقدر خيره وشره.
  • ـ هذه الآية تقرر هذه الحقيقة التي هي جزء من عقيدتنا، جزء من معتقد الأمة الإسلامية، فهي ليست آية تتناول حكما فعليا، هي تقرر حقيقة كونية يجب أن يكون الإنسان مطمئنا وأن يجزم ويوطن النفس على ذلك.
  • ـ أن هذه الآية صريحة في أن ما أصاب الإنسان في هذه الدنيا من خير وشر فبإذن الله، وكان التنصيص بالمصائب لأن الجبلة تأبها وتتواقها ومع ذلك وليس في مقدوره دفعها بخلاف الخير قد يدعي الإنسان أنه من اجتهاده وعلمه.
  • ـ هذه الآية تقرر أن ما يقع في الكون الآن من وقائع وأحداث سارة أو أخرى محزنة إنما هو تنفيذات وتجليات لأشياء كتبت، لا يمكن أن يكون خلاف ذلك هو الواقع.

 ينظر المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوي أهل إفريقية والأندلس والمغرب، لأبي العباس الونشرسي(11/185).

جمعه العبد الفقير إلى عفو ربه: الحسن الوزاني

Science

د. الحسن الوزاني

باحث بمركز الدراسات القرآنية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق