مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةأخبار

تقرير عن مناقشة دكتوراه بعنوان: شرح أبي مدين الفاسي (ت 1181هـ) لرائية الشريشي

متابعة د. محمد الهاطي 

باحث بمركز الإمام الجنيد 

    نوقشت برحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة سيدي محمد بن عبد الله  ظهر المهراز-فاس ، أطروحة جامعية لنيل شهادة الدكتوراه بعنوان: شرح أبي مدين الفاسي (ت 1181هـ) لرائية الشريشي المسماة: “أنوار السرائر وسرائر الأنوار” تحقيق ودراسة.

    أعدها الطالب الباحث: عادل المنوني ، تحت إشراف الأستاذ: الدكتور خالد سقاط، وذلك يوم الاثنين 17 أكتوبر 2016. وقد تكونت لجنة المناقشة من السادة الأساتذة:

– الأستاذ الدكتور عبد العزيز اليعقوبي رئيسا (كلية الآداب، ظهر المهراز، فاس)‏.

– الأستاذ الدكتور عبد الوهاب الفيلالي عضوا (كلية الآداب، ظهر المهراز، فاس)‏ .

– الأستاذ الدكتور إدريس الفاسي الفهري عضوا (جامعة القرويين –فاس)

– الأستاذ الدكتور محمد زبير بناني عضوا (جامعة القرويين –فاس).

– الأستاذ الدكتور خالد سقاط مشرفا ومقررا (كلية الآداب، ظهر المهراز، فاس)‏.

    وبعد اجتماع أعضاء اللجنة، تمت تلاوة محضر المداولة، الذي تقرر خلاله اعتبار الطالب الباحث عادل المنوني ناجح ‏في شهادة الدكتوراه بميزة مشرف جدا مع التوصية بالطبع.

نص التقرير

    يمثل التراث المغربي الصوفي حيزا هاما في الأدب المغربي نظرا لتعدد مظانه، وتنوع أنماطه وأشكاله، فهو إبداع منفتح على مختلف أجناس الكتابات الأدبية، ومن بينها الشروح الأدبية عامة، والشعرية خاصة. فهي تمثل ميدانا تطبيقيا في تكوين الناشئة، وتشكيل ملامح شخصيتهم العلمية، وبناء عقولهم وفق أسس سليمة، وقواعد متينة، ومناهج مضبوطة. فالشروح عموما أداة تثقيفية تربوية، لأنها تعتبر وسيلة في حد ذاتها لتبليغ رسالة هادفة،  لا غاية.

    جدير بالذكر، أن الشروح الشعرية أغنت رصيد المكتبات المغربية، وعززت مكانة المثقف المغربي على الخصوص، وأسهمت إلى حد كبير في بناء صرح الثقافة الوطنية  بشكل عام، وذلك من خلال توسيع دائرة معارف المبدعين والمؤلفين، لاسيما وأن الشروحات باعتبارها جنسا أدبيا لا يُقبِل عليها إلا من تهيأت لهم أسباب المعرفة الموسوعية، ولمسوا في أنفسهم القدرة على اقتحام مجاهل المتون المراد شرحها، وهم نخبة قليلة، خصوصا في الخطاب الصوفي.

    إن المتأمل في عملية الشروح الشعرية بالمغرب، قد ينتهي إلى نتيجة مفادها أنها تتميز بالخصوبة والتنوع، مما يضفي على هذه الشروح خصوصية متفردة ومتميزة، باعتبارها تشكل مصدرا مهما من مصادر الأدب المغربي، ورافدا من روافد الثقافة، ووجها بارزا من وجوه التعامل مع النصوص الإبداعية في أغراض متنوعة.

    من هذا المنطلق، نبعت لي فكرة اختيار تحقيق ودراسة متن شرح قصيدة الشريشي المسماة ” أنوار السرائر وسرائر الأنوار” لأبي مدين الفاسي المتوفى سنة 1181 هجرية مشروعا للبحث، انطلاقا من رؤية وحوافز أهمها:

– إسهام القصيدة في حركة التأليف والشرح والدرس، يترجمه بشكل واضح الاهتمام الكبير بها، والعناية الفائقة التي حظيت بها، والإقبال المنقطع النظير عليها، فلقد لقيت من العامة إعجابا وقبولا واستحسانا، فحفظوها عن ظهر قلب، وأنشدوها في المناسبات والمواسم والأعياد، وتعلموا بها الآداب والأخلاق، و قواعد التصوف، و طريق القوم، رفيع القيم.

– أما أثرها في الأدباء والعلماء وأهل التصوف والخاصة فعظيم، أقبلوا عليها حفظا وتدقيقا، وتمحيصا وشرحا، فاكتشفوا ما ضمته بين ثناياها من درر تشكل قواعد وأسسا للتصوف، وما حبلت به من مهارات لغوية من صرف، ونحو، وإعراب، وشواهد شعرية، وآيات قرآنية وأحاديث نبوية. كل ذلك يحث الباحث ويغريه بالدراسة والبحث قصد الكشف عن مكنونها ورصد عمق معانيها، وعرض مدخر علمها، وفوائد فرائدها.

– أغلب هؤلاء المؤلفين الشراح من كبار أعلام عصرهم ومن البارعين في العلوم العربية، وشتى الفنون الأدبية، وعلى درجة عالية من استيعاب النصوص الإبداعية، وفك متونها إلى وحدات فنية وموضوعية واضحة وجلية، تجمع بين الإفادة والمتعة والذوق والفهم والإدراك. ومؤلِّفنا أبو مدين الفاسي يشكل نموذجا لهؤلاء الأعلام كونه في الحقيقة بارعا ومتألقا في الأدب وعلومه، وهذا ما أثبتته التأليفات المتنوعة التي خلفها.

أسباب ودواعي اختيار الموضوع:

    ● الرغبة في استكناه الخطاب الصوفي، والبحث في قضاياه، واستقصاء ظواهره، منذ سنوات الدراسة بماستر الإبداع الصوفي في الأدب المغربي، خصوصا وأنني اشتغلت بتحقيق متن صوفي في بحث التخرج ماستر ” الإبداع الصوفي في الأدب المغربي”

    ● حبي الشديد للموروث الصوفي أدبا وفكرا وإبداعا، حيث أن الأدب والتصوف وجهان لعملة واحدة، وغايتهما المتح من الذوق والوجدان، وإطلاق العنان للإبداع الحر الخلاق.

    ● الاهتمام بهذا النوع من الكتابة والتأليف في التراث الصوفي المغربي الأصيل، الذي يهتم بشرح المنظومات التي تعنى بجانب التربية والسلوك، وبناء الإنسان وفق مقاربة أخلاقية دينية شمولية.

    ● اندراج هذا العمل ضمن بحوث إحياء التراث الأدبي المغربي الصوفي عموما والإنتاج الفكري لأهل فاس خصوصا، لما لمدينة فاس من إشعاع علمي متميز ودور فعال في تنشيط وازدهار الحركة الصوفية والفكرية والعلمية والأدبية.

    ● شرف الاهتمام بتحقيق التراث المخطوط المغربي، لأنه يشكل ثقافة الأمة، ويحافظ على هويتها، ويحفظ ذاكرتها، و يبرز ملامح وسمات حضارتها، ويعد بلا منازع جسرا للتواصل بين الأجيال، وقنطرة عبور بين السلف والخلف.

    ● قناعتي بأن الاشتغال بالتحقيق يشكل أحد أهم مقومات حفظ الذاكرة، ووجها للهوية المغربية، وذلك باستدعاء رموز الأمة، والاعتناء بتراثها، خاصة ونحن اليوم في زمن العولمة، و تنميط الفكر البشري وطمس الملامح الفكرية والثقافية والدينية.

    ● الاشتغال بهذا الشرح المغربي الأصيل، ليس غاية في حد ذاته، ولا مجرد إرضاء لفضول معرفي صرف، بقدر ما هو وسيلة لإشباع نهم روحي، وتذوق شعري، وفرصة لصحبة القوم، وتنسم فيض عبير إبداعاتهم. فالتحقيق أداة لإرواء ظمإ الكشف عن تراث الأمة الغميس الحافل بشتى أنواع المتون الإبداعية الراقية والذوقية.

    ● المكانة العلمية المتميزة للمؤلف– أبو مدين الفاسي – كونه من صفوة علماء وأدباء عصره إبان القرن الثاني عشر، خصوصا أنه تولى الخطابة والإمامة في القرويين بفاس سنين عديدة.

قيمة المخطوط و أهمية الموضوع:

    قيمة هذا البحث تكمن بالأساس في الكشف عن هوية وحقيقة التصوف المغربي خاصة وأن المؤلف الشارح  أبا مدين الفاسي (ت1181هـ)، علَمٌ من أعلام التصوف والأدب المغربي في عصره. وتكمن ميزةُ المخطوط وأهميته في انتمائه لجنس أدبي فني متميز، برع فيه المغاربة بشكل لافت للانتباه، وهو أدب شرح المنظومات، ولن يتأتى ذلك إلا لمن امتلك قدرات معرفية ومهارات علمية أدبية متنوعة. كما أن قيمة المخطوط من قيمة ما بين دفتيه، من علم ومعرفة وأسس للتربية الصوفية.

    منظومة الرائية لصاحبها الشريشي حجة عند أهل الطريقة. وهي من أوائل ما نُظم في قواعد التصوف، ويمكن تصنيفها ضمن الشعر التعليمي التربوي، أجاد ناظمها وأفاد، ورسم فيها طريق القوم، وبين أبرز الشروط التي ينبغي توافرها في الشيخ والمريد على حد سواء. فهي بمثابة دستور للمريد، ومنهاج لآداب الطريق السليم، ومنارا للسالك، تضم وصفا دقيقا لأحوال ومقامات يعيشها المريد في سلوكه إلى التحقق بمعرفة الله تعالى.

    من هنا اكتسب الشرح قيمة مضافة أهلته كي ينال اهتمام الدارسين والباحثين خاصة وأن القصيدة شُرحت عدة مرات قبل المؤلِّف.

    بناء على ما سبق، عقدت العزم على اختيار موضوع رسالتي في نيل شهادة الدكتوراه :” شرح أبي مدين الفاسي(1181هـ) لرائية الشريشي تحقيق ودراسة“. تكرم بالإشراف عليها الأستاذ الدكتور خالد سقاط، أروم من خلال هذا العمل سواء في التحقيق أو الدراسة الوصول إلى نتائج و خلاصات علمية رصينة و دقيقة.

العوائق والاشكالات:

    هذا بحث يشبه غيره من البحوث في التحقيق، تعتريه بعض الصعوبات التي أعتبرها جزءا من العمل، وما سُمِّيَ البحث بحثا إلا لما فيه من الجد والجهد والمثابرة، وتجاوز ذلك دليل على تقدم البحث، واستجلاء الاشكالات التي تعترض الباحث.

    بعض ما واجهني خلال مراحل البحث أذكر على سبيل التمثيل لا الحصر، محاولة زيارة أكبر عدد من المكتبات الوطنية سواء العامة منها والخاصة في عديد من المدن بغية جرد عناوين المخطوطات لتوظيفها في المقابلة، ولم أكتف بما جاء في الفهارس المنشورة سواء منها الورقية أو الإلكترونية، بل عقدت العزم على زيارة ميدانية للمكتبات لما في ذلك من ضمان للمعلومة الصحيحة، وقطع للشك لما يعتري ذلك من أخطاء أو سهو في الكتابة وكذلك مخافة تعذر وجود نسخ ضمن المجموع.      

    كثرة الأحاديث والنقول التي وظفها الشارح في استشهاداته، استدعى مني مجهودا لتخريجها وتوثيقها من مصادرها، ونسبة غير المنسوب منها إلى صاحبه.

    وجود بعض الإحالات على مصادر لا يشير الشارح إلى أصحابها أو عناوينها فحاولت جاهدا ضبط الإحالات متحريا الدقة قدر المستطاع، وذلك بالرجوع إلى مظانها.        وجود أعلام هامة وكثيرة في المتن، تطلب مني مجهودا للتعريف بها والوقوف عند تراجم أصحابها.

    رغم كل هذه الصعوبات، حاولت تجاوزها بفضل الاستعانة بالله عز وجل، واستلهمته العون والسداد في أن يخرج هذا العمل في أحسن صورة، وعلى الوجه الذي يليق به، ويكون في مستوى قيمة المخطوط وصاحبه.

خطوات التحقيق

    بعد عملية بحث مكثفة، وجرد بعض نسخ مخطوطة رائية الشريشي، كان من الضروري بداية استخراج جملة من المعطيات والبيانات، و التي هي بمثابة معايير تساعد على تحديد بعض المواصفات التي تسعف على إجراء محاولة مقارنة وترتيب النسخ المحصل عليها، قصد ترجيح بعضها عن بعض، وذلك بالرجوع إلى تاريخ النسخ ومعرفة نوعية الخطوط، والوقوف عند الحواشي المثبتة، واستبيان طبيعة الأخطاء والتصحيفات الواردة في النسخ.

    كان أملي أثناء البحث في المكتبات العثور على النسخة الأم، أو الأقرب إليها، وترتيب باقي النسخ. غير أن ذلك لم يكن ممكنا – شكل مقنع – في غياب نسخة أصل راجحة، حيث اتضح لي بعد تصفح النسخ، والتي هي في الحقيقة متعددة، اكتفيت بخمس نسخ منها فقط     لوجود قواسم مشتركة بينها، يكاد الحديث عن التفاضل بينها يغيب، نظرا لوجود اختلافات طفيفة، مما يجعلها في مرتبة متقاربة.

    بناء على ما توصلت إليه، عمدت إلى تحكيم عاملين أساسيين في الترجيح بينها وهما:عامل التوثيق التاريخي، وذلك من خلال النظر إلى تاريخ النسخ. ثم إلى عامل التوثيق النصي.

منهج تحقيق متن شرح الرائية

    النسختان اللتان تيسر لي الوقوف عليهما واعتمدتهما في تحقيق متن شرح الرائية هما النسخة “أ” واعتبرتها أصلا في التحقيق، بالنظر إلى الاعتبارات السالفة الذكر، وهي النسخة المسجلة بالمكتبة الوطنية 930ك، واعتبرت غيرها من النسخ أي النسخة التي وجدتها في مكتبة الملك عبد العزيز بالدار البيضاء نسخة ثانية ورمزت لها بحرف “ب” .

    في البداية اجتهدت في نقل المتن كله من المخطوط إلى المرقون بدقة وعناية وحرص شديد قدر ما استطعت من النسخة “أ. بعد ذلك قابلت الأصل- أي النسخة “أ” بنسخة المقابلة    ” ب”، فكان من الطبيعي أن أعثر على بعض الاختلافات التي هي في الحقيقة طفيفة، تعاملت معها على أساس الالتزام بما وجدته في النسخة “أ” ما أمكن، مع الإشارة في الهامش إلى الاختلافات الواردة من تحريف، وتصحيف، وزيادة، وإسقاط، أو غير ذلك، مستندا إلى قرائن واضحة المعالم.

    والجدير بالذكر أنني أثناء عملية المقابلة، لم أكن أرجع إلى النسخة الثانية فقط، بل أيضا أعود إلى المصادر التي اعتمدها المؤلف، مثل عوارف المعارف، وقوت القلوب وغيرهما من الكتب الواردة في الشرح، مما سمح لي بضبط عدد من النصوص المكتوبة، إلا أنني  لا أستطيع الجزم بطبيعة الأخطاء التي وقفت عندها، هل مصدرها المؤلف نفسه في النسخ ، أم هي ناجمة عن سهو النساخ الذين تكلفوا بكتابتها.

    أُقِرُّ أنني اجتهدت ما استطعت خلال المقابلة في احترام جميع الاختلافات بين النسخ ونقلتها بأمانة ودقة، ووضعت نصب عيني أثناء تحقيق النص إثبات ما يلزمه، لإقامته سليما بالصورة التي ارتضاها صاحبها – المؤلف- وقريبة إلى الأصل.

    إن المنهج الذي توسلت به التحقيق، رمت من خلاله تقليب الكلام على أوجهه الممكنة، والبحث باستمرار عن الأصوب والأرجح، خاصة بالنسبة إلى متن الكتاب، أما التعليقات الموازية له فقد كان الحرص على إغنائها بما يقرب محتوى النص ويشرح مبهماته، فسجلت كل ما يحتاجه المتن من تخريج وشرح وتعريف وتوثيق، متحريا في هذا العمل الدقة والضبط. أشير إلى أنني استغنيت عن ذكر ما أورده الناسخ في الهامش من تنبيهات على بعض المعلومات الهامة، فكان يشير إليها بقوله: ” قف على…” ، عملت قدر المستطاع على توزيع النص في شكل يساعد على القراءة وذلك بوضع علامات الترقيم، ورسم الحركات الإعرابية على كلمات المتن.

خطة البحث

    حددت خطة البحث في الأطروحة في مقدمة وخاتمة، وبينهما قسمان: قسم للتحقيق وقسم للدراسة.

    • المقدمة: عرفت فيها بطبيعة الموضوع، وأبرزت من خلالها أهمية المخطوط-موضوع بحثي- وبينت أصالته، فأشرت إلى قيمة المتن العلمية والأدبية، ثم أفصحت عن الدوافع الذاتية والموضوعية التي جعلتني أختار العمل وأتبناه وأجتهد في الاشغال به، لأنني أعتقدمنذ البدء أن إخراج مثل هذا العمل هو في الأساس إبراز لمقومات وأسس الكتابة الصوفية المغربية، وذكرت بعض الصعوبات التي واجهتني أثناءرحلة البحث، وفي الختام ذيلت المقدمة بشرح مقتضب عن المنهج الذي تبنيته في البحث وسطرت أبرز الخطوات التي اعتمدتها في الإنجاز والإعداد من خلال تقسيم العمل إلى فصول ومباحث ومطالب.

    • القسم الأول: خصصته للتحقيق، (تحقيق الرائية و تحقيق متن الشرح) وهو أس البحث وأصله، اعتمدت فيهما المنهج المتبع عادة في التحقيق:

    أفردت صفحات للحديث عن منهجية العمل في التحقيق، ووصفت نسخ المخطوطة ورتبتها وفق معايير خاصة، و قدمت قائمة بالرموز المعتمدة في تحقيق المتن، ثم شرعت في التحقيق والإخراج.

    تأسست استراتيجية العمل وفق عملية علمية دقيقة، بدءا بعملية جمع النسخ من مختلف المكتبات قدر الإمكان، بعد ذلك قمت بإجراء المقابلة بين النسخ، فرجحت نسخةً اعتبرتها الأصل وفق معايير معينة رمزت لها ب “أ”، أما النسخ الثانية فرمزت لها بحرف “ب” بينتها في قائمة الرموز، ثم أثبتُ في الهامش كل ما من شأنه أن يخدم النص، من قبيل تخريج الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، وترجمة الأعلام البشرية والجغرافية، مع شرح الكلمات الغامضة والمصطلحات الصوفية، وغير ذلك مما يُيَسِّر الوصول إلى فهم النص وإدراك مغزاه، والإحاطة بمعناه.

    القسم الثاني: خصصته للدراسة حيث قسمته إلى فصول، تنضوي تحتها مباحث. تطرقت في الدراسة في الفصل الأول إلى ترجمة مستفيضة عن الناظم الشريشي وأبرز شيوخه وتلامذته سواء من المغرب أو مصر أو بغداد، وذكرت بعضا من مؤلفاته وآثاره العلمية، وبعد ذلك فصلت القول في المنظومة وأبرزت قيمتها الأدبية والعلمية، ووقفت عند أبرز شراحها. أما الفصل الثاني خصصته للحياة السياسية والاجتماعية والفكرية والدينية التي كانت سائدة زمن المؤلف أبي مدين الفاسي، يلي ذلك فصل خاص بترجمة أبي مدين الفاسي، فكان من بين ما ركزت عليه أولا، جرد المصادر والمراجع والمجلات التي تصدت للمؤلف بالترجمة، مما أعانني على وضع ترجمة مستفيضة للشارح، بينت أهم شيوخه، وأبرز تلامذته، وما خلفه من إنتاجات أدبية، بعضها محقق، والبعض الآخر ما زال مخطوطا. وفي الفصل الرابع بيت أصل الزاوية الفاسية التي ينتمي إليها أبو مدين الفاسي ومكانتها العلمية ومناقب الأسرة الفاسية، ودوره في إشعاعها التربوي خاصة في زمنه، والفصل ما قبل الأخير قسمته لثلاثة مباحث، المبحث الأول تطرقت لموضوع التوبة، أما المبحث الثاني فخصصته للزهد، وآخر مبحث تناولت فيه موضوع دوام العمل لله ظاهرا وباطنا، وهذا التقسيم الموضوعي سبق وأن سطره الشارح أبو مدين الفاسي في مقدمته حيث بين أن موضوع القصيدة الشريشية لا يخرج عن المواضيع السابقة. وفي الفصل الأخير حددت أهم القضايا النقدية: المنهجية والفنية في الشرح فوقفت عند منهج الشارح وبينته من خلال تتبع المتن المشروح كونه لم يفصح عن منهجيته في خطبة المتن، فحاولت رصد مختلف العناصر المكونة للخطبة وذكرت أسباب التأليف، وعينت مصادر الاستشهاد في الشرح، من قرآن كريم، وحديث نبوي شريف، وما وظفه من أبيات شعرية، ونقول أدبية أغنى بها الشارح المتن، بعد ذلك أفردت مبحثا خاصا بالقضايا اللغوية، حيث قسمته على مستويات منها اللغوي المعجمي، والصرفي، والنحوي، والمعنوي التركيبي، واختتمت الفصل بمبحث ثالث أوضحت من خلاله القضايا البلاغية والعروضية التي ذكرها أبو مدين الفاسي في ثنايا شرحه للقصيدة الرائية.

    • الخاتمة: ضمنتها جملة من الإشارات الجوهرية التي استخلصتُها مما تقدم في ثنايا العمل، أعتقد أنها تشكل خلاصة للعمل برمته، واقترحت في النهاية محاور لعلها تشكل آفاقا للبحث في مواضيع تعنى بشرح القصائد الشعرية الصوفية، وتكون امتدادا للعمل على شكل أعمال أكاديمية تثري مكتبات الجامعات المغربية.

    أود أن أشير إلى أن المصادر والمراجع التي اعتمدتها في هذا العمل من حيث التحقيق والدراسة كثيرة ومتنوعة، منها المخطوط والمطبوع والمرقون، أذكر منها كتب التاريخ والتراجم والسير والمناقب،ومنها كذلك كتب التفسير والحديث والسنن والمجاميع الأدبية والدواوين الشعرية، إضافة إلى عدد من الدراسات والأبحاث والمقالات العلمية الرصينة لثلة من الأساتذة الأجلاء، ورسائل جامعية علمية مرقونة عثرت عليها في مختلف مكتبات الجامعات المغربية. والذي لا ريب فيه، أن هذا العمل، لا بد أن يكون مشوبا بالنقص، موصوفا بالقصور حسبي أني اجتهدت ما استطعت وما توفيقي إلا بالله.

    فهذا البحث يروم تحقيق متن مغربي ينتمي للقرن الثاني عشر هجري/ الثامن عشر ميلادي، ويندرج ضمن جنس الشروح الشعرية التي عرفت انتعاشا ملحوظا في عصر أبي مدين الفاسي إبان الحقبة العلوية، التي راعى حكامها الحركة الإبداعية الثقافية وشجعوا الأدباء على الكتابة والتأليف، والتنافس في تشييد المكتبات، وجلب الكتب والمخطوطات، وقد حضي الشارح أبو مدين الفاسي بمكانة عالية بين أدباء وعلماء عصره حيث تقلد الإمامة والخطابة بمسجد القرويين، ولم يكن يتأتى ذلك إلا لمن توافرت فيه مؤهلات علمية و مهارات فكرية تميزه عن غيره.

    وبعد هذا التحقيق المتواضع لمتن الرائية لصاحبها الشريشي وللشرح الذي وضعه المؤلف أبو مدين الفاسي عليها تبين لنا جليا قدرة الشارح أبي مدين الفاسي في الكشف عن عوالم القصيدة الشريشية، وإمكاناته الفكرية والثقافية في رصد  فرائدها ودخائرها الدلالية والمعنوية، حيث بلغت مضامينها مستوى رفيعا من الإحاطة والشمول في بيان طريق سلوك المريد بواسطة الشيخ إلى ملك الملوك، وما ضمته من ثراء وتنوع وغنى على مستوى القضايا البلاغية واللغوية والفنية التي أثتت فضاء المتن المشروح، والتي حاولت استخراجها وإبراز بعض جمالياتها الموضوعية والفنية. 

    لقد كان الشارح أبو مدين الفاسي، صاحب ريادة في اللغة، متمكنا من قواعدها وأسسها، فأحسن تسخيرها في خدمة الشرح، بحسب ما اقتضته الحاجة ودعت الضرورة إليه، وهذا ما ينم عن سعة مخزونه الفكري، وثرائه الثقافي، وغنى رصيده المعرفي؛ فالشارح كان يحرص على إيضاح ألفاظ القصيدة كما صرح في مقدمة شرحه، لأنها الطريق الممهدة لبلوغ المعنى العام من الأبيات، فهذا التوسع اللغوي في الشرح أسهم في تيسير وتسهيل بيان مضامين القصيدة، وتقريب معانيها للقارئ.

    إنني من خلال هذا العمل، أرجو الله أن أكون قد أسهمت ولو بالنزر القليل في إثراء الخزانة المغربية بهذا المتن من التراث الصوفي، الذي امتاز ببعده التربوي والأخلاقي والإبداعي والجمالي، رصد فيه المؤلف/الشارح في الحقيقة مجموعة من النصوص الصوفية وجملة من الأدلة والاستشهادات، نوع المصادر التي بنى عليها شرحه بشكل يستجيب لمقتضى حال المتلقي، حيث استهدف بكلامه عامة الناس وخاصتهم. 

    وقد فتح لي هذا البحث آفاقا جديدة حول أدب الشروح، كونه يشكل ثراء فكريا، وغنى في المستوى الدلالي، وجمالية في المستوى الفني، رغم ما يمكن أن تطرحه مصنفات الشروح من نقاش حول قيمتها العلمية والمنهجية، فإنه مما لا شك فيه، أن عمل الشرح ليس بالإنجاز الهين الذي يفتقد صفة الإبداع، أو يكتفي من خلال صاحبه بحل ما استشكل من القول، وإيضاح الغامض منه، وتبسيط ما صعب إدراكه، أو ما تعذر فهمه، ولكنه عمل متكامل نابع من رؤية ناضجة وواضحة، ومعبر عن تجربة خاصة في القراءة وعن موقع معين يزاول من خلاله الشارح عملية التحليل والشرح. إنه بصفة مجملة أسلوب خاص في معالجة المتن وتناول مادته. ولذلك تحظى الشروح الأدبية باهتمام خاص في باب الدراسات الأدبية باعتبارها مادة أساسية تزود الباحث بصورة عامة عن مناهج القراءة النقدية عند الشراح، وتبرز التقنيات الوظيفية التي استعملوها في مقارباتهم النقدية التطبيقية خاصة في التراث الأدبي المغربي.

    ولهذا لا ينبغي الانجراف مع الأحكام الجاهزة التي تحاكم بعض الأصناف الأدبية مثلما اتهمت به الشروح بدون قراءتها وبدون إعمال النظر فيها، أو التي تحاكم أدب الشروح بمقاييس تحتاج لإعادة النظر، وأحيانا تكون مستمدة من ثقافة نقدية مستوردة، أو تحاكم الأدب القديم بمعايير نقدية جديدة ومستحدثة. وعليه فإن دراسة الظواهر الفنية والإنتاجات الأدبية ينبغي دراستها بمعايير عصرها وبالمقاييس النقدية التي تواضع عليها العلماء والنقاد في ذلك العصر. فلكل زمن أدبي أذواقه واختياراته ومعاييره التي تناسبه وتستجيب له.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق