مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكتراث

تقريب نظم ابن عاشر شذرات من شرح العلامة الشيخ أبي عبد الله محمد بن قاسم جسوس على توحيد ابن عاشر(6)

إعداد:

الدكتور عبد الله معصر

الدكتور مولاي إدريس غازي

قال العلامة الشيخ أبو عبد الله محمد بن قاسم جسوس شارحا لقول الناظم:

مقدمة لكتاب الاعتقاد          معينة على المراد

وفي شرح الحكم للشيخ زروق رضي الله عنه: “قال بعضهم: إن حكمة دخول المؤمنين النار ورودا ثلاثة أشياء: أحدها لينتقل اعتقادهم للعيان في أنها لا تحرق بطبعها، ولم تعد على إبراهيم عليه السلام، الثاني لتعظم لذتهم بالتشفي من الكفار وبدخول الجنة بعد النجاة من النار، الثالث ليكون أبلغ في حسرة الكفار إذ يقولون لو دخلوها لاحترقوا كما احترقنا، وتتم الحجة على من يعتقد التأثير منهم نسأل الله العافية بمنه.” انتهـى.

وقال الباجي: أجرى الله عادته في العاين إذا لم يبارك أنه يصيب بعينه، فهو بفعل الله وخلقه، وكذا قالوا في السحر. انتهى. وكذا قالوا فيما يقع للمتريض عن تجريد قوى نفسه، وما يُجري الولي بتحققه في يقينه؛ تحقق بأوصافك يمدك بأوصافه، حتى يصير باسم الله منهم بمنزلة كن من الله، فلا يريد شيئا إلا كان لوقته، ويعبر الصوفية عن قوى النفس التي تنفعل عنها بعض الموجودات بالهمة، فيقولون أحالَ فلان همته على أمر ما فانفعل له ذلك، وقد أشار في الحِكم إلى هذه الهمم الأربعة؛ ما يكون من الساحر والعاين والمتريض والولي بقوله: “سوابق الهمم لا تخرق أسوار الأقدار”.

وقال سيدي ابن عباد: “وهذه الهمم قد تكون للأولياء كرامات، وقد تكون لغيرهم استدراجا ومكرا كما يكون للعاين والساحر، وحاصل ذلك أنه يجب أن يعتقد أنها أسباب لا تأثير لها ولا فاعلية، وأن الفاعل هو الله سبحانه وحده عندها لا بها” انتهـى.

قال الشيخ زروق: “والمقصود أنها مع سرعة نفوذها وعدم توقفها على سبب ولا غيره موقوفة على موافقة القدر في نفوذها، فلا نفوذ لها دونه، ولا خروج لها عنه؛ إذ قد أحاط بها وبكل الكائنات معنىً كإحاطة السور بالمحصور حسا حسبما شهدت به العقول وقضايا الشرع المنقول”. أنظر تمام كلامه.

قلت: ومن هذا الباب مسألة العدوى، وقد ثبت بطلان العدوى بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر)

[1]. قال الحافظ بن حجر: “والذي تحصل في المذاهب في العدوى أربعة أقوال، الأولى أن المرض يُعدي بطبعه صِرفا، وهذا قول الكفار. الثاني أن المرض يُعدي بأمر خلقه الله فيه وأودعه فيه لا ينفك عنه أصلا إلا إن وقع لصاحب معجزة أو كرامة فيتخلف، وهذا مذهب إسلامي لكنه مرجوح. الثالث أن المرض يُعدي لكن لا بطبعه، بل بعادة أجراها الله فيه غالبا، وقد يتخلف بإرادة الله، لكن التخلف نادر في العادة. الرابع أن المرض لا يعدي أصلا، بل من اتفق له وقوع ذلك المرض فهو بخلق الله سبحانه ذلك فيه ابتداء؛ ولهذا ترى الكثير ممن يصيبه المرض الذي يقال أنه يعدي يخالطه الصحيح كثيرا ولا يصيبه شيء، قال: والمذهبان الأخيران مشهوران، والذي يترجح في باب العدوى هو الأخير عملا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم في ذلك: (فمن أعدى الأول)”. انتهـى.

قال الحطاب في عمدة الراوين في بيان أحكام الطواعين: قلت: المذهب الثالث قريب من الثاني فهو مرجوح أيضا. ثم قال في تفسير غريب هذا الحديث: والعدوى بفتح العين المهملة، كانت العرب تعتقد أن المرض يعدي وينتقل إلى الصحيح، فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم اعتقادهم وأبطل العدوى. والطيرة بكسر الطاء المهملة وفتح التحتية على وزن عنبه، هذا هو المعروف المشهور، وحكي تكسير الياء. والتطير: التشاؤم، وأصله أنهم كانوا يعتمدون على الطير، فإذا خرج أحدهم لأمر فإن رأى الطير طار يمنة تيمن به؛ أي تبرك واستمر، وإن رآه طار يسرة تشاءم ورجع، وربما كان أحدهم يُهيج الطير ليطير وينفر الظباء، فجاء الشرع بالنهي عن ذلك، وكانوا يسمونه السانح والبارح، والسانح: ما والاك ميامنة بأن يمر عن يسارك، فيتيمنون بالسانح ويتشائمون بالبارح؛ لأنه لا يمكن رميه إلا بأن يتحرفوا له، وليس في ذلك ما يقتضي شيئا مما اعتقدوه. والهامة بتخفيف الميم على المشهور، وحكي تشديدها، وفي معناها تأويلان: أحدهما أن العرب كانت تتشاءم بالهامة، وهي الطائر المعروف من طير الليل، وقيل: هو البومة، كانوا إذا سقطت على دار أحدهم يراها ناعية له نفسه أو بعض أهله، وهذا تفسير مالك بن أنس رضي الله عنه. والثاني أن العرب كانت تعتقد أن عظام الميت وقيل روحه ينقلب هامة تطير، وهذا تفسير أكثر العلماء. ويجوز أن يكون المراد النوعين فإنهما باطلان. والصفر: بفتح الصاد المهملة والفاء وآخره راء، وفيه تأويلان: أحدهما أن المراد تأخيرهم تحريم المحرم إلى صفر وهو النسي، وبه قال مالك وأبو عبيدة، والثاني أن الصفر دواب في البطن كانوا يعتقدون أن في البطن دابة تُهيج الجوع وربما قتلت، ويرون أنها أعدى من الجرب، وبه قال مطرف وابن حبيب وجماعة من العلماء، والنوعان باطلان. انتهى ببعض اختصار.

وقال سيدي محمد بن عبد الرحمن الحطاب في حاشيته على الرسالة: “قوله صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى)؛ قال ابن رشد في رسم البيع والصرف من سماع أصبغ من كتاب العيوب: معناه إبطال ما كانوا يعتقدون من أن المريض يعدي الصحيح، ولم ينف وجود مرض الصحيح عند حلول المريض عليه غالبا بقضاء الله وقدره، دون أن يكون للمريض في ذلك تأثير فعل”[2]. انتهى.

ثم نقل عن ابن رشد أيضا أنه لا معارضة بين حديث: (لا عدوى) وحديث: (الشؤم في الدار والمرأة والفرس)[3]، خلافا لمن زعم ذلك؛ لأن حديث (لا عدوى) نفى أن يكون لشيء من الأشياء تأثير في شيء؛ إذ لا فاعل إلا الله عز وجل، وحديث الشؤم في كذا أعلم أنه قد يوجد الشؤم وهو تكرر الأذى على ساكن بعض الدور أو نكاح بعض النساء أو اتخاذ بعض الخيل بقضاء الله وقدره السابق على ما أخبر به، حيث يقول: ﴿ما أصاب من مصيبة﴾[4] الآية، لا لعدوى شيء من ذلك إلى شيء ولا تأثير له، فلم ينف بقوله: (لا عدوى) وجود ما هو موجود مما يعترى، وإنما نفى أن يكون شيء من الأشياء يعدي على ما يعتقده أهل الجاهلية والجهالة.

قال ابن رشد: والمروي في ذلك حديثان في جامع الموطأ، أحدهما إن كان يعني الشؤم ففي الفرس والمرأة والمسكن، والثاني قوله: الشؤم في الدار والمرأة والفرس. انتهـى. قال في المقدمات: من قال في الأسباب العادية أنها تؤثر بطبعها فقد حُكي الإجماع على كفره، ومن قال تؤثر بقوة أودعها الله فيها فهو فاسق مبتدع، وفي كفره قولان. انتهـى. وانظر شرحها.

قلت: ولا منافاة بين قوله صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى) إلخ وقوله في آخر هذا الحديث: (وفر من المجذوم فرارك من الأسد)[5]، وقوله: (لا يوردن ممرض على مصح)[6]؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن بين ما هو المعتقد الحق نَفّر الناس من مخالطة من به هذه العاهات؛ شفقة على الضعفاء وحفظا لعقائدهم ورفقا بهم ليلا يوافق القدر مرضهم بذلك، فيثبتون العدوى، فاعلم ذلك.

الهوامش:


[1]– رواه البخاري في صحيحه، كتاب الطب، باب الجذام. وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب السلام، باب لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ولا نوء ولا غول ولا يورد ممرض على مصح.

[2]– أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب السلام، باب الطيرة والفأل وما يكون فيه من الشؤم.

[3]– أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب السلام، باب الطيرة والفأل وما يكون فيه من الشؤم.

[4]– سورة الحديد، الآية: 22.

[5]– جزء من حديث في  صحيح البخاري، كتاب الطب، باب الجذام. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى، كتاب النكاح، باب لا يورد ممرض على مصح فقد يجعل الله تعالى بمشيئته مخالطته إياه سببا لمرضه، رقم: 14245.

[6]– جزء من حديث رواه البخاري في صحيحه، كتاب الطب، باب لا هامة. رواه مسلم في صحيحه، كتاب السلام، باب: لاعدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صَفر ولا نوء ولا غول ولا يورد ممرض على مصح.

الدكتور عبد الله معصر

• رئيس مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوك بالرابطة المحمدية للعلماء.

د. إدريس غازي

• خريج دار الحديث الحسنية ـ الرباط.
• دكتوراه في الدراسات الإسلامية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله ـ فاس، في موضوع: "أصل ما جرى به العمل ونماذجه من فقه الأموال عند علماء المغرب".
• دبلوم الدراسات العليا من دار الحديث الحسنية، الرباط، في موضوع: "المنهجية الأصولية والاستدلال الحجاجي في المذهب المالكي".
من أعماله:
ـ الشاطبي بين الوعي بضيق البرهان واستشراف آفاق الحجاج.
ـ في الحاجة إلى تجديد المعرفة الأصولية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق