مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات محكمة

تقريب العمل الفاسي عند علماء المغرب: قاعدة: “العبرة في الأحباس بالقصد لا باللفظ” نموذجا

2- مسالك العلماء في تقريب قاعدة: “العبرة في الأحباس بالقصد لا باللفظ”

من المعلوم أن القاعدة الأصلية التي تنضبط بها التصرفات الوقفية، هي الالتزام الكامل بما نص عليه الواقف من شروط، والوقوف عند الألفاظ الواردة في عقد التحبيس، لأنها وحدها الكفيلة بالإرشاد إلى ما أراده المحبس من تصرفه عند تطبيق مقتضياته وبيان وجوه تحبيسه.

ومجال تطبيق هذه القاعدة أي وجوب اتباع لفظ المحبس، حيث تكون الألفاظ في أعلى مراتب اتضاح الدلالة على المعنى المراد، وهي النصوص التي لا احتمال فيها أو الظواهر البينة الظهور، وعلى هذا تتنزل القاعدة الفقهية التالية: “ألفاظ المحبس كألفاظ الشارع في وجوب الاتباع ولزوم اعتبار نصوصها وظواهرها”[23].

أما عند وجود احتمال في لفظ المحبس، وقام الدليل على أن المقصود خلافه، فهل يقتصر على موارد لفظ المحبس دون مجاوزتها، أم يتعين تعقب قصد المحبس بتأويل لفظه وحمله على معناه المقصود عنده حتى ولو اقتضى الأمر خلاف الملفوظ؟.

في المسألة خلاف في المذهب، والذي جرى به العمل هو اعتبار قصد المحبس دون الاكتفاء بالوارد في اللفظ، وهذا ما نص عليه أبو زيد الفاسي في عملياته بقوله:

   وروعي المقصود في الأحباس     لا اللفظ في عمـل أهل فـاس

قال السجلماسي: “اعلم أنه اختلف إذا كان لفظ المحبس ظاهرا في معنى، وقامت قرينة على أن المقصود خلاف ذلك الظاهر، هل يعمل بمقتضى اللفظ أو يصار إلى المقصود المدلول عليه بالقرينة، فذهب أبو عمران إلى اعتبار ظاهر اللفظ قائلا الناس عند شروطهم في أموالهم وفيما أعطوا، وذهب غيره إلى اعتبار المقصود دون اللفظ، وبهذا الثاني جرى عمل أهل فاس على ما ذكره الناظم وهو ظاهر فتوى القابسي”[24].

ويتعلق بهذا العمل أمور وهي:

أ- أن اعتبار القصد مقيد بوجود الاحتمال في اللفظ، وقيام الدليل على أن المقصود خلاف الملفوظ، أما إذا كان اللفظ دالا على معناه دلالة قطعية، فيجب الاقتصار عليه لأن اللفظ والقصد هنا متطابقان، وقد نبه السجلماسي على هذا التقييد بقوله:

“لا يترك لفظ الحبس إلا حيث يكون ظاهرا في معنى يظهر من قرينة الحال أن المقصود خلافه، أما حيث يكون اللفظ نصا في المعنى بأن يكون دالا عليه لا يحتمل غيره قطعا، فيجب الوقوف عنده ولا يتعدى إذا كان ذلك مما يجوز شرعا، (…) وشرح هذا يعلم مما عقده ابن هلال أخذا من كلام ابن رشد رحمهما الله قال: لا خلاف أن الألفاظ المسموعة إنما هي عبارة عما في النفس، فإذا عبر المحبس عما في نفسه من إرادته بلفظ غير محتمل، نص فيه على إدخال شيء أو إخراجه منه، وقفنا عنده ولم تصح لنا مخالفة نصه، وإذا عبر عما في نفسه بلفظ محتمل للوجهين جميعا وجب أن نحمله على ما يغلب على ظننا أن المحبس أراده من محتملات لفظه، بما يعلم من قصده، لأن عموم ألفاظ الناس لا تحمل إلا على ما يعلم من قصدهم واعتقادهم، إذ لا طريق لنا إلى العلم بما أراده المحبس إلا من قبله، كما يخصص عموم لفظ الحالف بما يعلم من مقاصد الناس في أيمانهم وعرف كلامهم هـ. فظهر من هذا أن اللفظ الذي هو نص في مدلوله لا معارضة فيه بينه وبين المقصود، بل هو أدل على المقصود من غيره، ولا يمكن أن تقوم معه قرينة تدل على خلاف ذلك المدلول”[25].

وما قرره السجلماسي هنا مأخوذ من كلام ابن رشد الوارد في نوازله وقد نقله الحطاب في التزاماته فقال: “وقد ذكر ابن رشد في مسائل الحبس من نوازله أنه يجب أن يتبع قول المحبس، فما كان من نص جلي أن لو كان حيا فقال أنه أراد ما يخالفه، لم يلتفت إلى قوله ووجب أن يحكم ولا يخالف حده فيه، إلا أن يمنع منه مانع من جهة الشرع، وما كان من كلام محتمل لوجهين فأكثر، حمل على أظهر محتملاته إلا أن يعارض أظهرها أصل فيحمل على الأظهر من باقيها، إذا كان المحبس قد مات ففات أن يسأل عما أراد بقوله من محتملاته، فيصدق فيه إذ هو أعرف بما أراد وأحق ببيانه من غيره. هـ فعلم منه أنه إذا كان المحبس حيا وفسر اللفظ بأحد محتملاته قبل تفسيره به، ولو كان خلاف الأظهر، ولا يقبل قوله في الصريح أنه أراد به خلاف معناه”[26].

إلا أن العلامة المهدي الوزاني لم يرتض هذا التقييد الذي درج عليه السجلماسي، وقرر أن قاعدة مراعاة القصد في الأحباس التي جرى بها العمل ثابتة الإطلاق سواء كان اللفظ صريحا أو غير صريح، وأن تقييدها بالقيد المذكور إنما يتنزل على رأي القائلين بضرورة الوقوف عند اللفظ دون التفات إلى القصد، ومما ورد في تعقيبه قوله:

“لا يخفى أن هذا الكلام من أوله إلى آخره إنما هو على القول بتقديم اللفظ على القصد، لا على القول الذي به العمل فهو غلط منه”[27]. كما اعترض تقريره لكلام الناظم الوارد أعلاه بصورة اعتبار القصد المدلول عليه بالقرينة دون سواه فقال: “وعليه اعتراضان الأول أن تقريره بخصوص هذه الصورة وهي أن يكون اللفظ ظاهرا في معنى وتقوم القرينة على خلافه مخالف لظاهر النظم والنقل أيضا، إذ ليس فيه ما يشهد له بل ظاهرهما أن اللفظ إذا كان معارضا للقصد في باب الحبس فالعمل على القصد كيف ما كان اللفظ، الثاني أن جعله موضوع النقل خاصا بتلك الصورة خلاف كلام الأئمة بأجمعهم من الإطلاق”[28].

ب- أن جريان العمل بالقصد دون الدلالة اللفظية مبني على ترجيح بعض أكابر علماء المذهب، كأبي الحسن القابسي حيث استفاد العلماء من فتواه في مسألة الكتب المحبسة، قاعدة رجحان القصد على اللفظ في التحبيس، جاء في المعيار ما نصه:

“وسئل أيضا رحمه الله تعالى (أي أبو الحسن القابسي) عمن حبس كتبا وشرط في تحبيسه أنه لا يعطي إلا كتابا بعد كتاب، فإذا احتاج الطالب إلى كتب وتكون الكتب من أنواع شتى، فهل يعطى كتابين معا أو لا يأخذ إلا كتابا بعد كتاب؟

فأجاب: إذا كان الطالب مأمونا أمينا مكن من هذا، وإن كان غير معروف فلا يدفع إليه إلا كتاب واحد وإن كان من أنواع، خشية الوقوع في ضياع أكثر من واحد، وظاهر كلام أبي عمران أنه لا يتعدى ما شرطه، لقوله المسلمون عند شروطهم، وظاهر ما في هذا السؤال أنه يراعي قصد المحبس لا لفظه، ومنه ما جرى به العرف في بعض الكتب المحبسة على المدارس ويشترط عدم خروجها من المدرسة، وجرت العادة في هذا الوقت بخروجها بحضرة المدرسين ورضاهم، وربما فعلوا ذلك في أنفسهم ولغيرهم، وهو والله أعلم لما أشار إليه هذا الشيخ من مراعاة قصد المحبس لا لفظه”[29].

ج- أن ما جرى به العمل من ترجيح القصد على اللفظ في التحبيس يتخرج على القول المشهور في باب الأيمان، وهو اعتبار المقصد العرفي فيها دون المقتضى اللغوي، حيث ذكر الحطاب أن ما جرى في مسألة الأيمان من الخلاف وما تعلق بها من ترجيح هو جار أيضا ومتعلق بمسألة الحبس، وقد نص على ذلك بقوله: “والخلاف الجاري هناك يجري هنا والراجح من الأقوال في الأيمان هو الراجح هنا، وقد علم أن المشهور في المذهب من الأيمان تقديم العرف”[30].

قال السجلماسي بعد سوقه كلام الحطاب: “ومقابل المشهور في الأيمان لأهل العراق، فإنهم يعتبرون اللفظ دون المعنى والبساط. قال ابن رشد: وهو خطأ في الفتوى لأن الأحكام منوطة بمعاني الألفاظ دون ظواهرها، لأنه يقود إلى الكفر وإلى اللعب في الدين ومنه قوله تعالى:﴿فاعبدوا ما شئتم من دونه﴾[31]، فظاهره أمر ومعناه النهي والوعيد”[32].

د- إذا كان العمل بقصد المحبس دون لفظه عاما في سائر الصور، أي سواء المنطوقة أو المسكوت عنها كما هو مقرر عند المهدي الوزاني، فإن الكشف عن مقاصد المحبس يتحقق بالطرق والوسائل المقررة في استنباط الأحكام وبيان مقاصد الخطاب، كالعرف والمصلحة وغيرهما من الوسائل المفيدة في الكشف عن قصد المحبس، وبيان إرادته خاصة عند انبهام دلالة لفظه أو سكوت النص.

أما العرف، فقد نص العقباني على اعتباره في بيان القصد، إذ يقوم مقام اللفظ في الدلالة عليه فقال: “وإن لم يوجد للحبس مرسوم ببنان، فالعادة المطردة تقوم مقام الإفصاح باللسان، وتغني عما أغفل رسمه بالبنان”[33].

ومن أمثلة حمل نص التحبيس على المعنى العرفي، ما أورده الونشريسي في المعيار نقلا عن جواب لبعض العلماء عن سؤال متعلق بالحبس المبهم، وفيه أن نص التحبيس إذا عري عما يرشد إلى المقصود منه كالقرائن اللفظية والحالية، “نظر إلى المقصد العرفي فعليه يحمل، فإن وقع خلاف في الحمل فهو لاختلاف في حال العرف، كاختلاف بعض المتأخرين فيمن حبس حبسا مطلقا ولم يذكر له مصرف، فقال بعضهم يكون على المساجد إذا وقع في القرى إذ هو غالب تحبيس الناس في القرى، وأفتى أبو عمر ابن القطان فيما جهل سبيله من الأحباس أن يوضع في بناء السور، وقال ابن الحاج إنما يوضع في الفقراء والمساكين”[34].

وأما المصلحة فمجال الاجتهاد فيها فسيح، بل هي الأصل الذي ينبغي أن تحمل عليه تصرفات الواقف سواء عين وجوه المصلحة تصريحا أو التزاما أو لم يعين ذلك البتة، وبهذا الاعتبار ومن هذا الملحظ يرى الوزاني جواز الإحداث والتغيير في الحبس على الوجه الذي يوافق غرض المحبس وقصده، بل يرى جوازه للواقف نفسه في حياته إذا كان محققا للمصلحة المقصودة لديه. يقول الوزاني مبينا هذا المعنى: “فإذا كان يجوز إحداث ما يوافق غرض المحبس بعد وفاته، فلم لا يجوز له أن يفعل ما يوافق غرضه في حياته”[35].

والناظر في نوازل الأحباس يجد طائفة من فتاوي الفقهاء مبنية على اعتبار المعاني المصلحية في الأحباس دون الرسوم أو المباني اللفظية، ومن النماذج الدالة على هذا الباب نسوق ما يلي:

جواز نقل الكتب من موضع التحبيس قصد تعميم الانتفاع بها، وهذه المسألة تتفرع على أصل اعتبار المعنى المصلحي في التحبيس، فقد سئل سيدي عبد القادر الفاسي عن الانتفاع بالكتب المحبسة على المسجد هل هو مختص بمن هو مجاور للموضع أم لا يلزم فيه الاختصاص بالمحل، وخاصة إذا انعدم فيه من ينتفع بها وأمكن الانتفاع بها في غيره فأجاب: “الحمد لله، الجواب –والله الموفق- إن شرط المحبس إذا كان جائزا يجب اتباعه ما أمكن، فإذا تعذر كهذا صرف في مثله فيجوز حينئذ الانتفاع بالكتب في غير ذلك المسجد، إن كان آخذها مأمونا اعتبارا بقصد المحبس إذ لو عرض عليه ذلك ما كرهه”[36].

جواز التصرف في مصاريف الأحباس سواء كانت معلومة أو مجهولة تبعا لما تقتضيه المصلحة[37]، وهذه المسألة أيضا مبنية على هذا الأصل ومتنزلة على مقتضاه، حيث أفتى كثير من الفقهاء بجواز صرف ما فضل عن الأوقاف وخاصة أوقاف الملوك في غير المصرف المنصوص عليه من طرف المحبس رعيا للمصلحة، من هؤلاء الفقيه أبو مهدي عيسى الماواسي، فقد سئل عن حكم تخصيص راتب للمؤذن والإمام ومن يزاول التعليم بالمسجد مما يفضل عما يجب صرفه في المصالح المعتادة للمساجد كالزيت والحصر، فكان جوابه: “الحمد لله أوقاف المسجد المذكور يختلف القول فيها باختلاف محبسها، فإن كانت أوقافها من أحباس الملوك وكان لها على ما سموه من المصرف فضل بين فجائز صرف ذلك الفضل في غير ما سماه الواقف من المصرف، فيعطى منه للإمام والمؤذن وقارئ الكتب المعتادة لما في ذلك من المصلحة العامة، ولا يدخل في ذلك الخلاف المعروف في أوقاف الأحباس، لأن الأئمة في تصرفاتهم وكلاء عن المسلمين وليس للوكيل التصرف إلا على وجه المصلحة، والزائد على المحتاج إليه في المصرف المعين لا مصلحة فيه، فللناظر صرف ذلك الزائد في سبيل الخير غير الجهة التي عينها الواقف، وهذا المنصوص لشهاب الدين القرافي وهو فقه صحيح قوي. وأما إن كان الوقف من غير الملوك وكانت له غلة واسعة ففضل منها كثير على الجهة التي عينها، ففي المذهب خلاف في استنفاذ الزائد المستغنى عنه في غير ما سماه المحبس من سبيل الخير، فلابن القاسم لا يصرف في غيره بل يوسع به في المصرف المذكور للسداد فيه من غير سرف، قال: ويبتاع بالفاضل أصولا تحبس في المصرف المسمى، وبهذا أفتى القاضي أبو الوليد ابن رشد وقال أصبغ وابن الماجشون: أن ما يقصد به وجه الله يجوز أن ينتفع ببعضه في بعض، وروى أصبغ عن ابن القاسم مثل ذلك في مقبرة قد عفت فبنى قوم عليها مسجدا ولم أر به بأسا، قال: وكذلك ما كان لله فلا بأس أن يستعان ببعضه على بعض، وقد رأى بعض المتأخرين أن هذا القول أرجح في النظر لأن استنفاذ الزائد في سبيل الخير أنفع للمحبس وأنمى لأجره، ولقد أخذ بهذا القول أيضا ابن رشد في بعض فتاويه فأفتى بجواز رم مسجد من وفر مسجد غيره، ويكاد في هذا الزمان الاتفاق على المبادرة إلى استنفاذ الأوفار في سبيل الخير، فإن في بقائها موقوفة تعرضا للسلف الذي هو شقيق التلف والله سبحانه المولى الموفق بفضله، وكتب مسلما على من يقف عليه العبد الفقير إلى الله تعالى عيسى الماواسي لطف الله به”[38].

وقد نص ابن هلال في نوازله على عدم جواز التصرف في مصارف الأحباس وقال: “والصواب أن لا يصرف ما حبس على صنف إلى صنف آخر”[39].

إلا أن العلامة المهدي الوزاني اعترض على هذا التصويب من وجوه ثلاثة:

– أولها: أن التصويب المذكور دعوى مجردة ولا دليل على صحتها، “وكان من حقه –يقول الوزاني- أن ينقل ما يؤيده ويبين وجهه، فإن زعم أنه قول ابن القاسم، وذلك كاف في ترجيحه، قلنا: المقابل قول ابن القاسم أيضا مع قول ابن الماجشون وأصبغ”[40].

– وثانيها: أن التصويب المذكور مبني على الرأي القائل بتقديم اللفظ على القصد، والقول بالجواز مبني على ما جرى به العمل من اعتبار القصد دون اللفظ، ومعلوم أن ما به العمل مقدم على غيره، قال الوزاني مقررا هذا الوجه من الاعتراض: “ما قاله هو مذهب القرويين القائلين باتباع اللفظ، والأندلسيون يخالفونهم في ذلك ويعتبرون المقصد دون اللفظ وبه عمل فاس لقوله:

وروعي المقصود في الأحباس      لا اللفظ في عمل أهل فـاس”[41]

ثم أورد الوزاني جوابا للعلامة أبي زيد سيدي عبد الرحمن الحائك المؤيد لصحة الفتوى القاضية بجواز إصلاح أسوار البلد مما جمع من أحباس مكة، بناء على كونها جاءت موافقة للمعمول به عند الأندلسيين.[42]

– وثالثها: ما ورد في أجوبة الفاسي من أن في القول بعدم جواز الصرف مظنة تعرض فضلات الأحباس للإتلاف والضياع، وانقطاع أسباب الانتفاع بها، وفي ذلك كله تفويت لما قصده المحبس من استدامة الأجر وإيصال النفع لمستحقه.[43]

ومما يتصل بجواز التصرف في مصاريف المساجد المحبسة حينما تقتضيه المصلحة، ما جرى به العمل بفاس من جمع أحباس المساجد كلها وضمها إلى حبس المسجد الأعظم حيث تشكل موردا واحدا ينفق منه على ما يصلح شأنها، ويقيم وظائفها مع مراعاة الأولوية في ذلك، فقد جاء في المعيار ما نصه:

“وسئل سيدي أبو محمد عبد الله العبدوسي عن جمع أحباس فاس هل تجمع كلها نقطة واحدة وشيئا واحدا أم لا، فأجاب رحمه الله بجواز جمعها وجعلها نقطة واحدة وشيئا واحدا لا تتعدد فيه، وأن تجمع مستفادات ذلك كله، ويقام منه ضروري كل مسجد من تلك المستفادات المجتمعة، ولو كانت بعض المساجد فقيرة فيوسع عليها من غنيها بحسب المال، وقدم الجامع الأعظم قبل جميعها، ثم الأعمر فالأعمر، فرب مسجد غني في خلاء لا يلتفت إليه فيتجاوز أو يلتفت لكن حاله لا يقتضي زيادة على ضرورياته، ورب مسجد آخر فقير بحيث يلتفت إليه ويكثر المشاؤون إليه فيعتنى به، وكل ما يِؤخذ من بعضها لبعض فإنه يعد سلفا لما عسى أن يحدث يوما ما من عمارة أو إعمار فيرد إليه ما يقيم أوده”[44].

وقد علق السجلماسي على فتوى العبدوسي بقوله: “تضمنت هذه الفتوى التي جرى العمل بمقتضاها تصريف أحباس مسجد في مصالح غيره، وكون ذلك على وجه السلف ليرد إذا احتيج إليه لإقامة ما يحتاج إليه الذي له الحبس، أما صرف فائد الأحباس المعينة المصرف في غير مصرفها ففيه خلاف، والذي به الفتيا إباحة ذلك، وهذا مروي عن ابن القاسم رواه عنه ابن حبيب عن أصبغ، وبه قال ابن الماجشون وأصبغ وبه أفتى ابن رشد، وإليه ذهب الأندلسيون خلاف مذهب القرويين، وبه قال ابن القاسم والأصح الجواز، وهو الأظهر في النظر والقياس”[45].

كما نظم سيدي عبد الرحمن الفاسي هذه المسألة في عملياته وقال:

 وبيع مضغوط لـه نفوذ   وجمع الأحباس له تنفيد

جواز بيع الحبس خشية الهلاك من المجاعة:

وهذه المسألة أيضا لها صلة وثيقة بالقاعدة المذكورة، وحاصلها أن الشيء الموقوف على المساكين يجوز بيعه إذا كانت إلى ذلك ضرورة كالمجاعة وخيف عليهم الهلاك والموت، حيث لا سبيل إلى درء ذلك عنهم إلا بتفويت عينه وصرف ثمنه فيما هو سبب للبقاء أحياء، وهذا ما أفتى به القاضي أبو الحسن علي بن محسود وقد وردت فتواه في المعيار ونصها: “وسئل القاضي أبو الحسن سيدي علي بن محسود رحمه الله عن أرض المساكين المحبسة عليهم هل يجوز بيعها في مثل هذه السنة لعيشهم لما نزل من الخصاصة والحاجة بالمساكين أم لا؟

فأجاب بيع أرض المساكين في مثل هذه السنة لعيشهم وحياة أنفسهم أفضل عند الله من بقاء الأرض بعد هلاكهم، وقد أمرت ببيع كثير منها في مثل هذه السنة”[46].

إلا أن هذه الفتوى لم تؤخذ مأخذ التسليم من بعض العلماء، حيث نجد منهم من استشكلها وأورد عليها الاعتراضات كالشيخ عبد الرحمن بن محمد الفاسي والفقيه الصديني[47]، لأن الأصل في الحبس عدم جواز البيع بحال[48]، كما نص أبو زيد الفاسي في عملياته على عدم جريان العمل بهذه الفتوى فقال:

  بيع المحبس على المسكيـن لم يقع مع الحاجة عند من حكم

أما العلامة الوزاني فقد أيد الفتوى المذكورة، وقرر أن لا موجب فيها للإشكال، وأن الاعتراضات الموردة عليها غير متجهة وذلك من وجوه:

– الوجه الأول: أن محل جواز البيع في فتوى ابن محسود هو الضرورة الفادحة، وليس مطلق الحاجة مع انتفاء الضرورة، وعلى هذا المحل الأخير يتنزل القول بالمنع بخلاف الصورة الأولى.

– الوجه الثاني: أن الفتوى المذكورة لها مستند نقلي صريح في المذهب، حيث نقل ابن رحال جواز البيع عن اللخمي وعبد الحميد، وهذا ما أشار إليه التسولي بقوله: “تأمل ما قاله الفقيه الصديني وأبو زيد الفاسي مع نقل ابن رحال جواز البيع عن اللخمي وعبد الحميد ونصه: ومن حبس عليه شيء وخيف عليه الموت لمثل مجاعة، فإن الحبس يباع وينفق على المحبس عليه قاله اللخمي وعبد الحميد. وعلل اللخمي ذلك بأن المحبس لو حضر لكان إحياء النفس عنده أولى هـ. باختصار. ثم قال: ولعل فتوى البرقي حيث لا يغلب على الظن الهلاك إن لم يبع هـ. كلام ابن رحال باختصار. وفي المعيار عن العبدوسي أنه يجوز أن يفعل في الحبس ما فيه مصلحة مما يغلب على الظن حتى كاد يقطع به أنه لو كان المحبس حيا لفعله واستحسنه هـ”[49].

– الوجه الثالث: أن هذه الفتوى جارية على قاعدة مراعاة قصد المحبس دون لفظه التي جرى العمل بمقتضاها، وتم إعمالها في كثير من نظائر المسألة موضوع الفتوى، بل إن نازلة ابن محسود فرد من أفرادها وجزئي من جزئياتها التي تنطبق عليها تمام الانطباق، فلا موجب فيها للاستشكال ولا وجهة فيها للاعتراض.[50]

– الوجه الرابع: أن هذه الفتوى مبنية على أصل مقصدي مقطوع باعتباره في المذهب، وهو رعي المصالح عموما، كما أن فيها إعمالا لقاعدة مقصدية خاصة وهي درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. وحاصل النظر في مسألة النازلة أن مصلحة الإبقاء على الحبس وضمان استمراره تعارضها مفسدة هلاك المحبس عليهم وذهاب حياتهم، ولا شيء أدرأ لهذه المفسدة العظمى من القول بجواز البيع وصرف الثمن في ما يستنقذ حياة المحبس عليهم، بل إن في هذا الدرء تحصيلا لمصلحة أعظم وآكد في الاعتبار وهي حفظ النفس، وهي ولا شك مقصودة للمحبس بحبسه بالأصالة، يقول الوزاني مبينا هذا الوجه: “وبيان ذلك أن قصد المحبس هو حصول الثواب على الدوام من هذا الحبس، والثواب الذي يحصل له بشبع المساكين أكثر من الثواب الذي يحصل له إذا ماتوا وانتفع غيرهم بهذا الحبس، لأن ثواب الواجب أعظم من غيره بكثير، كما في الصحيح: ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه. وحاصله أن استمرار النفع بالحبس غايته أن يكون كالصدقة، وهي مستحبة فقط، وإحياء نفوس المساكين واجب، فكيف يعدل عن الواجب إلى المستحب وهو قول ابن محسود، وحياة أنفسهم أعظم عند الله من بقاء الأرض بعد هلاكهم، إذ معناه أن إحياء نفوس هؤلاء المساكين في المسغبة هو أنفع للمحبس وأعظم أجرا له من بقاء النفع بالحبس، بل لو كان المحبس حيا لوجب عليه مواساتهم بماله وإنقاذهم من الهلاك”[51].

ويزيد هذا التقرير إيضاحا وتأكيدا قول الشيخ سيدي عبد القادر الفاسي:

“وفيما علقه شيخنا العارف أبو زيد عبد الرحمن بن محمد الفاسي على مختصر خليل من باب الحبس مانصه: ولا أعرف مستندا لتلك الفتوى، ولعلها اجتهاد في تلك النازلة فلا تتعداها لمماثلها كما يأتي في القضاء، والله أعلم.

نعم مستندها في الجملة اعتبار المصالح المرسلة وهو أصل مذهب مالك، بل المصلحة في ذلك ضرورية فهي أولى بالاعتبار من المرسلة كما تقرر في الأصول، فتنبه لذلك، ولو لم يسلم ذلك فيها لكون الضرورة غير كلية، فلا أقل من كونها مرسلة، وهي جارية على قاعدة ارتكاب أخف الضررين”[52].

والحاصل من هذا البيان والتفصيل أن قاعدة مراعاة القصد في الأحباس دون اللفظ التي جرى بها العمل، هي ذات تجليات وتطبيقات مختلفة، الأمر الذي يصح القول معه أن العمل المذكور ذو طابع منهجي إجرائي، إذ يقوم مقام القاعدة الكلية التي يندرج فيها كثير من الصور والجزئيات التي تحقق مناطها وتنضبط بمقتضاها، مثلما يقوم مقام الوسيلة التي تفيد المجتهد في هذا التحقيق وذلك الضبط، كما هو واضح ولائح من النماذج التي سقت على سبيل الإيضاح والتمثيل وحسب.

(أصل هذه الدراسة مقال منشور بمجلة الغنية العدد الرابع)

الهوامش:


[1] – أصول الفتوى والقضاء في المذهب المالكي للدكتور محمد رياض ص513. الطبعة الثالثة 2002 مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء.

[2] – فتح الجليل الصمد في شرح التكميل والمعتمد، لأبي القاسم الفلالي السجلماسي ص 6، الطبعة الأولى 1290 هـ، مطبعة الدولة التونسية المحروسة.

[3] – نور البصر شرح خطبة المختصر للشيخ أبي العباس أحمد الهلالي السجلماسي ص132، طبعة حجرية دون تاريخ.

[4] – مواهب الخلاق على شرح التاودي للامية الزقاق لأبي الشتاء بن الحسن الغازي الشهير بالصنهاجي 1/284، الطبعة الثانية 1955

[5] – تفسير هذه القاعدة أن تغير الأسباب يؤدي إلى تغير نوعي في فهم الأحكام، والفهم هنا ذو بعد تنزيلي أي يختص بتحقيق مناطات الأحكام.

[6] – نور البصر ص 132.

[7] – نفسه ص 139.

[8] – سنن المهتدين في مقامات الدين ص95.

[9] – تقييد في شهادة اللفيف، مخطوط نقلا عن العرف والعمل لعمر الجيدي ص364.

[10] – تحفة الحذاق بشرح لامية الزقاق، لأبي حفص سيدي عمر الفاسي ص114، طبعة حجرية 1306 هـ.

[11] – الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي 4/467.

[12] – الدر النثير على أجوبة أبي الحسن الصغير، لإبراهيم بن هلال ص2 م19، طبعة حجرية 1303 هـ، وانظر كذلك نور البصر للهلالي ص 137.

[13] – الفكر السامي 4/464-465.

[14] – انظر العرف والعمل ص 345.

[15] – نظرية الأخذ بما جرى به العمل في المغرب في إطار المذهب المالكي لعبد السلام العسري ص125.

[16] – الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي 4/465.

[17] – نفسه 4/465.

[18] – نظرية الأخذ بما جرى به العمل في المغرب في إطار المذهب المالكي ص110.

[19] – النوازل الجديدة الكبرى فيما لأهل فاس وغيرهم من البدو والقرى، المسماة المعيار الجديد الجامع المعرب عن فتاوى المتأخرين من علماء المغرب 2/5، قابله وصححه الأستاذ عمر بن عباد، طبع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1419 هـ / 1998م، مطبعة فضالة المحمدية.

[20] – أصول الفتوى والقضاء في المذهب المالكي ص498.

[21] – العرف والعمل في المذهب المالكي لعمر الجيدي ص346.

[22] – ومعلوم أن وفاة الزقاق كانت سنة 912 هـ أي في بداية القرن العاشر الهجري.

[23] – تحفة أكياس الناس، ص 381، والنوازل الصغرى 4/161.

[24] – شرح العمل الفاسي 2/2.

[25] – نفسه 2/3.

[26] – تحرير الكلام في مسائل الالتزام، ص 80.

[27] – تحفة أكياس الناس، ص 382.

[28] – تحفة أكياس الناس ص385. وقد نظم الشيخ ميارة قاعدة العمل بالقصد دون اللفظ في الأحباس فقال:

كذلك الحبس قالـوا إن شرط تخرج الكتب فخلـف قـد فرط
لا يجري بها كذاك أن لا يدفعا إلا كتاب بعد آخر اسمعـا
للقصد جاز فعل ما لو حضرا موقفه رآه أيضـا نظـرا
وهذه قـاعدة اللفـظ إذا عارضه القصـد فقيـل ذا وذا

انظر تحفة أكياس الناس للوزاني ص384.

[29] – المعيار 7/340، وقد نبه المحقق السجلماسي إلى أن ما جاء في هذا النص من قوله: “وظاهر ما في هذا السؤال هو من كلام البرزلي وليس من كلام القابسي معتمدا في ذلك على ما نقله الحطاب، ومما جاء في هذا التنبيه قوله: “ونقله في المعيار بعد نحو سبعة كراريس من الأحباس غير أنه وصل ما زاده من كلام البرزلي بآخر جواب القابسي، فقال بعد قوله خشية الوقوع في ضياع أكثر من واحد متصلا به ما نصه، وظاهر كلام أبي عمران أنه لا يتعدى ما شرطه لقوله عليه السلام المسلمون عند شروطهم إلى آخر ما سبق فأوهم كلامه ونقله هذا أن التذييل من تتمة الجواب”. شرح العمل الفاسي، 2/2-3.

[30] – انظر شرح العمل الفاسي للسجلماسي 2/4.

[31] – سورة الزمر، الآية 15.

[32] – شرح العمل الفاسي للسجلماسي، 2/4-5.

[33] – انظر النوازل الكبرى للوزاني 8/466.

[34] – انظر المعيار 7/290-291، والنوازل الكبرى 8/331.

[35] – تحفة أكياس الناس، ص 383.

[36] – نوازل العلمي 2/337.

[37] – انظر جواب ابن لب في المعيار 7/91، وكذلك 7/112، و7/478.

[38] – نوازل العلمي 2/344-345.

[39] – النوازل الكبرى 8/401.

[40] – نفسه 8/402.

[41] – نفسه 8/402.

[42] – نفسه 8/403.

[43] – النوازل الكبرى 8/403.

[44] – المعيار 7/331-332 وانظر النوازل الصغرى للوزاني 4/156 ونوازل العلمي 2/345.

[45] – شرح العمل الفاسي 1/221.

[46] – المعيار 7/332، ونوازل العلمي 2/346، والنوازل الكبرى للوزاني 8/502.

[47] – انظر النوازل الكبرى للوزاني 8/504، وشرح العمل الفاسي للسجلماسي 2/53.

[48] – انظر نوازل العلمي 2/334.

[49] – البهجة 2/447-448.

[50] – انظر تحفة أكياس الناس، ص420-421.

[51] – تحفة أكياس الناس ص 422-423.

[52] – انظر النوازل الكبرى للوزاني 8/505، وتحفة أكياس الناس، ص 424.

الصفحة السابقة 1 2 3

د. إدريس غازي

• خريج دار الحديث الحسنية ـ الرباط.
• دكتوراه في الدراسات الإسلامية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله ـ فاس، في موضوع: "أصل ما جرى به العمل ونماذجه من فقه الأموال عند علماء المغرب".
• دبلوم الدراسات العليا من دار الحديث الحسنية، الرباط، في موضوع: "المنهجية الأصولية والاستدلال الحجاجي في المذهب المالكي".
من أعماله:
ـ الشاطبي بين الوعي بضيق البرهان واستشراف آفاق الحجاج.
ـ في الحاجة إلى تجديد المعرفة الأصولية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق