مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات محكمة

تقريب العمل الفاسي عند علماء المغرب: قاعدة: “العبرة في الأحباس بالقصد لا باللفظ” نموذجا

1 – ما جرى به العمل معالمه المفهومية وأطواره التاريخية.

أ- مفهوم ما جرى به العمل.

المقصود بما جرى به العمل عند العلماء هو “الأخذ بقول ضعيف أو شاذ في مقابل الراجح أو المشهور، لمصلحة أو ضرورة أو عرف أو غير ذلك من الأسس”[1]، ثم اتفاق الحكام والمفتين على العمل بمقتضى هذا الأخذ والاختيار كلما توافرت دواعيه وأسبابه. قال العلامة أبو عبد الله السجلماسي: “والمراد بالعمل بالقول حكم الأئمة به واستمرار حكمهم”[2].وبعبارة جامعة يمكن القول إن ما جرى به العمل هو القول الفقهي المبني على اختيار قول مرجوح –لضعفه أو شذوذه– حكما أو إفتاء، في مقابل الراجح أو المشهور لموجب من الموجبات المعتبرة، مع تأيد هذا الاختيار بعمل الحكام والمفتين بمقتضاه إذا تحققت الموجبات المذكورة، وهي تتلخص إجمالا في جلب المصالح ودرء المفاسد ورعي الأعراف، وغير ذلك من المقتضيات التي عهد من الشارع ملاحظتها في شرع الأحكام، مثلما عهد من الأئمة المجتهدين –ومنهم إمام المذهب– اصطحاب هديها عند استنباط أو تنزيل هذه الأحكام على أفعال المكلفين.

يستخلص مما ذكر أن  ما جرى به العمل هو كل قول ضعيف أو شاذ حكم به أحد القضاة أو أفتى به أحد المفتين ممن ثبتت عدالته واستجمع آلات الفقه، لاعتبارات تجعل القول الذي أجري العمل به أكثر مناسبة لظروف المتقاضين وأحوال المستفتين، وذلك رعيا لمقاصد الشارع، وتنزلا عند أعراف المكلفين وعوائدهم، ثم يقتدي الفقهاء بذلك عندما تتوافر نفس الأسباب والموجبات.

ويلاحظ أن الفقهاء وخاصة المتأخرين منهم حينما أقروا اطراد العمل بالقول سببا موجبا لرجحانه ومحو آثار المرجوحية عنه، كانوا موجهين بجملة من الاعتبارات أهمها:

– إحياء داعية التفقه والاجتهاد، ومواكبة النوازل والمستجدات بنظر مجدد لا يكتفى فيه بالمسطور من الأقوال ولو كانت مشهورة، ولا سيما إذا كان الجري معها لا يتناسب مع خصوص النازلة المعروضة، أو لا يحقق ما وضع له الشرع من قواعد مصلحية معلومة، بل قد تكون الأقوال المهجورة هي الأنسب للنازلة والأدعى لتحقيق مقاصد الشرع.

– أن الرجحان سواء كان بسبب الكثرة العددية أو قوة الدليل، ومقابله سواء كان بسبب الشذوذ أو الضعف، أمران نسبيان، ولا تعني النسبية هنا التسيب وفقدان الانضباط، وإنما المراد أن التشهير وغيره مبناه على معايير تفرضها خصوصية النوازل الطارئة وما يلابسها من عوارض وأحوال، وعليه تكون الأقوال المرجوحة بمقتضى هذا النظر التحقيقي في محل اختبار واعتبار، فإذا اقترن ذلك بالاطراد والاستمرارية في العمل كانت هذه الأقوال أرجح وأقوى على مقابلها، وكان العمل موجبا لمحو آثار الشذوذ والضعف عنها. ولهذا الملحظ نجد أبا العباس الهلالي يقرر أن القول الضعيف والشاذ إذا ارتبط به جريان العمل أصبح من أفراد الراجح. جاء في نور البصر ما نصه: “فإذا رجح بعض المتأخرين المتأهلين للترجيح قولا مقابلا للمشهور بموجب رجحانه عندهم، وأجروا به العمل في الحكم، تعين اتباعه فيقدم مقابل المشهور لرجحانه على المشهور بموجبه لا بمجرد الهوى”[3].

– أن في تحكيم قاعدة العمل حسما لمادة الخلاف وتضارب الأقوال وتشعب الآراء، وخاصة إذا تأيد جريان العمل بإلزام القضاء. قال أبو الشتاء الصنهاجي: “القول إذا جرى به العمل يرفع الخلاف في النازلة”[4].

وقال صاحب العمل الفاسي في منظومته:

   وبعد فالقصد بذا النظام     بعض مسائل من الأحكام
   جرى بها ليرفع الخلاف    عمل فاس يتبع الأعراف

وبانحسام مادة الخلاف تزداد قواعد المذهب استقرارا، ويزداد أمر الفتوى انضباطا واستقامة، وبهذا الاستقرار وبذاك الانضباط تستقيم أحوال المكلفين، ويتحقق مزيد الاستئناس بتوجيهات الشرع الحكيم والاهتداء بهديه.

– أن في الأخذ بقاعدة العمل التجسيد الكامل والتشخيص الفعلي للمبدأ الفقهي المشهور: تغير الأسباب مؤذن بتغير الأحكام المتنزلة على مقتضاها[5]، وذلك لأن فقه العمل مبناه على الاجتهاد في تحقيق مناط الأحكام التي تنص عليها أدلة المذهب عامة وخاصة، وبهذا النظر التحقيقي الفاحص، يتأتى للفقهاء استثمار الأقوال المهجورة، وإعمالها في خصوص النوازل المعروضة كلما كان في المضي مع مشهور الأقوال مشقة وحرج أو مناقضة لمقصود الشرع، وهذا ليس لقصور في الأقوال المشهورة أو لعجزها عن الوفاء بالحاجة المطلوبة، ولكن لأن النازلة المجتَهَد فيها قد لابسها من العوارض العرفية والحالية ما يعسر معه تطبيق المشهور عليها، وأن مقابله هو الأنسب والأولى بالتطبيق. قال ابن هلال: “غير أن المفتي المتأهل له الإفتاء بغير المشهور على وجه الاجتهاد والاستحسان، لموجبه من المصلحة بحسب الوقائع واعتبار النوازل والأشخاص”[6]. وقال أبو العباس الهلالي: “إن تغير الأحكام عند تغير الأسباب ليس خروجا عن المشهور، بل فيه جري على قاعدة المذهب في المحافظة على مصالح العباد وحفظ أموالهم، ولا سيما على القول بأن المشهور ما قوي دليله، وأمثال هذه الاعتبارات فيما جرى به العمل كثيرة”[7].

وبناء على هذه الأمور الثلاثة كانت لأصل ما جرى به العمل منزلة عظمى وقدر كبير في نفوس العلماء، بل إن منهم من استصعب أمر الفتوى فيما إذا كان العمل مخالفا لمقتضى النصوص، كما هو الشأن بالنسبة للشيخ ابن سراج إذ نقل عنه تلميذه المواق قوله: “ما زلت تصعب علي الفتيا فيما يكون النص بحكم، والعمل جار بخلافه”[8]. ومنشأ الصعوبة هنا آت من خطورة العمل وتورع الشيخ عن مخالفته، وهذا ما أفاد به العلامة سيدي العربي الفاسي معلقا على قول ابن سراج: “وما صعب على الشيخ ابن سراج الفتوى فيما ذكر إلا مراعاة للعمل. وكونه له جانب لا يهمل”[9].

قال الزقاق في لاميته:

    وفي البلـدة الغراء فـاس وربنـا    يقي أهلـها من كل داء تفضلا
    جرى عمل باللائي تأتي كما جرى    بأنـدلس بالبعض منها فأصـلا
    لما قد فشـا من قبح حـال وحيلة    فيخسى الذي للغي يبغي توصلا

قال سيدي عمر الفاسي شارحا هذه الأبيات: “قوله باللاتي تأتي أي: الأحكام التي تذكر بعد، وقوله فأصلا أي فصار العمل بها أصلا من الأصول وقاعدة من قواعد المذهب، وقوله فيخسى من خسى إذا ذل وصغر، والغي ضد الرشد، وفي قوله أصلا إشارة إلى وجوب اتباع ما به العمل وقد قال المتيطي وغيره: لا يقضي القاضي إلا بالمشهور أو بما به العمل من الموثوق بعلمهم ودينهم هـ. قال في الدر النثير: وقد كان يؤخذ في قرطبة على القضاة ألا يحكموا بخلاف ما جرى به العمل، ويشترط ذلك عليهم في عهودهم”[10].

والأمر نفسه قرره الفقيه الحجوي بقوله: “ولذا يكتب في منشور ولاية القاضي عندنا في المغرب الأقصى اقتداء بعمل الأندلس في الجملة: وعليه أن يحكم بمشهور مذهب مالك أو ما به العمل، وغير خفي أن ما به العمل مقدم على المشهور”[11].

ومما يدل على استحكام أمر العمل أن الفقيه قاضيا كان أو مفتيا إذا حكم بخلاف مقتضى العمل المعتمد في المذهب، عد ذلك موجبا لرد فتواه أو نقض حكمه، والوقائع في هذا الشأن شاهدة، إذ ورد أن الفقيه الحافظ القوري أخر عن مجلس الشورى لكونه أفتى بعدم لزوم بيع المضغوط استنادا إلى القول المشهور في المذهب، مخالفا بذلك ما جرى به العمل من لزوم هذا البيع. قال ابن هلال: “قول ابن كنانة بلزوم بيع المضغوط أفتى به بعض الشيوخ الذين أدركتهم من الفاسيين والتلمسانيين والغرناطيين في قضية نزلت بفاس، وكان شيخنا القوري خالفهم وأفتى بالمشهور ومذهب الجمهور، وأخر عن الفتيا بسبب ذلك”[12].

1 2 3الصفحة التالية

د. إدريس غازي

• خريج دار الحديث الحسنية ـ الرباط.
• دكتوراه في الدراسات الإسلامية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله ـ فاس، في موضوع: "أصل ما جرى به العمل ونماذجه من فقه الأموال عند علماء المغرب".
• دبلوم الدراسات العليا من دار الحديث الحسنية، الرباط، في موضوع: "المنهجية الأصولية والاستدلال الحجاجي في المذهب المالكي".
من أعماله:
ـ الشاطبي بين الوعي بضيق البرهان واستشراف آفاق الحجاج.
ـ في الحاجة إلى تجديد المعرفة الأصولية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق