وحدة الإحياءمفاهيم

تفكيك الأنظمة المعرفية للعقل السيميائي الغربي.. قراءة في ضوء أطروحة “عبد الوهاب المسيري”

 ينطوي هذا العنوان على جهاز مفاهيمي مركب نطمح من خلاله إلى مساءلة المرتكزات المعرفية الكبرى التي قامت عليها منظومة النقد الغربي الحداثي وما بعد الحداثي، والتي تسربت إلى عمق المدونة الثقافية العربية وفرضت نفسها كسلطة مرجعية على الأجندة الفكرية والفنية، بحيث لم يعد هناك متسع لمرجعيات أخرى سواها! وهو الأمر الذي تجسد بوضوح في خطاب أحد أعمدة الفكر النقدي العربي المعاصر، من خلال كتابه “جدلية الخفاء والتجلي”؛ حينما كان يقرر دون ريبة وتوجس بأن البنيوية “ليست فلسفة، لكن طريقة في الرؤية ومنهج في معاينة الوجود[1]” وهي “تطوير جذري للفكر وعلاقته بالعالم وموقعه منه وبإزائه[2]“، و”البنيوية ثالث حركات [الماركسية/الفن الحديث (بيكاسو)] في تاريخ الفكر الحديث يستحيل بعدها أن نرى العالم ونعاينه كما كان الفكر السابق علينا يرى العالم ويعاينه[3]“، ثم إنه “مع البنيوية ومفاهيم التزامن، والثنائيات الضدية، والإصرار على أن العلاقات بين العلامات، لا العلامات نفسها، هي التي تعني، أصبح محالا أن نعاين الوجود، الإنسان والثقافة والطبيعة، كما كان يعاينه الذين سبقوا البنيوية[4]“… ثم يصرح بهدفه المحوري من الكتاب؛ إذ يطمح “إلى تغيير الفكر العربي في معاينته للثقافة والإنسان والشعر، إلى نقله من فكر تطغى عليه الجزئية والسطحية والشخصانية إلى فكر يترعرع في مناخ الرؤية المعقدة، المتقصية، الموضوعية، والشمولية الجذرية في آن واحد[5].”

إن المستقرئ لهذه الوحدات الخطابية لدى أبي ديب سيلمس ذلك التحمس الكبير للبنية، والثقة الكلية (والعمياء أحيانا) في البنيوية كمنهج علمي بعيد كل البعد عن الفلسفة! والاستسلام المطلق لإغراءات الشمولية والعلائقية، دون أدنى تجرّؤ على المساءلة والتشكيك في مفهوم البنية في حد ذاته وفي الإكراهات التي تحيط به، أو المآزق التي تترتب عنه!

وإذا كان معظم النقاد العرب قد ساروا على هذا المنوال، وتحولوا في أحسن الأحوال إلى مترجمين وشراح أمناء على المدونة المنهجية الغربية والحرص، كل الحرص، على تحقيق قدر أعلى من الوفاء لشفرتها المعرفية والتقنية بالخصوص. فهل يمكن في ضوء هذا أن نتحدث عن تجربة بنيوية عربية؟ أو تجربة سيميائية عربية أو غيرها؟…

صحيح أننا نجد أصواتا ترتفع في مشارق العالم العربي ومغاربه، محسّسة بهشاشة الوضع الثقافي ومندّدة بالاستلاب المعرفي، وبخطورة الارتهان الكامل بالغرب، والدعوة إلى تشكيل وبناء عقل نقدي متين يستطيع مواجهة هذه المعضلات، لكن الأمر لا زال لم يتحول بعد إلى فعل مؤسساتي ينطلق من برنامج معرفي وجودي متكامل، ومؤيّد بعدّة كافية تؤهله لأن يحدث التغيير المنشود؛ كما أشار إلى ذلك “سعيد يقطين” في كتاب “آفاق نقد عربي معاصر”. وهذا الباحث السيميائي المغربي “بنكراد” يهجس بضرورة وعي المحاضن الفلسفية والفكرية التي تقوم عليها النظريات قائلا:

“إن عمليات “النقل” و”التفاعل” لا يمكن أن تتم من خلال مفاهيم معزولة أو مصطلحات تعيّن قضايا نصية فقط، كما لا يمكن أن تقف عند حدود تعيين مكونات الوقائع النصية فقط، إن هذا لن يقود إلى استنساخ أحكام لا نعرف عن أساسها أي شيء. إن التفاعل مع هذه النظريات (ويقصد النظريات السيميائية الغربية بالخصوص)، يجب أن يتم من خلال استيعاب أسسها الفلسفية في المقام الأول، فما ينتمي إلى البعد الفلسفي التجريدي هو وحده الذي يمكننا من إقامة جسور بين الثقافات المتنوعة، وهو الذي يمكننا من استيعاب الحالات العامة، أما الممارسة فتعد التطبيق المخصوص الذي يقود إلى إغناء النظرية من خلال تزويدها بعناصر محلية تمنحها تلوينا فكريا خاصا، هو المضاف الثقافي الذي تنتجه الأمة، وهو ما يشكل انتماءها إلى التراث الإنساني ومساهمتها في إغنائه[6].”

وهو الأمر نفسه الذي يؤكده الناقد السعودي “سعد البازعي”، حين يشير إلى أن “القول بتحيز المنهج أو بالخصوصية الحضارية ليس قولا بتحيز المنهج بأكمله؛ أي ليس إلغاء لإمكانات الاستفادة أو لوجود أشياء مشتركة؛ فالقول بإلغاء كل ذلك قول ساذج ومناف لحقائق الفكر والتاريخ، تحيز المنهج ببساطة انسجام مجمل آليات التفكير والاستنباط المعرفي مع الأنساق الكبرى للثقافة أو الحضارة التي تصدر عنها تلك الآليات. والاعتقاد بصحة ذلك سيعني بالدرجة الأولى إلغاء النقل السهل أو الاستعارة المجانية، وتأصيل طرائق التفكير ضمن ظروفها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية لكي يتم التلاقح الحضاري في حدود الشخصية الحضارية القائمة؛ أي ضمن الوعي بالاختلاف[7].”

وبالتالي فالرهان الكبير الذي يحتاج إليه المفكر والناقد العربي اليوم هو العمل على تنسيب Relativisation كل المنظومات الفكرية البشرية، وتخليص الذات الباحثة قدر الإمكان من دوغمائية التسليم المطلق بعلمية النظريات الغربية، وفك الارتباط الميكانيكي بالمناهج الغربية، والسعي إلى فتحها على سياقات تخلقها، والكشف عن ميثافيزيقياتها وإيديولوجياتها، ووضعها على محك المقارنة بينها وبين مناهج الأمم الأخرى، بغية كسر وهمها الإمبريالي. وهو الأمر الذي باشره بامتياز المفكر المصري الراحل “عبد الوهاب المسيري”، رحمه الله، من خلال مشروعه المعرفي الذي استهدف من ورائه كل أشكال التمركز الثقافي والحضاري، وكل أصناف التحيز الفكري والعرقي التي مارسها الغرب الإمبريالي، ليس من خلال الهيمنة العسكرية والاقتصادية فقط كشكلين استعماريين كلاسيكيين، وإنما من خلال الاسترقاق المفاهيمي والمقولاتي والاستتباع المنهاجي؛ فـ”المناهج التي يتم استخدامها في العلوم الغربية ليست محايدة تماما كما يظن كثيرون، فهي تعبر في غالب الأمر عن مجموعة من القيم الكامنة المستترة في النماذج المعرفية والوسائل والمناهج البحثية التي تحدد مجال الرؤية ومسار البحث، وتقرر كثيرا من النتائج مسبقا، وهذا هو ما اصطلح عليه بالتحيز؛ أي وجود مجموعة من القيم المستترة الكامنة في الأنساق المعرفية والوسائل المنهجية البحثية، وفي اللغة المستخدمة التي توجه الباحث دون أن يشعر بها… يجب أن ندرك أن المعرفة الإنسانية ليست مطلقة، ولذا حين تصلني معلومة ما يجب أن أدرك التحيزات الكامنة فيها، وأدرك الفرق بين التحيزات العربية والإصلاحية وبين نظيرتها الغربية[8].” ومن منطلق إيمانه بجدلية (الحضارة/الثقافة) واللغة، وقناعته بالدور الخطير الذي تلعبه اللغة/المجاز في تشكيل “رؤية العالم”، خصص كتابه (اللغة والمجاز) لنقد الحضارة الغربية من خلال تفكيك أنظمتها المعرفية ونماذجها الإدراكية التي انبثق منها العقل السيميائي باعتباره التتويج المتكامل للوعي اللغوي بالوجود أو الشبكة الإجرائية الخلاقة المنقذة للمعنى من عماء العالم وسديميته.

فما هو التفكيك المقصود هنا؟ هل هو تفكيك على الصيغة الديريدية ما بعد الحداثية؟ وما طبيعة الأنظمة المعرفية المستهدفة هنا؟ لماذا العقل السيميائي وليس النظرية السيميائية أو المنهج السيميائي؟ هل يمكن اعتبار العقل السيميائي إبدالا Paradigme جديدا عن العقول الأخرى؛ العقل الفلسفي، العقل الديني، العقل العلمي، العقل التاريخي…؟

أولا: تحديد المفاهيم

 أ. مفهوم التفكيك

يعد التفكيك إستراتيجية تقويضية معادية “للعقلانية وللكليات، سواء كانت دينية أم مادية، فهو فكر يحاول أن يهرب تماما من الميثافيزيقا ومن الحقيقة والمركزية والثبات ويحاول أن يظل غارقا في الصيرورة، فهو تعبير متبلور عن المادية الجديدة السائلة[9].” وتسعى التفكيكية إلى أن تبحث داخل النصوص “عما لم تقله بشكل صريح واضح (وهو ما يشار إليه الآن بالعربية بعبارة: “المسكوت عنه”)، وهي تعارض منطق النص الواضح المعلن ادعاءاته الظاهرة، بالمنطق الكامن في النص ذاته، كما أنها تبحث عن النقطة التي يتجاوز فيها النص القوانين والمعايير التي وضعها لنفسه، فهي عملية تعرية للنص (بالإنجليزية denude) وكشف أو هتك لكل أسراره demystify، وتقطيع لأوصاله وصولا إلى أساسه الذي يستند إليه… ويرى التفكيكيون أن بداخل كل نص يدعي لنفسه الثبات تناقضا لا يمكن حسمه، بين ظاهره الثابت المتجاوز للصيرورة، وباطنه الواقع في قبضة الصيرورة… بحيث يظهر أن اللوجوس (المدلول المتجاوز-المركزي) الذي يستند إليه أي نص أو ظاهرة… يحتوي على تناقضات أساسية لا يمكن حسمها ومن ثم تسقط عنه قداسته وثباته ومركزيته فيسقط في قبضة النسبية والصيرورة[10].”

ويحاول المسيري كشف الوجه العدمي للتفكيك بتأكيده على أن “النقد التفكيكي لا يفكك النص ويعيد تركيبه ليتبين المعنى الكامن في النص (كما هو الحال مع النقد التقليدي)، وإنما يحاول أن يكشف التوترات والتناقضات داخل النص وتعددية المعنى والانفتاح الكامل، بحيث يفقد النص حدوده الثابتة ويصبح جزءًا من الصيرورة ولعب الدوال، ومن ثم تختفي الثنائيات والأصول الثابتة والحقيقة والميثافيزيقا-فالتفكيكية هي إحدى التبديات العديدة للمادية الجديدة واللاعقلانية السائلة[11].”

وبالتالي، فإن التفكيك المقصود هنا، هو غير التفكيك الديريدي المتهم بنسف كل المرجعيات والثوابت، بل هو إجراء يستفيد من الحس النقدي الكامن في التفكيكية، واستدماجه ضمن منهج تفسيري مركب. يقول المسيري موضحا هذا: “فحينما أنظر إلى نص فإنني أقوم بتفكيكه في المرحلة الأولى، ولكنني بعد ذلك أقوم بإعادة بنائه بطريقة أكثر تفسيرية. وبذا أكون قد استخدمت آليات المنهج التفكيكي دون أن أسقط في العدمية[12].”

الصورة المجازية أداة لتفكيك العقل

تكشف التصورات المعرفية المعاصرة أن المجاز لم يعد عنصرا تزيينيا في اللغة، بل هو العمق التكويني للغة، كما أن الفكر في جوهره استعاري، ومن ثم فإن “الصورة المجازية وسيلة إدراكية لا يمكن للمرء أن يدرك واقعه دونها، أو حتى أن يعبر عن مكنون نفسه إلا من خلالها، فالصور المجازية هي جزء أساسي من عملية الإدراك، وهي بالتالي مرتبطة تمام الارتباط بالنماذج المعرفية والإدراكية ورؤية الكون، وخير وسيلة للتعبير عنها. ويوجد داخل كل نص، مكتوب أو شفهي، نموذج كامن يستند إلى ركيزة أساسية، عادة ما تترجم نفسها إلى صورة مجازية، استخدمها صاحبها (بوعي أو بغير وعي) للتعبير عن هذا النموذج[13].” وبغية التوصل “إلى النموذج الكامن لنص ما من خلال تحليل الصور المجازية، يقوم الدارس بقراءة النص عدة مرات حتى يضع يده على الصور الأساسية المتواترة، ويحاول أن يربط بينها، ويعرف دلالتها من خلال السياق الذي ترد فيه، ثم يجرد منها نموذجا معرفيا، وبالتالي تتحول أجزاء النص التي قد تبدو مبعثرة إلى كل متماسك[14].”

كما يمكن استخدام الصورة المجازية أداة فعالة لتفكيك منطق التحيزات التي يستضمرها نظام الإدراك أو التمثل، “فالمجاز يقوم بترتيب تفاصيل الواقع بنقل رؤية معينة. وإذا ما درسنا الخطاب السياسي الغربي، مثلا، وجدنا أنه يستخدم صورا مجازية كثيرة تعبر عن الرؤية الغربية للعالم، لكنها تبدو كما لو كانت محايدة… ولنضرب مثلا أكثر إثارة وهو اصطلاح “رجل أوروبا المريض” الذي كان يتواتر في الخطاب السياسي الغربي في أواخر القرن التاسع عشر… والإشارة هنا إلى صورة رجل يحتضر، [يعاني] سكرات الموت، هو الدولة العثمانية. والصورة المجازية المستخدمة تجعلنا ننظر بكثير من الاشمئزاز على أسوأ تقدير، وبكثير من الشفقة على أحسنه، وننسى تماما أن الدولة العثمانية كانت تحمي شعوبها، رغم ضعفها واستبدادها، من الهجمة الاستعمارية الغربية التي عصفت بالعالم بأسره، وننسى أن رجل أوروبا لم يكن من أوروبا، وإنما كان يقف على رأس الشرق الإسلامي زعيما وقائدا له.

ومن الواضح أن صورة رجل أوروبا المريض تعكس منظورا غربيا للقضية، ينظر إلى الدولة العثمانية باعتبارها ميراثا سيقسم ويوزع بين القوى الغربية، وهي رؤية لا علاقة لها من قريب أو بعيد برؤية شعوب هذه المنطقة. والصورة تفترض أن هذا الرجل المريض يوجد على حدود أوروبا، ولكنه ليس منها، وبالتالي تحدد لنا مجال الرؤية التاريخية المسموح لعيوننا بالتحرك فيه، الأمر الذي ينسينا صورة مجازية أخرى، صورة “رجل أوروبا النّهم المفترس”؛ أي الامبريالية الغربية التي كانت تبيد سكان إفريقيا بعد أن كانت قد أبادت أعدادا كبيرة من سكان الأمريكتين الأصليين[15].”

ب. مفهوم النظام المعرفي

يعد “محمد عابد الجابري” من أوائل المفكرين العرب الذين ناقشوا مفهوم النظام المعرفي Epistimé واستعملوه إجرائيا في كتاباتهم، وهو في هذا لاشك، قد استفاد من الأطروحات الابستمولوجية المعاصرة؛ كأطروحة البراديغم paradigme لدى “توماس كوهن”، وأطروحات التاريخ النقدي للأفكار؛ كأطروحة الإبيستيمي épistimé لـ”ميشال فوكو”، وغيرهما… وقد التمس مفهوما للنظام المعرفي ينظر إليه على أساس أنه “جملة من المفاهيم والمبادئ والإجراءات تعطي للمعرفة في فترة تاريخية ما بنيتها اللاشعورية[16]“، ثم يقوم باختصاره في العبارة الآتية: “النظام المعرفي في ثقافة ما هو بنيتها اللاشعورية[17].” ومن هذا المنطلق تتحدد طبيعة العلاقة بين الثقافة والعقل المنتمي إليها؛ فهي “علاقة لا شعورية، انطلاقا من أن ما يتم نسيانه لا ينعدم، بل يبقى حيا في اللاشعور، كما يؤكد ذلك فرويد… [و] العقل كجهاز معرفي (فاعل وسائد) يتشكل وينتج في آن واحد، وبكيفية لاشعورية[18].”

وبالتالي، وفق مجال ابستمولوجيا الثقافة الذي نتحرك فيه، إذا أردنا أن نتحدث عن النظام المعرفي الغربي، فإننا نقصد “جملة المفاهيم والتصورات والأنشطة الذهنية التي تحدد نظرة الإنسان [الغربي]؛ أي الفرد البشري المنتمي للثقافة [الغربية]، إلى الكون والإنسان والمجتمع والتاريخ…إلخ. [و] عندما نتحدث عن بنية العقل [الغربي]، فإننا نقصد أساسا هذه المفاهيم والأنشطة الفكرية التي تزود بها الثقافة [الغربية] المنتمين إليها، والتي تشكل لديهم اللاشعور المعرفي الذي يوجه، بكيفية لا شعورية، رؤاهم الفكرية والأخلاقية ونظرتهم إلى أنفسهم وغيرهم[19].”

وإذا عدنا إلى “المسيري”، فإننا نجده هو أيضا يستفيد كثيرا من الابستيمولوجيات المعاصرة وتاريخ العلوم والأفكار والذهنيات، إلا أنه قام بتأطير كل هذه التصورات ضمن طرح متكامل (نسبيا) ومتميز يتفاعل مع طبيعة الثقافة الإنسانية ككل، ومع الثقافة العربية الإسلامية بالخصوص، فينطلق الرجل من فرضية محورية تحكم مفاصل مشروعه فحواها: “أن ثمة نموذجا معرفيا كامنا وراء كل قول أو ظاهرة إنسانية؛ هذا النموذج هو مصدر الوحدة وراء التنوع، وهو الذي يربط بين كل التفاصيل، فتكتسب معنى ودلالة وتصبح جزءا من كل، وليس مجرد معلومة جديدة أو طرفة فريدة. والنموذج هو تجلّ متعين لرؤية الإنسان للكون، التي تدور حول محاور ثلاثة: الإله، الإنسان، الطبيعة، وهي محاور مترابطة تمام الارتباط، فهي مجرد ثلاثة أوجه لنفس الظاهرة. وإدراكنا هذا الترابط هو ما يجعلنا نرى أن الانتقال من اللغوي (الصور المجازية-علاقة الدال بالمدلول) إلى الديني (رؤية الإله) إلى النفسي (مضمون الإدراك)، أمر متسق والمنهج الذي اتبعناه، أي التحليل من خلال النماذج المعرفية[20].”

وهذا النموذج المعرفي الكلي يمكن أن ينبثق منه عدد معتبر من النماذج المعرفية حسب طبيعة العلاقات التي تتشكل بين مكونات النموذج: الإله، الإنسان، الطبيعة. فهناك نماذج تحذف من دائرتها الإله، أو تذيب الإله في الإنسان أو العكس، وهناك نماذج تصهر الإله والإنسان في الطبيعة، وهكذا…

ج. مفهوم العقل السيميائي

إذا نظرنا نظرة غُفلا لطبيعة العقل السيميائي ونشوئيته، فلا يمكن أن نعتبره عقلا جديدا كل الجدة؛ لأن السيميائية صفة متأصلة في العقل البشري؛ فالإنسان بالضرورة، يدرك الوجود من خلال أنظمة العلامات، ويفكر من خلال حدث العلامات. ولا شك أن كل الحضارات والثقافات الإنسانية تركت لنا موروثات[21] معتبرة تجسد هذه النزعة السيميائية عند الإنسان.

لكن ما نقصده هنا هو شيء آخر، فالعقل السيميائي هو إبدال paradigme معرفي جديد وخاص بالمعرفة الغربية بالدرجة الأولى التي خضعت لتحولات كثيرة وجذرية في بعض الأحيان، محكومة بفعل القطيعة الابستيمولوجية.

ولقد توجه الفكر الغربي بشكل عام نحو اللغة، وأصبحت هي التيمة المحورية لكل الحقول المعرفية في العلوم الإنسانية والاجتماعية: “ومن الناحية التاريخية، فإن المنعطف اللغوي بدأ مع فريدريك نيتشه، وتدعم بالنظريات المنطقية في الفلسفة التحليلية، وتقوى بالتيار الظواهري والفلسفة التأويلية، وتعمق باللسانيات وخصوصا اللسانيات البنيوية[22].”

ومن ثمة، فإن الحديث عن العقل السيميائي لابد أن يكون في سياق التحول البراديغمي للمعرفة الغربية بشكل عام؛ من العقل الأسطوري إلى الملحمي، إلى الدرامي، إلى الفلسفي، إلى الديني، إلى العلمي، إلى التاريخي، ثم أخيرا إلى السيميائي.

ومن أهم المصادر التأسيسية لهذا العقل مايلي:

1. الفلسفة التداولية التي بلورها الفيلسوف الأمريكي شارل سندرس بيرس Ch.S.pierce، حين وضع في بداية القرن العشرين الأرضية الابستيمولوجية (المنهجية والمفاهيمية) لعلم عام يدرس جميع أنواع العلامات.

2. اللسانيات البنيوية التي شيدها عالم اللغة السويسري فردينان دوسوسير saussure F.de، حين وضع، في نفس الفترة تقريبا، نظرية مستحدثة لدراسة العلاقات اللغوية، متصورا إمكانية تأسيس علم عام يدرس جميع أنواع العلاقات (اللغوية وغير اللغوية)، وتمثل اللسانيات أحد فروعه المعرفية.

3. فلسفة الأشكال الرمزية التي بلورها الفيلسوف الألماني إرنست كاسيرر E.Cassirer الذي وضع، قبيل أواسط القرن العشرين، تصورات عميقة وغنية حول الأنساق الرمزية التي يستعملها الإنسان ويعيش داخلها، والتي تحدده بصفته حيوانا رامزا Animal Symbolicum.

4. أبحاث فلسفة اللغة والمنطق، التي سادت في التقاليد الأكاديمية الأمريكية في منتصف القرن العشرين، والتي كانت قد تبلورت انطلاقا من تصورات “المنطق الرمزي” لمدرسة فيينا، مع فريج G.frege، وكارناب R.carnap، وروسل B.Russel، وفيتغينشتاين L. viettegenstein وغيرهم. فقد تمخضت هذه التقاليد عن نظريات لسانية تداولية pragmatiques، سرعان ما تقاطعت مع مفاهيم بيرس، وتوسعت مع شارل موريس Ch.morris، لتفضي إلى مبحث تداولي للعلاقات عام وشامل[23].”

وبهذا يظهر أن العقل السيميائي عقل “شمولي يقوم على التقاطع المعرفي interdisciplinarité دون أن يفقد وحدته لأنه يرتكز في نفس الوقت، وبشكل مباشر أو غير مباشر، على علم قائم هو اللسانيات[24].” وعلى هذا الأساس نعتبره باراديغما منهجيا عاما؛ أي بنية معرفية جديدة تحل محل البنيات المعرفية الكبرى التي عرفها الفكر الإنساني، أو بالأحرى تستوعب تلك البنيات وتوظفها توظيفا جديدا. إنه بديل عن الفلسفة الوضعية التي طالما أطرت العلوم الحديثة بمنطق “السبب والنتيجة”؛ إذ بدل البحث عن مفتاح الوجود وسره، يعمل العقل السيميائي على رسم خارطة هذا الوجود، وبدل اعتماد مبدأ الزمنية temporalité يعتمد مبدأ الفضائية spatialité، وعوض مفهوم “التقدم” نجد مفهومي “العلاقة” و”النسق” système وغيرها من التمايزات[25]. وبذلك فالعقل السيميائي يرتبط أكثر بفلسفات الاختلاف بدل فلسفات الوحدة، وينتمي إلى سياق ما بعد الحداثة post-modernité أكثر من سياق الحداثة modernité[26]، وهو الأمر الذي تكشفه أطروحات “رولان بارت”، “جوليا كريستيفا”، “جاك ديريدا”، “غريماس”، “جيرار جنيت”،… وغيرهم.

ثانيا: التحليل

أ. لحظة التفكيك.. أو معضلة اللوغوس!

يرى المسيري أن بؤر التوتر المعرفية في العقل السيميائي الغربي ونسقه المفاهيمي تعود كلها إلى لحظة انبثاق “اللوغوس logos” “وهي كلمة تعني في الأصل “قول” أو “كلام” أو “فكر” أو “عقل” أو “معنى” أو “دراسة”. ولكن معنى الكلمة تطور، فاستخدمها بعض الفلاسفة اليونانيين (مثل هرقليطس) بمعنى المبدأ الذي يسير به الكون. وهو الذي يفسر الثبات وراء التغير والنظام. وراء الفوضى. فالأشياء رغم تنوعها، تحدث حسب اللوجوس[27].”

ويحاول المسيري التوغل أكثر في طبيعة اللوغوس وكيفيات استخدامه في الفكر الغربي القديم وامتدادته في الوعي الحديث، فهناك لوغوس أورثوس  logos orthos الذي يعني “العقل السليم” أو “الحجة السليمة” (وكلمة  “أورثو” هي تلك الموجودة في كلمة “وأرثوذكس”؛ أي “العقيدة السليمة”). وقد استخدم السوفسطائيون اصطلاح “لوغوس أورثوس” للإشارة إلى المبادئ والقواعد المنطقية التي ينبغي اتباعها للوصول إلى الاستنتاجات السليمة، والتي يمكن استخدامها لتقديم وجهة نظر ما بطريقة سليمة.

ومن هنا فإنه يحيلنا إلى قواعد خارجية عن العالم تمتثل لها أفعال الإنسان[28].

كما نجد أيضا في مجال الفلسفة الرواقية استخدام عبارة “لوجوس سبرماثيكوس logos spermaticus” التي تعني “الكلمة التي تعطي الحياة”؛ والمقصود من وراء هذا أن الكلمة بمنزلة البذرة أو المني أو سائل الحياة الذي ينثر في العالم بأسره فيسبب الولادة والنمو والتغيير في كل الأشياء (وهنا تظهر واحدة من أهم مفردات الحلولية)[29].

وعلى غرار هذا، يظهر أن هناك مفهومين أساسيين للوغوس؛ “اللوغوس كعقل محض مجرد من الحياة يسيّر العالم من خارجه، واللوغوس كقوة حيوية لا عقل لها تسيّر العالم من داخله[30].”

وفي نظر المسيري أن المفهوم الأول يقترب من النموذج الآلي، ويقترب الثاني من النموذج العضوي. الأمر الذي يستدعي القول إن الحضارة الغربية تتأرجح بين هذين النموذجين الإدراكيين، أو الصورتين المجازيتين، وإن كان هذا التأرجح قد محي تماما لصالح الصورة المجازية العضوية[31].

فالصورتان تحلان مشكلة النسق ووحدته ومصدر تماسكه، ومصدر حركته واتجاهه، ولكن كلاهما يؤدي إلى الانغلاق والواحدية، والإنسان داخل النسقين إنسان طبيعي/مادي، جزء من كل طبيعي/مادي، وهو كل يدور بشكل آلي في المنظومات المادية، وينمو بشكل عضوي في المنظومات العضوية، وتعد ما بعد الحداثة هي آخر محاولة للانفلات من الرؤية العضوية/الآلية المنغلقة، ولذا فهي تعلن سقوط المركز واختفاء الذات والموضوع والاتجاه والمرجعية، ولكن ما نجم عن تفكيك اللوغوس وتبعاته الكلية ليس انفتاحا وتحررا للإنسان، وإنما تفتت في الكون، وغياب لأية مرجعية وضمن ذلك المرجعية الإنسانية؛ أي أنها خروج من الثنائية الصلبة، وسقوط في السيولة الشاملة[32].

ب. طبيعة الأنظمة المعرفية السيميائية الغربية

إذا كان العقل السيميائي يعتمد على وحدة أساسية في مفصلة الوجود السيميائي (المرئي أو المكتوب)، هي العلامة le signe، وهذه الأخيرة تنقسم بدورها إلى وجهين هما: الدال signifiant والمدلول signifié، فإن المسيري يرى أن العلاقة بين الوجهين، من خلال استقراء تاريخ المعرفة السيميائية الغربية لم تخرج عن شكلين أساسيين:

1.    الانفصال الكامل: في هذه الحالة تصبح اللغة نظاما دلاليا مستقلا تماما عن الواقع، أو على علاقة به واهية للغاية. وهذا يعني أن العقل لا يتفاعل مع الواقع ولا يمكنه أن يتعامل معه، فالواقع لا يمكن الوصول إليه، ولذا فعلى العقل أن يذعن للعب الدوال، أو لا يكترث بالواقع[33].

وهذا ما بدأ بالفعل مع مقولة “الاعتباطية L’arbitrairité” السوسيرية، “فالعلاقة بين الدال والمدلول علاقة اعتباطية… فالصورة الذهنية “أخت” لا تربطها أية علاقة داخلية بمتتالية الأصوات (أ، خ، ت) التي تقوم لها دالا ومن الممكن أنه تمثله أية مجموعة صوتية أخري، ويؤكد ذلك، أيضا، ما يوجد بين اللغات من فوارق تسمية الأشياء، بل واختلاف اللغات نفسه. فالمدلول “بقرة” داله (ب، ق، ر، ة) في العربية و(bœuf، بوف) في الفرنسية و(ochs، أوكس) في الألمانية[34].” ولكن يجب أن لا يتبادر إلى أذهاننا أن المقصود بالاعتباطية هو حرية المتكلم التامة في التصرف مثلما يشاء في أنظمة العلامات، إنما “تعني الاعتباطية أن الدال أمر غير مبرر بالنسبة للمدلول، وليس له أي رابط طبيعي موجود في الواقع[35].” ومقولة الاعتباطية عند “سوسير” لا يمكن أن تفهم بمعزل عن مبدأ آخر هو “الاختلاف différence”، “فالاعتباطية والاختلاف ميزتان مترابطتان، ويظهر هذا الترابط بجلاء من خلال تغير العلامات اللسانية، فالعنصران “أ” و”ب” لا يبلغان مجالات وعينا وإدراكنا إلا في صورة متقابلة على النحو التالي أ/ب[36].”

ومبدأ الاختلاف هذا هو الذي اعتمد عليه “جاك ديريدا”، وذهب به بعيدا، حيث أضاف له مبدأ آخر اشتقه منه هو مبدأ الإخلاف أو الإرجاء من خلال التلاعب بصيغة [différ(a)nce].

1.    الالتحام الكامل: في هذه الحالة يصبح الدال مدلولا، كما هو الحال في حالة الأيقونات واللغة الجبرية والتفسيرات الحرفية واللغة المحايدة. وهذا يعني أيضا أن العقل لا يدخل في علاقة مع الواقع، فهو جزء لا يتجزأ من الواقع، عليه إما أن يذعن له أو يهيمن عليه[37].

وفي اعتقاد “المسيري” أن هذين الشكلين من العلاقة يمكن أن يدمجا في مقولة واحدة، أو يعودان إلى أصل معرفي واحد، فالالتحام الكامل والانفصال الكامل يتسمان بإزالة المسافة بين الدال والمدلول، وبالتالي تنتفي العلامة التكاملية بين العقل والواقع[38]. ويظهر الوجه السافر لهذه الدعاوى كلها، وهو إقصاء المدلول المتعالي أو المتجاوز!

ج. تفكيك الأصول المعرفية لدعوى (الانفصال/الإقصاء) 

تستضمر هذه الدعاوى الانفصالية والحلولية أيضا مجموعة من الأبعاد المعرفية الكلية والنهائية، تتمثل في ما يلي:

1. أسبقية اللغة على العقل الإنساني (وهذا يقابل أسبقية الطبيعية/المادة، على الإنسان) فهو يعني إزاحة الإنسان عن الكون، مما يمثل شكلا من أشكال العداء للإنسانية humanisme.

2. ضمور الواقع تماما؛ إذ إن اللغة هي التي تنتج الواقع، وليس الواقع هو الذي ينتج اللغة (تماما كما أن المادة هي التي تشكل الوعي وليس الوعي هو الذي يشكل المادة).

3. تأكيد أن اللغة نسق مكثف بذاته، قوانينها كامنة فيها، وهو ما يبين أن اللغة لا أصل لها، أو أنها غير معروفة الأصل، وهذا نمط عام في الفلسفات المادية، التي ترى أن أصل العالم هو مادة قديمة ذاتية التنظيم لم يخلقها أحد، وأن الخلق عملية غير مفهومة وغير معروفة تمت بالصدفة، وإن وجد إله فهو المحرك الأول فحسب[39].

ومنه؛ فإن مجمل المفاهيم والتصورات التي تحكم هذه الأنظمة المعرفية تكشف أن “مقولة اللغة هنا حلت محل مقولة المادة (تماما مثل حلول الجسد والجنس محل المادة في سياقات أخرى)، وبذلك تصبح اللغة المبدأ الواحد: قوة كامنة في الكون (الطبيعية والإنسان)، دافعة له، تتخلل ثناياه وتضبط وجوده وتوحده، قوة لا تتجزأ ولا يعلو عليها أحد، وهي النظام الضروري والكلي للأشياء، نظام ليس فوق الطبيعة وحسب، ولكنه فوق الإنسان أيضا. وانفصال الدال عن المدلول يعني أن اللغة الإنسانية تسقط في قبضة الصيرورة شأنها شأن الظواهر الطبيعية، وتصبح نظاما مستقلا له قواعده المستقلة عن إرادة الإنسان[40].”

وهذا الثابت المعرفي الكبير الذي يتجلى ويتلبس في كل مرة بلبوس جديد عند كافة السيميائيين الغربيين: ابتداء من دوسوسير وبيرس ومرورا بكاسيرر، ولوتمان، وإيكو، وكرسيتيفا، وغريماس)… وصولا بالمتأثرين بكتاباتهم في العالم العربي.

فإذا كان مبدأ الاعتباطية و صنوه مبدأ الاختلاف عند سوسير يحيلان إلى سلطة النسق اللغوي، كما أشرنا إلى ذلك، فإن مبدأ “السيميوزيس sèmiosis ” لبيرس يحيل إلى نفس الفلسفة، فالسيميوزيس “باعتبارها فعلا قد يكون لا متناهيا يعد إسهاما هاما في نظرية اللغة. فاللغة تبدو في هذا التصور باعتبارها ممارسة إنسانية أُفق تحيينها هو التاريخ باعتباره زمنية إنسانية. فحقيقة اللغة لا تكمن في الكشف عن كون مرجعي ثابت بشكل نهائي، ولكنها إنتاج له[41].” وهو التصور الذي يوضح بدقة السلطة الكاملة للغة على حركية الواقع.

ويكشف العقل السيميوطيقي البيرسي عن نزعته الحلولية المادية في سياقات متعددة من أهمها “تأكيده على أن الإنسان علامة. وأنه كلما فكرنا يكون حاضرا في ذهننا تمثيل يصلح كعلامة. والحال أن كل ما هو حاضر في ذهننا هو مظهر منا. إذن؛ فكلما فكرنا فإننا نظهر نحن أنفسنا كعلامة، وفي النهاية، فليس هنا فرق بين كلمة “إنسان” والعلامة اللغوية التي تمثل الإنسان نفسه: إن الإنسان هو الكلمة[42].”

ولا يعدو أن يكون الأمر نفسه، أيضا، مع أطروحة السيميوسفير sémiosphère  للسيميائي الروسي “يوري لوتمان”، فالسيميوسفير، كنسق أنساق، بمثابة البنية السيميائية النحوية الكلية التي تحوي كل إمكانيات الأنحاء والعادات والقوانين، والتي تمتلك القدرة التنظيمية الذاتية لبقية الأنساق الفرعية[43].

وما الحرج المعرفي الذي عانى منه “جوليان غريماس” كثيرا في معرض التأسيس لأطروحته “سيمياء الأهواء” إلا دليل بليغ جديد، على اضطراب هذا العقل السيميائي واستمراره في انفصاليته وحلوليته، يقول الرجل متسائلا: “هل الكون محكوم بحالة سابقة على ميتا-منطق خاص “بالقوى” (على طريقة الفيزياء الموجية مثلا)، أم “بمواقع” (حسب التأويل الجسيمي)؟ ها نحن أمام مفهومين “يحدد بعضهما البعض”، حسب تعبير  هالمسليف. ولكن هناك تساؤلا آخر لا يقل أهمية عن سابقه يستعيد قلق الفكر السابق على سقراط: هل العلم واحد يفيض من امتلائه؛ أي بنية مزيج قابل للانفجار، أم هو كلية عمائية تهفو إلى الوحدة؟

وبعبارة أخرى، بمفاهيم بروندال، هل مصدر البنية الأولية “للكينونة” أو بالأحرى، النسخة الشكلية التي يمكن تصورها، حد مركب قابل للاستقطاب أم هو حد محايد، بؤرة للقاء مزدوج لا يمكن مصالحة طرفيه؟ هل تعايش هذين المنطقين وهاتين الرؤيتين قابل للصياغة والتمثيل من خلال حدود الشروط المستبقة؟[44].”

وتبدو أطروحة “الموسوعة Encyclopédie” للسيميائي الإيطالي “أومبرتو إيكو” أطروحة متميزة نوعا ما؛ إذ تعد “فرضية ضابطة يقرّر المتلقي على أساسها وعند تأويل نص ما، أنه يبني جزءًا من موسوعة تسمح له بأن يعطي إلى النص أو إلى المرسل جملة من الإمكانيات الدلالية[45].” ولكن يتضح “أن الموسوعة باعتبارها فرضية ضابطة لا تتخذ شكل شجرة، بل شكل جذمور حيث لا توجد نقاط أو مواضع، بل خطوط ربط فحسب[46].”

واستعارة الجذمور هذه استعارة طريفة. فالجذمور نبات، ولكن لا يوجد فيه فاصل بين الجذر والساق، ولا بين الظاهر والباطن، وهو ينمو بلا اتجاه، ويمتد بشكل دائم من جانبه وإلى أعلى وإلى أسفل وبنفس الدرجة، دون أن يتبع أي نمط ملحوظ، ومن ثم لا يمكن التنبؤ به، وتظهر له سيقان جديدة في أماكن من المستحيل التنبؤ بها، وهذه صورة مجازية جديدة كل الجدة، فالآلة والنبات يتحركان حسب نمط وفي حركة رتيبة، ورتابتهما تحل مشكلة الاتجاه، وما يختلف هو مصدر قوة الدفع والتماسك. أما الجذمور، فإن قوة دفعه من الداخل، فهو كائن عضوي، ولكنه لا يتبع أي نمط، ولذلك تنفصل المقدمات عن النتائج، والدوال عن المدلولات، والذات عن الموضوع. فثمة انتقال من الحركة الرتيبة للعالم العضوي/الآلي، إلى حركة لا اتجاه لها في عالم ما بعد الحداثة الفوضوي، وهو نتيجة حتمية للمرجعية المادية الكامنة. فالمرجعية حين تكمن في الذات أو الموضوع، يظهر عالم الثنائية الصلبة الذي تعبّر عنه صورة مجازية (الآلة أو النبات) بشكل كاف. ولكن حيثما يزداد كمون المرجعية وتتجلى في كل المخلوقات، فإن المرجعية ذاتها تختفي، ولا تصلح لا الصورة المجازية الآلية ولا العضوية، وتظهر مجموعة من الصور المجازية الجديدة[47].

والمهم أن بيت القصيد هنا هو مركزية اللغة دوما، وكما يؤكد ذلك الباحث المغربي “سعيد  بنكراد” بتسليم مطلق: “إن إدراك العالم مبرمج بشكل مسبق داخل اللغة… إننا أسرى لغاتنا لا فاعلون أحرار داخلها كما قد توهمنا بذلك “دورات الكلام” المتحققة و”الآداء الحرّ”[48]“.

ثالثا: التركيب

لحظة التركيب.. أو نحو عقل سيميائي توحيدي

يتجه الوعي التركيبي نحو إعادة مفهمة الأصول المعرفية الكبرى للعقل السيميائي بما يتوافق ومنظومة الرؤية الوجودية التوحيدية، التي لا تتنكر لأي مستوى من مستويات النموذج، بقدر ما تسعى إلى تحقيق التفاعل والتكامل المعرفيين بين المستويات (الإله، الإنسان، الطبيعة)، عكس الرؤية الوجودية الواحدية التي تؤكد على الانفصال والإقصاء والحلول.

ومن هذا المنطلق كانت مهمة المسيري المعرفية الحضارية لا تقف عند حدود التفكيك كما أشرنا، بل هي دائمة البحث عند لحظة التركيب، التي لن نصل إليها إلا عبر الحفر العميق في طبقات الوعي الغربي، والبحث عن الطبقة الجيولوجية المعرفية الأم، التي توفر الصلابة المنهجية للنماذج الغربية، وهذا ما يظهر بجلاء في قوله: “… ولعل اختلاف نقطة البدء الإسلامية عن نقطة البدء المسيحية أمر عميق الدلالة في هذا المضمار، ويبين أن إشكالية الدال والمدلول كامنة في الحضارة الغربية حتى قبل ظهور الفلسفة المادية والنسبية المعرفية. ففي المسيحية واليهودية، نجد أن لحظة البدء هي الكلمة نفسها (تجسّد اللوجوس)، فالكلمة هي الأساس الأنطولوجي لهذا العالم. أما في الإسلام، فلحظة بدء العالم لحظة ابستمولوجية معرفية، وتفترض وجود إله يسبق خلق المادة، إله عالم عليم، ومن خلال المعرفة التي يتلقاها آدم منه يصبح إنسانا؛ أي أنه يتم التواصل بين الإله والإنسان بدون تجسّد؛ أي أن ثمة اتصالا وانفصالا[49].”

إن الفرق بين اللحظتين هنا هو الفرق بين نظامين معرفيين كبيرين: الأول: نظام معرفي واحدي مادي يحكمه مبدأ الاعتباطية/مبدأ الاختلاف ومبدأ الأيقونية (أو الحلولية)، والثاني: نظام معرفي توحيدي يحكمه مبدأ المسافة (الاتصال والانفصال)، وهو النظام الإنساني البديل الذي يؤسس لتركيبية الإنسان ويؤكد قدرته على التواصل الإيجابي مع مكونات النموذج، ومقدرته على التجاوز؛ تجاوز مشروطيات وإكراهات المادة والواقع، فـ”جوهر النسق التوحيدي الإسلامي هو مفهوم المسافة، الذي يؤكد علاقة الانفصال والاتصال بين الخالق والمخلوق، فالله، سبحانه، ليس كمثله شيء، فهو غياب إمبريقي كامل، ولا يمكن أن يدرك بالحواس، ولكنه، في الوقت نفسه، أقرب إلينا من حبل الوريد، دون أن يلتحم بنا ويجري في دمائنا، ويصبح بذلك جزءًا من عالم الصيرورة؛ أي أن الحضور الإلهي لا يأخذ شكل تجسّد مادي. وإيمان الإنسان به عنصر ذاتي، فهو في القلب، ولكنه ليس ذاتيا تماما، فهو يستند إلى العلامات والقرائن المادية مثل سنن الطبيعة. هذا النمط يتبدّى في علاقة الدال بالمدلول في الإطار التوحيدي. فهي علاقة اتصال وانفصال بحيث لا يلتحم الدال بالمدلول؛ فالمدلولات متشابكة فضفاضة، واللغة تصبح متشابكة فضفاضة تصلح للتواصل بين البشر رغم عدم كمالها[50].” وبهذا التصور المتكامل (نسبيا) نستطيع تجاوز مجمل المواقف التي يتأسس عليها العقل السيميائي الغربي (الواحدي المادي) وخاصة “الموقف ما بعد الحداثي الذي يطرح لحظة حضور كامل وغياب كامل، وكلاهما مستحيل. ومن استحالة الوصول تطرح الصيرورة كحل، باعتبارها الشيء الوحيد الممكن[51].” وهو الموقف الذي أربك كثيرا من مشاريعنا الفكرية والنقدية العربية المعاصرة، وزج بها في أتون القلق المفاهيمي والاضطراب المنهاجي، بل والعماء الفكري!

الهوامش


1. كمال أبو ديب، جدلية الخفاء والتجلي “دراسات بنيوية في الشعر”، بيروت: دار العلم للملايين، ط4، 1995، ص7.

2. المرجع نفسه.

3. المرجع نفسه.

4. المرجع نفسه، ص7-8.

5. المرجع نفسه، ص8.

6. سعيد بنكراد، التيارات النقدية الجديدة (الأصول النظرية وشروط الاستنباط)، مجلة ثقافات، ع21 يونيو 2008، البحرين، ص199.

7. سعد البازعي، ما وراء المنهج (تحيزات النقد الأدبي الغربي)، ضمن كتاب: إشكالية التحيز (رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد)، المعهد العالمي للفكر الإسلامي (فيرجينيا/ الو.م.أ)، ط2، 1998، ص167.

8. عبد الوهاب المسيري، الثقافة والمنهج (حوارات)، تحرير: سوزان حرفي، دمشق: دار الفكر، ط1، 2009، ص306-307.

9. عبد الوهاب المسيري وفتحي التريكي، الحداثة وما بعد الحداثة، دمشق: دار الفكر، ط1، 2003، ص112.

10. المرجع نفسه، ص113- 114.

11. المرجع نفسه، ص115.

12. عبد الوهاب المسيري، الثقافة والمنهج، م، س، ص231–232.

13. عبد الوهاب المسيري، اللغة والمجاز (بين التوحيد ووحدة الوجود)، القاهرة: دار الشروق،ط1، 2002، ص18.

14. المرجع نفسه.

15. المرجع نفسه، ص 19- 20.

16. محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي (نقد العقل العربي I)، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط8، 2002، ص37 .

17. المرجع نفسه، ص37.

18. المرجع نفسه، ص40.

19. المرجع نفسه، ص40-41.

20. عبد الوهاب المسيري: اللغة والمجاز، م، س، ص5.

21. سبق للتفكير السيميائي أن عبر عن نفسه من خلال تصورات ومفاهيم نظرية ناضجة، منها ما جاء ضمن الخطاب الفلسفي اليوناني وفي ثنايا الفكر العربي القديم وفلسفات القرون الوسطى الأوربية وعصر النهضة والأنوار.

22. الزواوي بغورة، الفلسفة واللغة (نقد “المنعطف اللغوي” في الفلسفة المعاصرة)، بيروت: دار الطليعة، ط1، 2005، ص 5-6.

23. عبد الواحد المرابط، السيمياء العامة وسيمياء الأدب (من أجل تصور شامل)، بيروت: الدار العربية للعلوم، الجزائر: منشورات الاختلاف، المغرب: دار الأمان، ط1، 2010، ص7-8.

24. المرجع نفسه، ص36.

25. المرجع نفسه.

26. المرجع نفسه، ص37.

27. عبد الوهاب المسيري، اللغة والمجاز، م، س، ص38.

28. المرجع نفسه.

29. المرجع نفسه.

30. المرجع نفسه.

31. المرجع نفسه، ص39.

32. المرجع نفسه، ص43.

33. المرجع نفسه، ص132.

34. Ferdinand de Saussure, cours de linguistique Générale, Editions Talantikit (Béjaïa), 2002, P. 87.

35. Ibid, p. 88.

36. Ibid, p. 141.

37. ينظر: اللغة والمجاز، م، س، ص132.

38. المرجع نفسه.

39. المرجع نفسه، ص137.

40. المرجع نفسه.

41. سعيد بنكراد، السيميائيات والتأويل (مدخل لسيميائيات ش، س، بيرس)، م، س، ص194-195.

42. ينظر: جيراردو لودال، السيمائيات أو نظرية العلامات، تر: عبد الرحمن بوعلي، دمشق: دار الحوار، ط1، 2004، ص128.

43. ينظر: يوري لوتمان، سيمياء الكون، تر: عبد المجيد نوسي، بيروت/المغرب: المركز الثقافي العربي، ط1، 2011، ص26-27.

44. ألجيرداس. ج. غريماس وجاك فونتنيي، سيميائيات الأهواء (من حالات الأشياء إلى حالات النفس)، تر: سعيد بنكراد، بيروت: دار الكتاب الجديد، ط،1 2010، ص69.

45. أمبرتو إيكو، السيميائية وفلسفة اللغة، تر: أحمد الصمعي، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، ط1، 2005، ص463.

46. المرجع نفسه، ص463.

47. ينظر: المسيري، اللغة والمجاز، م، س، ص45- 46.

48. سعيد بنكراد، مسالك المعنى (دراسة في بعض أنساق الثقافة العربية)، دمشق: دار الحوار، ط1، 2006، ص13-14.

49. المسيري، اللغة والمجاز، م، س، ص135.

50. المرجع نفسه، ص134-135.

51. المرجع نفسه، ص135.

الوسوم

د. شراف شناف

قسم اللغة العربية وآدابها جامعة باتنة/الجزائر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق