مركز الدراسات والبحوث في القضايا النسائية في الإسلامنصوص مترجمة

تفاعلات مفكرين مع كورونا (4): هنري كيسنجر: نظام عالمي جديد سيتشكل بعد أزمة كورونا

سوريالية المشهد بين الأمس واليوم

في السابعة والتسعين من عمره، أطل هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأميركي الأسبق وعراب سياسة أمريكا خلال فترة الحرب الباردة، عبر صحيفة “الوول ستريت” الشهيرة، بمقال عنوانه: “The Coronavirus Pandemic Will Forever Alter the World Order” ومعناه “جائحة فيروس كورونا ستغيّر النظام العالمي إلى الأبد”.

يستهل كيسنجر مقاله بوصفه  للحظة الآنية العالمية بأنها سوريالية، وهو وصف أدبي يعني “فوق الواقع” أو ما يتجاوز النظام والمنطق. يقول كيسنجر إن هذه اللحظة تذكره بشعوره عندما كان جندياً في معركة الثغرة “Battle of  the Bulge”  إبان الحرب العالمية الثانية، إذ راوده الإحساس بالخطر الكبير الذي لا يستهدف شخصا بعينه وإنما يضرب الكل وبشكل عشوائي ومدمر. وأضاف بأنه على الرغم من أوجه الشبه بين تلك الحقبة والزمن الحالي من حيث هذا المشهد السوريالي، إلا أن هناك فرقا جوهريا يكمن في أن الصمود الأمريكي وقدرة التحمل في الحرب آنذاك كان مدفوعا بطاقة قوية لتحقيق غاية وطنية عظمى، ولكن الآن، في ظل وجود دولة منقسمة سياسيا، نحتاج إلى حكومة أمريكية تمتاز بالكفاءة وطول النظر للتغلب على العقبات غير المسبوقة من حيث الحجم والنطاق.[1]

.معالم النظام العالمي الجديد               

يعتبر كيسنجر أن “الأضرار التي ألحقها تفشي فيروس كورونا المستجد بالصحة قد تكون مؤقتة، إلا أن الاضطرابات السياسية والاقتصادية التي أطلقها قد تستمر لأجيال عديدة”. وأضاف “عندما ينتهى وباء كوفيد-19، سيتم النظر إلى مؤسسات العديد من البلدان على أنها فشلت. لا يهم ما إذا كان هذا الحكم عادلاً بشكل موضوعى أم لا، لكن الحقيقة هى أن العالم لن يكون كما كان بعد فيروس كورونا.”

وعلى عكس توقعات كثير من المفكرين، الذين يرون أن أزمة كورونا ترسم معالم نظام عالمي جديد سيتراجع فيه الدور الأمريكي لصالح الصيني، فإن كيسنجر يستمر في الوفاء والولاء لفكر سيادة أميركا. فهو يرى أن خطة مارشال[2] ومشروع مانهاتن[3]، الذين أتبتت فيهما أمريكا ريادتها عالميا، يقدمان دروسا وتوجيهات لبلده تتجلى في ثلاث محاور:

أولا: وجوب تطوير الأبحاث العلمية لتعزيز قدرة العالم على مواجهة الأمراض والأوبئة التي ستستفحل في المستقبل

ثانيا: المسارعة إلى إعداد خطط وبرامج لمعالجة الأضرار الاقتصادية الناجمة عن تفشي وباء كورونا

ثالثا: حماية مبادئ النظام العالمي الليبرالي

وإذا كانت هذه هي الدروس موجهة للإدارة الأمريكية بالدرجة الأولى، فإن ذلك يبدو كمن يريد أن يحفظ لأميركا موقعها وموقفها حتى وإن كانت المتقدّم بين متساوين primus inter pares، فكيسنجر يعترف بأن أزمة كهته لا يمكن معالجتها إلا بالتضامن العالمي والتفكير الجماعي.

نعيش جميعا كإخوة أو نموت جميعا كالحمقى

في تصريح كيسنجر بأنه “لا يمكن لأي دولة، حتى وإن كانت الولايات المتحدة، أن تتغلب على الفيروس بجهد وطني محض”[4]، يبدو وكأنه يستعير مقولة مارتن لوتر كينغ “إما أن نعيش جميعا كإخوة أو نموت جميعا كالحمقى”. ففي ثنايا مقاله ينتقد كيسنجر قادة العالم الذين لا زالوا يتعاطون مع الأزمة على أساس وطني بحت، رغم أن تداعيات التفكك الاجتماعي المترتب على تفشي الفيروس لا تعترف بالحدود. كما ينبه كيسنجر إلى أن الوباء قد أدى إلى مفارقة تاريخية، تتمثل في أنه أحيى منطق المدينة المُسَوَّرة في عصر يعتمد فيه الازدهار على التجارة العالمية وحركة الناس.[5]

التفكير في المستقبل ونحن في قلب العاصفة

يرى كيسنجر أن التحدي التاريخي الذي يواجه قادة العالم في الوقت الراهن هو التعاطي مع الضرورات المستجدة المتعلقة بمكافحة الفيروس لكن بدون إغفال وضع رؤية وبرنامج لبناء المستقبل. فالإخفاق في العمل على المحورين في آن واحد، حسب كيسنجر، قد تترتب عليه نتائج سيئة. وأضاف “إن الجهود المبذولة لمواجهة تفشي الوباء، رغم ضخامتها وإلحاحها، ينبغي أن لا تشغل قادة العالم عن مهمة أخرى ملحة تتمثل في إطلاق مشروع موازٍ للانتقال إلى نظام ما بعد كورونا.”[6]

الاختبار النهائي

بينما اعتبر كيسنجر أن الإدارة الأمريكية قامت بعمل كبير لتجنب كارثة فورية، رأى أيضا أن الاختبار النهائي يكمن في القدرة على وقف انتشار الفيروس ثم عكس مساره بطريقة تحافظ على الثقة العامة في قدرة الأمريكيين على حكم أنفسهم.

وفي هذا الإطار، أوضح كيسنجر أن الأمم تزدهر وتتماسك بثقتها بأن مؤسساتها يمكن أن تتوقع الكارثة، وتوقف تأثيرها وتستعيد الاستقرار، لافتا إلى أنه عندما يتم الانتهاء من احتواء الوباء، سيكتشف العالم أن مؤسسات عدد كبير من الدول فشلت في إدارة الأزمة. وليس المهم، حسب كيسنجر، أن تكون عملية المحاسبة هذه عادلة أو غير عادلة، بل إن الأهم في كل ما يحصل وفي الدروس المستخلصة منه هو أن عالم ما بعد وباء كورونا لن يكون عالم ما قبله.

فالعالم بحسب كيسنجر في طريقه إلى معركة عالمية فكرية طاحنة، سوف تتبدى ملامحها ومعالمها، بعد وقف الجائحة، وساعتها ستتمّ مساءلة الأيقونات المؤسساتية، والنظريات الأيديولوجية التي حكمت العالم منذ الحرب العالمية الثانية حتى الساعة.

ويخشى وزير الخارجية الأميركي الأسبق من أن التراجع العالمي عن موازنة السلطة مع الشرعية قد يؤدي إلى تفكك نظرية العقد الاجتماعي محلياً ودولياً، وأنه رغم صعوبة تسوية هذه القضية في وقت واحد مع محاولة التغلب على وباء كورونا، تبقى مسألة ضبط النفس ضرورية على كل الأصعدة السياسية بالداخل والخارج.

ويختم كيسنجر مقاله بالقول أننا انتقلنا من معركة الثغرة “Battle of the Bulge” إلى عالم الازدهار المتزايد وتعزيز الكرامة الإنسانية مما يجعل العالم يعيش فترة تاريخية، لكن التحدي التاريخي أيضا أمام قادة العالم هو إدارة هذه الأزمة وبناء المستقبل وأن الفشل في تحقيق ذلك قد يؤدي إلى إشعال العالم.

[1] https://www.wsj.com/articles/the-coronavirus-pandemic-will-forever-alter-the-world-order-11585953005

[2]  مشروع مارشال هو المشروع الذي وضعه الجنرال الأمريكي جورج مارشال والذي بموجبه تم إنفاق 12.9925 مليار دولار أميركي لإعادة تعمير أوروبا وإنعاش اقتصادها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية

[3]  هو مشروع بحث وتطوير نجح في إنتاج أول الأسلحة النووية، وكان بقيادة الولايات المتحدة وبدعم من المملكة المتحدة وكندا خلال الاعوام 1942 – 1946

[4] https://www.almodon.com/arabworld/2020/4/5/%D9%83%D9%88%D8%B1%D9%88%D9%86%D8%A7-%D9%8A%D9%81%D8%B6%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%86%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D9%83%D9%8A%D8%B3%D9%86%D8%AC%D8%B1-%D8%B3%D9%8A%D8%BA%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B8%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%8A

[5] https://www.realclearpolitics.com/articles/2020/04/07/kissingers_call_for_a_new_world_order_142873.html

[6] https://www.aljazeera.net/news/politics/2020/4/4/%D9%87%D9%86%D8%B1%D9%8A-%D9%83%D9%8A%D8%B3%D9%86%D8%AC%D8%B1-%D9%83%D9%88%D8%B1%D9%88%D9%86%D8%A7-%D8%B3%D9%8A%D8%BA%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B8%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%8A-%D9%84%D9%84%D8%A3%D8%A8%D8%AF

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق