مركز عقبة بن نافع للدراسات والأبحاث حول الصحابة والتابعيندراسات عامة

تفاريع فقهية مبنية على أنظار وروايات الصحابة رضي الله عنهم

2) اعتبار النوم ناقضا للوضوء

إن من خصائص الشريعة الإسلامية الغرَّاء: الشمول والاستيعاب. فهي شريعة شملت كل الناس وخاطبت كل الأمم، واستوعبت كل مناحي الحياة ومظاهر العيش، فجاءت أحكامها مبيِّنة وموضِّحة لما يطالَب به الإنسان في خصوصياته الذاتية، وفي علاقاته مع خالقه وباقي الخلق جميعا.

ومما حرص الإسلام على تثبيته في نفوس الناس عامَّة، وفي المسلم خاصَّة: النظافة والطهارة. فهي شعار المسلم في العلن، وهمُّه اليومي في الخفاء. والشريعة الإسلامية لم تترك النظافة شعارا عامًّا، وعنوانا لافتا، وحسب. بل بيَّنت وفصَّلت المسائل التي تحقق تلك الطهارة والنظافة على وجهها التام الكامل، واختصت بأحكام جعلتها فريدة في الباب، فأوعبت القول في كل ما يَخرج من جسد الإنسان من إفرازاتٍ (الأحداث)، وكل ما يصدر عنه من أفعال (الأسباب)، وجعلت لكل واحد منها مسلكا خاصا في التعامل معه، سواءٌ قبل وقوعه، أو أثناء وقوعه، وكذا ما يلزم المسلمَ بعدَ وقوعه. وذلك لعمري -مع ما يذكره الفقهاء في باب الزواج- هو المنهج السديد والمسلك الصحيح لتعليم النشء المسلم «الثقافة الجنسية» الدقيقة والسليمة والخلاَّقة.

وفي هذا المقال -بإذن الله- سنذكر نموذجًا فقهيا يتحدث عنه الفقهاء في كلامهم عن الأسباب التي توجب الوضوءَ (نواقض الوضوء)، وهي: النوم. فالنوم فطرة في الإنسان مجبول عليها، يقضي منها حاجته مثلما يفعل في الأكل والشرب وغيرهما من الأمور التي تجري مجرى السليقة في البشر – وفي غيرهم من المخلوقات -، ولكن نوم المسلم له أحكام كثيرة تحيط به، فتُخرجه بهذا التدبير عن حدِّ الأفعال الغريزية وترتقي به إلى درجة الفعل المكلَّف السويِّ.

وقد اختلفت آراء العلماء في عدِّ النوم ناقضا للوضوء، أو نقضه بشروط، أو نفي صفة النقض عنه مطلقا. وسبب اختلافهم ما ورد عن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم من روايات مختلفة، منها ما هو مرفوع إلى مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله أو من فعله أو من إقراره، ومنها ما هو موقوف عليهم رضي الله عنهم من أقوالهم أو أفعالهم. وسنعرض فيما يلي خلاصة الأقوال في المسألة، مع ذكر الروايات المعتمدة عند القائلين بكل رأي منها، مع التنبيه على وجه الضعف في بعض الأدلة والاستدلالات مما اشتهر ضعفه وقويَت مخالفته.

ونقتصر على أشهر الأقوال في المسألة، وهي أربعة أقوال:

  • الأول: أن النوم لا ينقض الوضوء مطلقا، وهو مرويٌّ عن أبي موسى الأشعري وأبي مجلز وعمرو بن دينار وحميد الأعرج.
  • الثاني: النوم ناقض للوضوء على كلِّ حال إلا من نام جالسا نوما خفيفا. وهو مذهب المالكية.
  • الثالث: النوم ناقض للوضوء؛ إلا من نام جالسا مطلقا. وهو مذهب الشافعية.
  • الرابع: النوم لا ينقض الوضوء؛ إلا من نام مضطجعا فقط. وهو مذهب الحنفية.

أدلة المذهب الأول واستدلالهم: النوم لا ينقض الوضوء مطلقا [أبو موسى الأشعري([1]) وأبو مجلز([2]) وعمرو بن دينار([3]) وحميد الأعرج([4])]

وعمدة هذا المذهب أحاديث ثابتة عند الشيخين: البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى، ومن ثمَّ فلا مجال لمناقشة صحَّة ما اعتمدوه من أخبار، وإنما تتجه المناقشة إلى مدلولات هذه النصوص ومعانيها. وبما أنهم أعملوا الظاهر المطلق في تفسيرها، وخالفوا اتفاق علماء الأمة([5])؛ فإن مذهبهم مرجوحٌ ضعيف، ولذلك سنعقِّب على ما استندوا عليه من الأدلة -ووجه دلالتها- ببيان ما ذكره العلماء من الردود عليها.

وأول ما نورده من أدلتهم ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: (بِتُّ فِي بَيْتِ خَالَتِي مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَهَا فِي لَيْلَتِهَا، فَصَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِشَاءَ، ثُمَّ جَاءَ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ نَامَ، ثُمَّ قَامَ، ثُمَّ قَالَ: «نَامَ الْغُلَيِّمُ؟» أَوْ كَلِمَةً تُشْبِهُهَا، ثُمَّ قَامَ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ، فَصَلَّى خَمْسَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ نَامَ حَتَّى سَمِعْتُ غَطِيطَهُ([6])، أَوْ خَطِيطَهُ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ)([7]).

ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى بالليل ثم نام حتَّى سمع ابنُ عبَّاس غطيطه، وهو عَلَامة على النوم الثقيل بلا شكٍّ، ثم خرج رسول الله بعدها للصلاة ولم يَذكُر أنه توضَّأ، فالحديث بهذا يدُلُّ أن النوم ليس ناقضًا للوضوء مطلقا، خفيفا كان هذا النوم أم ثقيلا.

والجواب عنه مبني على بيان أمرين اثنين:

الأول: كون الحديث روايةً لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس من قوله عليه الصلاة والسلام، وأفعاله صلى الله عليه وسلم تحتمل التخصيص، فصار الحديثُ محتمِلًا أن يكون خاصًّا به صلى الله عليه وسلم دون أمته.

الثاني: أن النوم -باتفاق الفقهاء- ليس حدثًا في نفسه([8])، وإنما اعتُبِر ناقِضا للوضوء لكونه سببًا يغلب منه خروج الحدَث من المكلف حالَ نومه دون أن يُحِسّ أو يَشْعر، فكان ناقضا مراعاةً للحال الأغلب واحتياطا للعبادة.

وبناء على هذين الأمرين أمكن القول: إن الحديث خاصٌّ برسول الله صلى الله عليه وسلم([9])، فقد ثبت بالدليل القاطع أن نومه عليه الصلاة والسلام ليس كنوم غيره، حيث قال صلوات ربي وسلامه عليه: «إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي»([10])، وقد قيل في تفسيره([11]): إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يُدرِك ما يقع منه في النوم، فيحس إذا انتقض وُضوءُه. وهذا يعني أنه عليه الصلاة والسلام في الحديث المذكور قد وعَى وأدرك عدم حصول ما ينقض وُضوءَه، فانصرف إلى الصلاة ولم يتطهَّر.

وأما الرواية الثانية التي يعتمدونها فهي عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ يُصَلِّي فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا صَلَّى وَهُوَ نَاعِسٌ لَا يَدْرِي لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبُّ نَفْسَهُ»([12]).

والحديث فيمن يصلي -النافلة([13])– وقد غلبه النوم، فينبغي لمن كانت هذه حاله أن ينصرف من الصلاة ويأخذ قسطه من النوم أو غيره مما يُذهٍب عنه النومَ ولا يتمادى على تلك الحال. وقد يُستفاد من الحديث أن النعاس لا ينقُض الصلاة؛ لكون علَّةَ النهي عن صلاة الناعس المذكورةَ هي خشيةُ وقوعِ أقوالٍ وأفعالٍ لا يدركها في صلاته وتنافي حقيقة الخشوع والاطمئنان الواجب فيها، وما كان غير ناقض للصلاة فهو غير ناقض للوضوء أيضًا([14]).

والجواب عن هذا الفهم واقِعٌ في منطوق الحديث نفسه، إذ كيف يُعقل أن ينام الإنسان وهو يؤدي أفعال الصلاة وأقوالها دون أن يسقط عن القيام لها، إلا أن نصرف الحديث إلى حال من يصلي مضطجعا. والواقع أن النوم على قسمين: نوم ثقيل ونوم خفيف، والمراد في الحديث هو النوم الخفيف الذي إذا استمر واشتدَّ في الإنسان صار به إلى النوم الثقيل، وبينهما مراحل قد يفقد فيها الإنسان بعض وعيه وإدراكه، فلربما نطق فيها بما لا يقصده، فكان النهي متوجها إلى صاحب النوم الخفيف حتى لا يتمادى في صلاته على تلك فتؤدِّيَ به مغالبته للنوم وإصراره على الاستمرار فيها إلى الوقوع في المحظور.

وأما الرواية الثالثة فهي عن قتادة رضي الله عنه قال: سمعت أنسا رضي الله عنه يقول: (كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنَامُونَ، ثُمَّ يُصَلُّونَ وَلَا يَتَوَضَّؤُونَ)([15]).

والحديث مشهور عند الفقهاء، وهو عمدةٌ عند القائلين بأن النوم لا ينقض الوضوء، إذ هو نصٌّ في أن الصحابة كانوا ينامون بالمسجد ينتظرون صلاة العشاء، فإذا حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّوا معه ولم يتوضَّؤوا. ومثل هذا لا يغفل الصحابة عن السؤال عنه لمعرفة حكمه، بل هو أمر عامٌّ بينهم، منتشر في فعلهم، فالحديث يستفاد منه بهذا الوجه إقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم لفعل الصحابة ذاك.

والجواب عنه أن الحديث مطلق في النوم، ولم يُقيِّد الهيئة أو الصفة التي كانوا ينامون عليها، ولذلك كان مَعرضًا للتأويل بين الفقهاء، فقد أوَّلَه القائلون بعدم نقض الوضوء في حال النوم جلوسا بأن الصحابة كانوا ينامون على هيئة الجلوس، وهذا هو المتصَّور الغالب فيمن كان ينتظر الصلاة بالمسجد، ويؤيِّده ما ورد في بعض الروايات من زيادة: «تخفق رؤوسهم»([16])، وخفقان الرأس إنما يقع لمن كان نومه جالسا. وأوَّلَه القائلون بعدم نقض الوضوء في النوم الخفيف بأن نومهم رضي الله عنهم إنما كان على صفة يدركون بها ما يحصل حولهم؛ وهو النوم الخفيف. كما أوَّله النافون لانتقاض الوضوء بأنهم كانوا ينامون نوما ثقيلا حتى إن بعضهم كانوا يضطجعون.

وقد تقرر عند الأصوليين أن الدليل إذا دخله الاحتمال، سقط به الاستدلال، وهذا الحديث -كما ترى- حجة لكل فريق، فليس به حجة لأحدهم إلا بناءً على الترجيح بالقرائن المحتفَّة به، وهو مسلك اجتهادي طويل البال.

أدلة المذهب الثاني واستدلالهم: النوم ناقض للوضوء إلا من نام جالسا نوما خفيفا [المالكية([17])]

وقبل عرض النصوص الحديثية لهذا المذهب وبيان استدلالهم منها، نذكر أن المالكية يستندون إلى دليل من القرآن الكريم، وهو قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ) الآية([18]). فقد قال السدِّي وزيد بن أسلم في تفسير قوله سبحانه: (قُمْتُمْ) أي: من النوم([19])، «واختار هذا التفسير مالك رحمه الله وجماعة من أصحابنا؛ لأن الله تعالى لم يذكر النوم في نواقض الوضوء، فوجب حمل هذا عليه»([20]).

وأما الأحاديث، فاستدلوا أولا بما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «[…] وَإِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهَا فِي وَضُوئِهِ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ»([21]). فالحديث صريح غايةً في أن على المستيقِظ من نومه الوُضوء، بل وزاد حكما وهو عدم إدخال يده في إناء الوَضوء إلا بعد غسلهما خارجه، «فدل على أن الوُضوء [أي: واجبٌ] على من انتبه من نومه»([22])، والحديث بهذا موجِبٌ للوضوء مطلقا من غير تفصيل في المدة أو الهيئة أو الثقل والخفَّة.

واستدلوا ثانيا بما رواه عاصم، عن زِرٍّ قال: أتيتُ صفوانَ بنَ عَسَّال المرادي رضي الله عنه فقال: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُنَا إِذَا كُنَّا سَفْرًا أَوْ مُسَافِرِينَ أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ إِلَّا مِنْ جَنَابَةٍ، وَلَا نَنْزِعَ مِنْ غَائِطٍ، وَلَا بَوْلٍ، وَلَا نَوْمٍ»([23]).

والحديث وإن كان في بيان حكم المسح على الخفين، إلا أن الصحابي الجليل صفوان بن عسَّال رضي الله عنه روى فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يوجب إزالة الخف من النواقض وما لا يوجب ذلك وإن كانت جميعها نواقضَ تستوجِبُ الوضوء، إلاَّ أن حكم إزالة الخفِّ يتوجب في الجنابة دون الغائط والبول والنوم. «ففي هذا الحديثِ التَّسوِيةُ بين الغائطِ، والبَولِ، والنَّوم»([24])، أي التسوية في الحكم، فيكون النوم ناقضا مثل الغائط والبول. وهنا نشير إلى ما يشير إليه الفقهاء من الاختلاف بين النوم من جهة، والبول والغائط من جهة أخرى، فالبول والغائط لا تختلف صورتهما في الخروج إلا عند صاحب السلس؛ وهو مرضٌ. أما النوم فإن له هيئات وصورًا ومراحل يمر منها النائم، ولذلك وقع الاختلاف في النوم دونهما.

واستدلوا ثالثا بما رويَ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وِكَاءُ السَّهِ([25]) الْعَيْنَانِ، فَمَنْ نَامَ فَلْيَتَوَضَّأْ»([26]). والحديث ليس بالقويِّ في الباب، «إلا أن معناه معلوم بالعادة»([27])، فقد عُرِف بالتجربة أن النائم لا يقوى على التحكم في خروج الريح منه حالَ نومه،  فصار بذلك شاكًّا في وقوع الحدث أو عدمه، فأُلحِق حكمه بالمحدِث حقيقةً، لأنه «متى سوَّغنا له الصلاة بوضوءٍ قبلَ النوم مع كوننا على غير ثقة من بقاء طهارته تلك؛ كنا قد سوَّغنا له الصلاة محدثًا، فكان الاحتياط أن يَلزَمه الوضوء ليصلي على ثقة من طهارته وارتفاع الحدث»([28]).

فهذه الأدلة وغيرها تُثبِت أن على النائم الوضوء مطلقا، إلا أن تحقيق القول عند المالكية أنهم يرون بعدم نقضه حال كون النائم جالسًا في نوم خفيف، وأدلتهم على ذلك هي أدلة الشافعية [الآتي ذكرها] في أن النائم في حال جلوسه لا ينتقض وضوءه، والفرق بينهما:

أن الشافعية يطلقون الأدلة في نوم الجالس مطلقا، فلا ينتقض عندهم وضوءه وإن طال وثَقُلَ.

وأما المالكية فيقيِّدون الأدلة الواردة على أنها في النوم الخفيف دون الثقيل؛ وهي تحتمِل ذلك.

أدلة المذهب الثالث واستدلالهم: النوم ناقض للوضوء؛ إلا من نام جالسا مطلقا. [الشافعية([29])]

وأدلة القوم هي نفسُ الأدلة السابقة على أن النوم ناقضٌ من حيثُ الجملة، إلا أنهم يطلقون عدم الانتقاض في نوم الجالس وإن طال نومه أو ثقل، ويستدلون على ذلك بما روي عن نافع: (أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَنَامُ جَالِسًا ثُمَّ يُصَلِّي وَلَا يَتَوَضَّأُ)([30])، وما رُوِي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول: (‌لَيْسَ ‌عَلَى ‌الْمُحْتَبِي ‌النَّائِمِ، وَلَا عَلَى الْقَائِمِ النَّائِمِ، وَلَا عَلَى السَّاجِدِ النَّائِمِ، وُضُوءٌ، حَتَّى يَضْطَجِعَ، فَإِذَا اضْطَجَعَ تَوَضَّأَ)([31])، وما رواه الشافعي عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: (‌مَنْ ‌نَامَ ‌مُضْطَجِعًا ‌وَجَبَ ‌عَلَيْهِ ‌الْوُضُوءُ، وَمَنْ نَامَ جَالِسًا فَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ)([32]).

فهذه الآثار الموقوفة وغيرها([33]) تنص على أن جَمْعا من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم كانوا يفرقون بين النوم في حال الجلوس وغيره، وذلك أن النوم -كما سبق بيانه- ليس حدثا بنفسه وإنما هو سببٌ يغلب منه وقوع الحدث (خروج الريح)، والنائم الجالس يحس بخروج الريح منه لجلوسه على مِقعدته بخلاف المضطجع وما شابهه من الأحوال التي لا يعتمد فيها النائم على مِقعدته، ولذلك قال النووي رحمه الله: «ويخالفُ [أي: النوم] الأحداثَ؛ فإنها تنقُض الوضوء لعينها، والنوم ينقض لأنه يصحبه خروج الخارج، وذلك لا يُحِس به إذا نام زائلا عن مستوى الجلوس ويحس به إذا نام جالسا»([34]).

وهذا عندهم عامٌّ في النوم على هيئة الجلوس؛ لأنهم يعتبرون أن الإحساس بالناقض في حال الجلوس ممكن سواءٌ ثَقُل النوم أو خفَّ، طالَ أو قَصُر. أما المالكية فيوجهون هذه الآثار إلى النوم الذي لم يطل.

أدلة المذهب الرابع واستدلالهم: النوم لا ينقض الوضوء؛ إلا من نام مضطجعا فقط. [الحنفية([35])]

ومذهب هذا الفريق هي نفس أدلة المالكية في القول بأن النوم ناقض من حيث الجملة، ونفسُ أدلة الشافعية في القول بأن الجالس لا ينتقض وضوءه مطلقا، إلا أنهم يعتمدون أدلة أخرى يخصِّصون بها مذهب المالكية في النقض فيحصرونه في النائم المضطجع دون غيره من الهيئات، ويتوسَّعون عن مذهب الشافعية فيضيفون هيئات أخرى لا ينتقض بها الوضوء. فمذهبهم أضيق المذاهب في اعتبار النوم ناقضا.

وقد استندوا فيما ذهبوا إليه بأحاديث، أشهرها ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسجد وينام وينفخ، ثم يقوم فيصلي ولا يتوضأ، فقلت له: صليت ولم تتوضأ وقد نمت؟ فقال: «إِنَّمَا الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا، فَإِنَّهُ إِذَا اضْطَجَعَ اسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ» ([36]).

وزيادة «إِنَّمَا الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا» ضعيفة، والحديث متضمِّنٌ للهيئة وللتعليل، أما الهيئة فهي الاضطجاع، وأما التعليل فهو استرخاء مفاصل الإنسان، وقد قصروا العلَّة المذكورة على الهيئة المذكورة، وفي هذا نظر، إذ الأولى أن يَعم الحكم كل هيئة تحققت فيها العلة المذكورة([37])، فمن استرخت مفاصله وهو جالس أو قائم أو غيرها من الصور فإنه يُحكم له بالانتقاض، والاضطجاع حالة يغلب منها حصول ذلك وليس ينحصر فيها.

ويستدلون أيضا بما رواه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (كُنْتُ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ جَالِسًا أَخْفُقُ، فَاحْتَضَنَنِي رَجُلٌ مِنْ خَلْفِي، فَالْتَفَتُّ، فَإِذَا أَنَا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ وَجَبَ عَلَيَّ وُضُوءٌ؟ قَالَ: «لَا حَتَّى تَضَعَ جَنْبَكَ»)([38]). والحديث ليس حجة لما ذهب إليه الحنفية، بل يصلح أن يكون حجَّة للمالكية والشافعية أيضا، وذلك أن سياق الحديث يدل على أن حذيفة رضي الله عنه كان جالسا، بدليل أنه كان يخفُقُ رأسُه، وهي حالة تقع للنائم على هيئة الجلوس، وبدليل احتضان رسول الله صلى الله عليه وسلم له من خلفه، فذلك غير متصوَّر إلا في الجالس غير المتكئ. هذا من جهة هيئة حذيفة رضي الله عنه في الحديث.

وأما من جهة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا حَتَّى تَضَعَ جَنْبَكَ»، فإن ذلك لا يفيد الحصر، وإنما هو «استثناء من كونه جالسا»([39]).

كما أنهم يذهبون إلى النقض للمضطجع دون غيره، تقييدا منهم للفظ النوم بالعرف، فيرون أن النوم بإطلاق إنما ينصرف إلى المضطجع باعتباره حالة النوم المتعارف عليها. ([40])

ختامًا، فإن الاختلاف في حكم انتقاض وضوء النائم راجع إلى اعتبارات أخرى -غير تعدد الروايات- تُعين في تفسير الروايات الثابتة عن الصحابة رضوان الله عليهم، وأهم تلك الاعتبارات:

  • النوم ليس ناقضا بنفسه، وإنما هو سبب يغلب منه حصول الحدث وهو خروج الريح.
  • الغالب المتعارف عليه بين الناس من عدم انتقاض الوضوء في بعض الهيئات دون بعض، أمرٌ تختلف حقيقته بحسب الأشخاص، ولذلك يصعب انضباطه بالعرف.
  • تعميم حكم النقض أو عدمه مطلقا أو في هيئة دون أخرى قد يوقع إما في التشدُّد أو ما يقابله من التوسع، وكلاهما نقيض مقصود باب الطهارة، والعبادات عموما.
  • إن أخذ ما سبق ذكره بعين الاعتبار سيؤدي إلى إعمال جلِّ النصوص -إن لم يكن كلها-، بحيث تراعى أحوال الناس، فيُعمل في كل حالٍ بما يدل عليه من أدلة.

والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل، والحمد لله رب العالمين.

——————————————————————————-

 ([1]) – انظر: المغني لابن قدامة؛ 1/234. المجموع للنووي؛ 2/17. حلية العلماء للشاشي؛ 1/183. الحاوي الكبير للماوردي؛ 1/178.

 ([2]) – انظر: المغني لابن قدامة؛ 1/234. المجموع للنووي؛ 2/17. حلية العلماء للشاشي؛ 1/184. الحاوي الكبير للماوردي؛ 1/178.

 ([3]) – انظر: حلية العلماء للشاشي؛ 1/184. الحاوي الكبير للماوردي؛ 1/178.

 ([4]) – انظر: المغني لابن قدامة؛ 1/234. المجموع للنووي؛ 2/17. الحاوي الكبير للماوردي؛ 1/178.

 ([5]) – أئمة المذاهب الأربعة متفقون على أن النوم ناقضٌ، وإنما اختلفوا في شمول نقضه: هل هو على كل حال؟ أم يختلف باختلاف هيئة النائم؟ أو مدة نومه؟ أو ثقله وخفَّته؟

 ([6]) – تردُّد النَّفَس في الحلق، ويكون ذلك من النائم إذا استغرق في نومه. انظر: تفسير غريب ما في الصحيحين لابن فتوح؛ 337.

 ([7]) – أخرجه البخاري في «صحيحه» (كتاب العلم، باب السمر في العلم). ومسلم في «صحيحه» (كتاب الطهارة، باب السواك). ومالك في «الموطأ» (كتاب الصلاة، صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الوتر).

 ([8]) – إكمال المعلم لعياض اليحصبي؛ 2/231.

 ([9]) – عيون الأدلة لابن القصار؛ 2/561.

 ([10]) – أخرجه البخاري في «صحيحه» (كتاب المناقب، باب كان النبي صلى الله عليه وسلم تنام عينه ولا ينام قلبه). ومسلم في «صحيحه» (كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الليل وعدد ركعات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الليل).

 ([11]) – انظر: المنهاج للنووي؛ 5/184.

 ([12]) – أخرجه البخاري في «صحيحه» (كتاب الوضوء، باب الوضوء من النوم). ومسلم في «صحيحه» (كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب أمر من نعس فِي صلاته أو استعجم عليه القرآن أو الذكر بأن يرقد أو يقعد). ومالك في «الموطأ» (كتاب الصلاة، ما جاء في صلاة الليل).

 ([13]) – «وحمله مالك وجماعة ‌على ‌نفل ‌الليل؛ لأنه محل النوم غالبا» المنهاج للنووي؛ 6/74.

 ([14]) – الاستذكار لابن عبد البر؛ 2/86.

 ([15]) –. أخرجه مسلم في «صحيحه» (كتاب الحيض، باب الدليل على أن نوم الجالس لا ينقض الوضوء). وأبو داود في «سننه» (كتاب الطهارة، باب في الوضوء من النوم). والترمذي في «جامعه» (أبواب الطهارة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب الوضوء من النوم).

 ([16]) – أخرجه البيهقي في «سننه الكبير» (كتاب الطهارة، باب ترك الوضوء من النوم قاعدا). والدارقطني في «سننه» (كتاب الطهارة، باب ما روي فِي النوم قاعدا لا ينقض الوضوء). وأحمد في «مسنده» (مسند أنس بن مالك رضي الله عنه).

 ([17]) – انظر: المدونة الكبرى لمالك بن أنس؛ 1/119.  الإشراف لعبد الوهاب البغدادي؛ 1/143-146. بداية المجتهد لابن رشد؛ 1/42-43. الذخيرة للقرافي؛ 1/229-233. مواهب الجليل للحطاب؛ 1/294-295.

 ([18]) – سورة المائدة، الآية: 6.

 ([19]) – انظر: جامع البيان للطبري؛ 10/12. المحرر الوجيز لابن عطية؛ 2/161. الجامع لأحكام القرآن للقرطبي؛ 6/82. التسهيل لابن جزي؛ 1/223.

 ([20]) – الذخيرة للقرافي 1/ 231.

 ([21]) – أخرجه البخاري في «صحيحه» (كتاب الوضوء، باب الاستجمار وترا). ومسلم في «صحيحه» (كتاب الطهارة، باب كراهة غمس المتوضئ وغيره يده المشكوك فِي نجاستها فِي الإناء قبل غسلها ثلاثا). ومالك في «الموطأ» (كتاب وقوت الصلاة، وضوء النائم إذا قام إلى الصلاة).

 ([22]) – الكافي لابن عبد البر؛ 1/ 146. بداية المجتهد لابن رشد؛ 1/42.

 ([23]) – أخرجه ابن الجارود في «المنتقى» (باب الوضوء من الغائط والبول والنوم). وابن خزيمة في «صحيحه» (كتاب الوضوء، باب ذكر وجوب الوضوء من الغائط والبول والنوم). وابن حبان في «صحيحه» (كتاب العلم، ذكر بسط الملائكة أجنحتها لطلبة العلم رضا بصنيعهم ذلك). والحاكم في «مستدركه» (كتاب العلم، ما من رجل يخرج في طلب العلم إلا بسطت له الملائكة أجنحتها رضى بما يفعل حتى يرجع). والنسائي في «الكبرى» (كتاب الطهارة، التوقيت في المسح على الخفين للمقيم والمسافر). والترمذي في «جامعه» (أبواب الطهارة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب المسح على الخفين للمسافر والمقيم). والبيهقي في «سننه الكبير» (كتاب الطهارة، باب الوضوء من البول والغائط).

=> (قال الترمذي: سألت محمدا [يعني البخاري] فقلت: أي الحديث عندك أصح في التوقيت في المسح؟ قال: حديث صفوان) الإعلام بسنته عليه الصلاة والسلام لمغلطاي؛ 647.

 ([24]) – التمهيد لابن عبد البر؛ 11/ 499.

 ([25]) – «السَّهُ: حلقة الدبر. والوِكاء: أصله هو الخيط، أو السَّيْرُ الذي يُشدّ به رأس القِرْبة. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المرويِّ عنه في ذلك اليقظةَ للعين مثلَ الوكاء للقِرْبة، يقول: فإذا نامت استرخى ذلك الوكاء، فكان منه الحدث». شرح مشكل الآثار للطحاوي؛ 9/55.

 ([26]) – أخرجه أبو داود في «سننه» (كتاب الطهارة، باب في الوضوء من النوم) وابن ماجه في «سننه» (أبواب الطهارة وسننها، باب الوضوء من النوم) والبيهقي في «سننه الكبير» (كتاب الطهارة، باب الوضوء من النوم) والدارقطني في «سننه» (كتاب الطهارة، باب ما روي فيمن نام قاعدا أو قائما ومضطجعا وما يلزم من الطهارة فِي ذلك) وأحمد في «مسنده» (مسند العشرة المبشرين بالجنة وغيرهم، مسند علي بن أبي طالب رضي الله عنه).

=> ومَرويٌّ أيضا من حديث معاوية بن أبي سفيان، وقد اختُلف في تصحيحه، فضعَّفه أبو حاتم وأبو زرعة وابن حجر وابن عبد البر وابن عديٍّ والجوزجاني والزيلعي، وحسَّنه ابن الصلاح والمنذري والنووي. وقال أحمد: حديث عليٍّ أثبت من حديث معاوية في هذا الباب. انظر: التلخيص الحبير لابن حجر؛ 1/313.

 ([27]) – الذخيرة للقرافي؛ 1/ 230.

 ([28]) – المعونة لعبد الوهاب البغدادي 1/ 154.

 ([29]) – انظر: الأم للشافعي؛ 1/26-28. مختصر المزني؛ 1/29-30. المهذب للشيرازي؛ 1/50-51. حلية العلماء للشاشي؛ 1/184-185. المجموع للنووي؛ 2/15-21.

 ([30]) – أخرجه مالك في «الموطأ» (كتاب وقوت الصلاة، وضوء النائم إذا قام إلى الصلاة). والبيهقي في «سننه الكبير» (كتاب الطهارة، باب ترك الوضوء من النوم قاعدا). وعبد الرزاق في «مصنفه» (كتاب الطهارة، باب الوضوء من النوم). وابن أبي شيبة في «مصنفه» (كتاب الطهارة، من قال ليس على من نام ساجدا وقاعدا وضوء). والطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم الذي ينتقض به وضوء من سواه من أمته).

=> إسناده صحيح. انظر: المجموع للنووي؛ 2/19.

 ([31]) – أخرجه البيهقي في «سننه الكبرى» (كتاب الطهارة، جماع أبواب الحدث – باب ما ورد في نوم الساجد)، وقد انفرد به البيهقي من طريق يزيد بن قسيط.

=> قال ابن حجر: (إسناده جيد، وهو موقوف). التلخيص الحبير؛ 1/321.

 ([32]) – أخرجه الشافعي في «المسند» (كتاب الطهارة، باب في النوم قاعدا أو مضطجعا / بترتيب سنجر). والبيهقي في «معرفة السنن والآثار» (كتاب الطهارة، باب إذا نام قاعدا).

=> قال ابن الأثير: (هذا حديث صحيح). الشافي في شرح مسند الشافعي؛ 1/225.

 ([33]) – أورد ابن عبد البر في التمهيد الآثار الواردة في ذلك؛ 11/497-502.

 ([34]) – المجموع للنووي 2/ 13.

 ([35]) – انظر: الأصل للشيباني؛ 1/44. المبسوط للسرخسي؛ 1/78-79. بدائع الصنائع للكاساني؛ 1/30-31. الهداية للمرغيناني؛ 1/18. تبيين الحقائق للزيلعي؛ 1/9-10.

 ([36]) – أخرجه أبو داود في «سننه» (كتاب الطهارة، باب في الوضوء من النوم). والترمذي في «جامعه» (أبواب الطهارة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب الوضوء من النوم). والبيهقي في «سننه الكبير» (كتاب الطهارة، باب ترك الوضوء من النوم قاعدا).

=> اتفق أئمة الحديث على ضعف زيادة: «إِنَّمَا الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا»، انظر: نصب الراية للزيلعي؛ 1/44. البدر المنير لابن الملقن؛ 2/434. التلخيص الحبير لابن حجر؛ 1/319.

 ([37]) – انظر: عيون الأدلة لابن القصار؛ 2/564.

 ([38]) – أخرجه البيهقي في «سننه الكبرى» (كتاب الطهارة، باب ترك الوضوء من النوم قاعدا).

=> وقال -أي البيهقي- بعد أن أخرجه: «وهذا الحديث ينفرد به بَحرُ بن كَنِيز السَّقَّاء؛ وهو ضعيف لا يحتج بروايته» 1/364. وقال ابن عدي: «بحُر السَّقَّاء كل رواياته مضطربة، ويخالف الناس في أسانيدها ومتونها، والضعف على حديثه بَيِّنٌ» انظر: الكامل في الضعفاء؛ 2/235.

 ([39]) – عيون الأدلة لابن القصار؛ 2/ 570.

 ([40]) – بدائع الصنائع للكاساني؛ 1/31.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق