مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

تصوف الجمال والاعتدال في سيرة مربي الرجال: أبي الحسن الشاذلي

    لقد باتت الحاجة ملحة وصار الأمر ضروريا التوسل بالتصوف ومبادئه وأخلاقياته في علاج الإشكاليات الراهنة، وتقديم الحلول الناجعة لمعضلات العصر، انطلاقا من اعتبار التصوف ليس  مجرد حالة معرفية وجدانية فحسب، بل هو تجربة وخبرة إنسانية وحمولة تراثية، تتميز بالصفاء الروحي والقيم الأخلاقية التي يمكن الاستفادة منها على مختلف الأصعدة، ومن الضروري إعادة التذكير بأهمية التصوف الوسطي المعتدل، حيث يجب إبراز حاجة الأمة إليه لتعزيز خصوصياتها وهويتها، فهو الكفيل بترميم التصدعات، وترشيد السلوكات، وتصحيح التصورات، والانفتاح والتسامح، ونبذ التطرف والعنف والتعصب.

    ومن جهة أخرى، فالتصوف يوثق ويرسخ قيم الهوية الوطنية، وثقافة التعايش ومحبة الآخر والتسامح والحوار، ويعمل على تنمية روح الانتماء للوطن، والمساهمة في كل ما من شأنه المحافظة على مكتسباته واستقراره ووحدته الترابية، كما يمكنه أن يقدم نماذج قائمة سبق لها أن لعبت هذه الأدوار، وهو الظاهر من خلال كلام جلالة المغفور له الحسن الثاني طيب الله ثراه، يقول مبرزا مزايا التصوف: “إذا كان عامةُ المسلمين وخاصَّتُهم من العلماء والعارفين على تعاقب العصور والأجيال قد اهتموا بالتصوف منبعا وسلوكا، وتشبعوا به قولا وعملا، حتى أكسبهم ما أكسبهم من القوة والصلاح، فإنهم اليوم في أمس الحاجة إلى هذا الاهتمام، والتعرفِ إلى فضائل التصوف ومزاياه، والاستمداد من الطاقة الإيمانية والأسرار الربانية الكامنة في المبادئ الصوفية، لعلاج ما آلت إليه أحوال المسلمين أفرادا وجماعات من فتور في المبادئ الخالدة، واغترار بالتيارات الفكرية المادية، واندفاع وراء سرابها الكاذب وبريقها الخادع، ووقوع في أشراك الخلاف والنزاع والصراع، ومهاوي الفرقة والشتات والإعراض من الاعتصام بحبل الله المتين”.[1]

    ومبادئُ التصوف هذه نقلها إلينا رجال عرفوا الله سبحانه وتعالى حق المعرفة، والتزموا بالإسلام في وسطيته واعتداله، وانفتاحه على الآخر، دون تزمت ولا تشدد، ولقّنوه وربّوا عليه أجيالا حملت مشعل الصلاح والهداية، والتربية على الأخلاق الأصيلة والرفيعة التي نادى بها ديننا الحنيف، وخير ما يستدل به على هذه النوعية من الرجال: مجدد التصوف بالمغرب سيدي أبي الحسن الشاذلي.

    فهو صوفي من الطراز الأول، طرازِ أئمة التصوف الإسلامي كالإمام أبي القاسم الجنيد وغيره ممن سلكوا سبيل العلم والبصيرة، فكان لهم الميراث النفيس من رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني﴾،[2] فهو لم يسع إلى مجد شخصي أو سياسي، حيث لم يكن يرغب في الخروج من عزلته التي كان سعيدا فيها بعبادة ربه، إلى أن أتاه الإذن الرباني، بأن يخرج للناس لينتفعوا به، وهذا شأن أولياء الله، ليس لهم اختيار مع اختيار الله، فقد انطوى اختيارهم في اختياره سبحانه وتعالى”.[3]

    كانت شخصيته تمثل الشخصية الإسلامية المعتدلة التي لا تتحرج عن أكل الطيبات وشرب البارد، ولبس الحسن من الثياب…، على أن تكون من كسب حلال لا شبهة فيه، فكان يعمل في الحرث والغرس والحصاد وتربية الماشية، حيث يأخذ ما يحتاج إليه ثم يتصدق بالباقي على الفقراء والمحتاجين.

    وكان رضي الله عنه يقول لتلميذه أبي العباس المرسي: “اعرف الله وكن كيف شئت، يا بنيْ برد الماء، فإنك إذا شربت الماء الساخن، فقلت الحمد لله تقولها بكزازة، وإذا شربت الماء البارد، فقلت الحمد لله استجاب كل عضو فيك بالحمد لله. ودخل عليه مرة فقير وعليه لباس من شعر فلما فرغ الشيخ من كلامه، دنا منه وأمسك ملبسه وقال: يا سيدي ما عُبد الله بمثل هذا اللباس الفاخر الذي عليك، فأمسك الشيخ ملبسه فوجد فيه خشونة، فقال: ولا عبد الله بمثل هذا اللباس الذي عليك، لباسي يقول: أنا غني عنكم فلا تعطوني، ولباسك يقول: أنا فقير إليكم فاعطوني.[4]

    وكان يقول لتلاميذه ومريديه: الزم بابا واحدا تفتح لك الأبواب، واخضع لسيد واحد تخضع لك الرقاب.[5]

    كل الذين عرفوا أبا الحسن الشاذلي أو كتبوا عنه أشادوا بعلمه وبأساليب تربيته، وبقدرته على الغور في أعماق النفس الإنسانية، ومعلوم أن مخاطبةَ الناس ودعوتَهم لإصلاح أحوالهم، وللعمل على تهذيب نفوسهم، وتنمية عقولهم ووجدانهم…، كل ذلك يحتاج إلى مواهب فطرية، وإلى تزود بالعلم والمعرفة…، لأن المربي كالطبيب لا يمكنه أن يعالج الناس بدواء واحد، لاختلاف أمراضهم البدنية…، فأبو الحسن الشاذلي رحمه الله قطع مراحل طويلة في إعداد نفسه إعدادا يؤهله لإرشاد الخلق وهدايتهم، ويؤهله للقيام بدوره التربوي والإصلاحي على أحسن وجه وأكمله، ذلكم الإعداد الذي جعله يعظم في نظر من يجتمع به، أو يتحدث إليه، ويقدر مكانته العلمية والتربوية والإصلاحية…[6]

    قام بتكوين نفسه تكوينا متينا، حيث اغترف من ينابيع علوم عصره؛ قرآنا وحديثا، وفقها، وأصولا، ولغة، وأدبا، ومنطقا، وتسلح بمعرفة آداب المناظرة والجدال، و “درس مذاهب التصوف، وتعرف على رجاله، لا من خلال الكتب فحسب، بل بالاتصال المباشر عن طريق الرحلة وامتطاء متن الأسفار مهما شقّ الطريق، وبعدت الديار. رحل بين المغرب والمشرق، واتصل بكبار العلماء، والمفكرين والعلماء والزهاد والعباد…”.[7]

    قال ابن عطاء الله السكندري: “ولقد أخبرني الشيخ مكين الدين الأسمر قال: مكثت أربعين سنة يشكل عليّ الأمر في طريق القوم، فلا أجد من يتكلم عليه، ويزيل عني إشكاله حتى ورد الشيخ أبو الحسن، فأزال عني كل شيء أشكل عليّ”.[8]     

    ولم يكن لمثل هذه الإشكالات في طريق القوم أن تزول لولا المشرب السني الوسطي المعتدل لمسلك الإمام الشاذلي في التصوف، فقد كان “يدعو إلى ضرورة العودة بالتصوف إلى الالتزام بالقرآن والسنة، محاولا في سبيل ذلك إدخال تغيير جذري في المفاهيم الصوفية التقليدية، التي طالما أُوِّلت بما يخالف ذلك المنبع الذي يتمسك به المسلمون. فأصبح الشاذلي يؤكد دوما على البعد الأخلاقي للتصوف، ويحذر مما اشتهر بين صوفية الأندلس والمشرق من طلب للخوارق والشطحات الفكرية، التي من شأنها أن تبتعد عن منطق الأصول التي تجمع المسلمين، وهي القرآن والسنة…، فجوهر التصوف –عنده- ليس في الرسوم والأشكال، وإنما هو في النوايا والأعمال، وخير العمل ما ساهم في نفع المسلمين، وساعد على وحدتهم في هذه الظروف”.[9]      

    تلكم الوحدة التي تجلت في مبادئه الصوفية الراقية التي شكلت أسس طريقته، والتي انتشرت في المشرق والمغرب على حد سواء، فقد بنيت “… على طلب العلم وكثرة الذكر مع الحضور، وكانت بهذا الاستحضار الذي هو الجمع، أسهلَ الطرق وأقربَها، وليس فيها كثير مجاهدة، لأن ما في النفس من النور الأصلي يتعاضد ويقوى بنور العلم لمن يشتغل به أو بنور الذكر، حتى يندفع به ما فيها من الرذائل، ويزداد إقبالها على حضرة القدس، وإدبارها من الدناءة، حتى تنمحق عنها بالكلية، ويحرق الذكر من القلب ما سوى المذكور…”.[10]

    كان رضي الله عنه يدعو إلى طريق الله تعالى بصبر ويقين وحكمة، وبتوسط وجمال واعتدال، دون زيغ أو خروج عن الشرع، أو هروب من التكاليف، “ومن أتاه يسأله النصيحة يوضح له أنه لا يملك القدرة على فرض شيء أو منع شيء، لأنه ليس برسول، ولأن الفرائض معلومة والمعاصي مشهورة، فليس على السائل إلا التزام جانب الشرع، وحارب كل من ادعى أنه وصل إلى مقام يُسْقط عنه التكاليف الشرعية، مبينا أن الأنبياء والمرسلين، وهم أقرب البشر إلى الله سبحانه لم ترتفع عنهم التكاليف”.[11]

    قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي: الطريق القصد إلى الله تعالى أربعة أشياء، فمن جازهن كلهن فهو من الصديقين المحققين، ومن جاز منهن ثلاثا فهو من أولياء الله المقربين، ومن جاز منهن اثنتين فهو من الشهداء الموقنين، ومن جاز منهن واحدة فهو من عباد الله الصالحين:

أولها: الذكر، وبساطه العمل الصالح، وثمرته النور.

الثاني: التفكر، وبساطه الصبر، وثمرته العلم.

الثالث: الفقر، وبساطه الشكر، وثمرته المزيد منه.

الرابع: الحب، وبساطه بغض الدنيا وأهلها، وثمرته الوصلة للمحبوب.[12]

    جمع الشاذلي في طريقته بين العلم والعمل، والقلب والعقل، والروح والجسد، في اعتدال وتناسق وتناغم بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر،  وكان ينصح بالتوسط في الأمور اعتمادا على قوله تعالى: ﴿وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا﴾، ويعلن لمريديه قائلا: “لا تسرف بترك الدنيا فتغشاك ظلمتها، أو تنحل أعضاؤك لها، فترجع لمعانقتها بعد الخروج منها بالهمة، أو بالفكرة، أو بالإرادة، أو بالحركة”.[13]

    وعلى الرغم من علو كعبه في تحصيل العلوم وتلقينها، وتفوقه في المعارف وإدراكها، فإنه لم يصنف كتبا، واعتبر تربية المريدين أفضل من تأليف الكتب وتدوين المصنفات، و “… أن كتبه هي تلاميذه، وأنه خير له أن يخرج على يديه تلميذ يفهم علومه وروحانيته، من أن يؤلف كتابا قد يقرؤه البعض أو لا يقرؤونه، وقد يفهمه البعض، ويعجز عن فهمه البعض الآخر”.[14]

    لهذا كله كُتِب للطريقة الشاذلية الانتشار والذيوع والاستمرار، “وما الأعداد الغفيرة من أتباعها في أيامنا الحاضرة إلا خير دليل على الأثر المهم الذي تركه الشاذلي ومشايخ الطريقة في هداية الناس على مر العصور. وقد تمكن هؤلاء المشايخ من إعادة كثير من المنحرفين إلى سواء السبيل، كما نجحوا في نشر الإسلام بين الوثنيين، وحافظوا على مكارم الأخلاق من الاندثار، وخففوا من الويلات التي كانت تصيب المواطنين والأمصار، وأقبلوا على العبادة والجهاد، فكانوا رهبان الليل وفرسان النهار، فنالوا إعجاب الناس ورضاء الجبار، وألفت في مناقبهم وأخبارهم الأسفار، لقد أفرغوا من قلوبهم السوى، وطردوا عن نفوسهم الهوى، وأقبلوا بكنه الهمة على المولى، قاصدين وجهه الكريم، فمنحهم بجوده وإحسانه الفتح العظيم، وجعل مأواهم برحمته جنة النعيم.[15]

    وما بلغ الإمام الشاذلي هذا المقام ولا حاز هذه المنزلة في طريق التربية الروحية إلا  لكونه شكّل مدرسة للتصوف المعتدل، ذلك التصوف الذي يستقي مبادئه من كتاب الله وسنة نبيه عليه السلام، والتخلق بأخلاق الإسلام، بعد التسلح بعلوم الشريعة، فكان مسلكه الصوفي صرخة متجددة في طريق الله تعالى، غيرت الأفكار، وصححت المفاهيم، وأعادتها إلى أصولها، “لهذا لم يكن غريبا أن يقبل عليه الناس من كل حدب وصوب، يغترفون من علمه، ويتأدبون بآدابه، ويستمعون إلى دروسه ومواعظه وتعاليمه، ويلتمسون منه الدعاء والبركة، فاتسعت حلقات دروسه، وكثر أتباعه ومريدوه، فكان إذا جلس للدرس والوعظ تحلقوا حوله بالعشرات، وإذا سار أو انتقل ساروا في ركابه بالمئات”.[16]

    وختاما، فقدشكّل التصوف عبر تاريخ المغرب المدرسة التي تُعلِّمُ الإنسان كيف يتعامل مع الأكوان، فقد أذاق الإنسان حلاوة الإسلام عبر القرون، فهو معين لا ينضب، ومفتاح عودة الأمة إلى النجاح، وهو طريق النصر، وفلسفة حياة لإسعاد النفس، يمتلك من المقومات ما يجعله قادرا على استئصال مكامن الشر، وما مسلك الإمام الشاذلي رحمة الله عليه إلا خير مثال على وسطية وجمال واعتدال التصوف…


[1] من الرسالة الملكية التي وجهها جلالة المغفور له الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه إلى المشاركين في ندوة الطرق الصوفية: دورة الطريقة التجانية. مجلة دعوة الحق، العدد 254/ربيع الثاني- جمادى الأولى 1406ھ/ يناير- فبراير1986م، ص: 5.

[2] سورة يوسف، آية 108.

[3] درة الأسرار وتحفة الأبرار في مناقب وأقوال الإمام أبي الحسن الشاذلي وتلميذه أبي العباس المرسي، محمد بن أبي القاسم الحميري المعروف بابن الصباغ، تحقيق: أنس عطية الفقي، مركز جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا للتصميم العلمي والنشر، القاهرة، د.ط، 2010، ص ص: 13-14.

[4] لطائف المنن في مناقب الشيخ أبي العباس المرسي وشيخه الشاذلي أبي الحسن، تاج الدين أحمد بن محمد بن عبد الكريم ابن عطاء الله السكندري (ت709ﮬ)، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط2، 1426ﮬ/2005م، ص: 134.

[5] القطب الشهيد عبد السلام بن بشيش، عبد الحليم محمود، دار المعارف، القاهرة، د.ط، 1997م، ص: 104.

[6] شخصية أبي الحسن الشاذلي ومكانته، عبد القادر العافية، مجلة دعوة الحق، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الرباط، المغرب،  العدد 345، ص: 5.

[7] المصدر السابق، ص: 4.

[8] لطائف المنن، ص: 63.

[9] تجليات الفكر المغربي، دراسات ومراجعات نقدية في تاريخ الفلسفة والتصوف بالمغرب، عبد المجيد الصغير، شركة النشر والتوزيع المدارس، الدار البيضاء، ط1، 1421ھ/ 2000م، ص ص: 179-180.

[10] المفاخر العلية في المآثر الشاذلية، أحمد بن محمد بن عباد المحلي الشافعي (ت بعد 1153ﮬ)، المكتبة الأزهرية للتراث، د.ط، د.ت، ص ص: 140-141.

[11] الطريقة الشاذلية وأعلامها، محمد أحمد درنيقة، المؤسسة الحديثة للكتاب، طرابلس، لبنان، د.ط، 2009م، ص: 11.

[12] رسالة الأمين في الوصول لرب العالمين، يليه الوصايا، للقطب الفرد العارف سيدي أبي الحسن الشاذلي قدس الله سره، تحقيق وتخريج وتعليق: أحمد فريد المزيدي، دار الحقيقة للبحث العلمي، القاهرة، مصر، ط1، 1430ﮬ/2008م، ص: 9.

[13] طبقات الشاذلية الكبرى المسمى جامع الكرامات العلية في طبقات السادة الشاذلية، أبو علي الحسن بن محمد بن قاسم الكوهن الفاسي (ت1347ﮬ)، وضع حواشيه: مرسي محمد علي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط2، 1426ﮬ/2005م، ص: 33.

[14] أبو الحسن الشاذلي (2)، جمال الدين الشيال، مجلة دعوة الحق، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الرباط، المغرب، العدد العاشر، السنة السادسة، صفر 1383ﮬ/1963م، ص: 12.

[15] الطريقة الشاذلية، 253.

[16] أبو الحسن الشاذلي، جمال الدين الشيال، مجلة دعوة الحق، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الرباط، المغرب، العددان  الثامن والتاسع، ذو الحجة. محرم 1383ﮬ/ ماي. يونيه 1963م، ص: 15.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق