وحدة الإحياءدراسات محكمة

تصور ديداكتيكي لتدريس النص القرآني

هذا تصور ديداكتيكي لتدريس النص القرآني أقدمه، كمساهمة في خدمة الدرس القرآني، لأساتذة وطلاب الدراسات الإسلامية في هذا الظرف التاريخي الهام الذي عقد فيه العزم على إصلاح التعليم بمغربنا العزيز.

ولقد بنيته استنادا إلى بعض النظريات الديداكتيكية الحديثة في التدريس، إذ يعتمد في خطواته المنهجية على مراقي صنافة (هارولد بلوم) الشهيرة في عملية التعلم[1]، كما وظفت بعض الخطوات الإجرائية المعتمدة في التحليل السيميائي على مستوى المضمون[2]، وفي التحليل الأسلوبي على مستوى الشكل[3]، ولقد تم توظيف هذه النظريات بصورة ملائمة لطبيعة النص القرآني المقدس، حيث تمت مراعاة بلاغة أسلوبه وسمو معانيه. وسأتناول بحول الله جانب التنظيم بعرض خطوات التصور النظرية، وجانب التطبيق بتطبيق تلك الخطوات على سورة من سورة القرآن الكريم وهي “سورة الضحى”.

أولا: الجانب النظري

تقوم منهجية هذا التصور على خمس خطوات ديداكتيكية هي: التقديم والفهم، والتحليل، والتركيب، والاستنتاج، ويمكن توضيحها بالصورة التالية:

1. التقديم

 وهي خطوة ضرورية في تدريس النص مهما كانت طبيعته، ذلك لأن التقديم يعرض للمكونات السياقية الخارجية للنص، وهذا يساعد كثيرا على فهمه فهما جيدا، وتأويله تأويلا سليما، ونقصد بالتقديم بالنسبة للنص القرآني: التعريف به، وذلك بتحديد عدد آياته وموقعيته في كتاب الله تعالى، وهل هو من السور المكية أو من السور المدنية وذكر أسباب نزوله، وتعالقه مع سور أخرى، وفضائله التعبدية…الخ.

2. الفهم

 وهي خطوة أساسية في كل قراءة وتشكل البنية السطحية للنص التي من خلالها يلج القارئ إلى البنية العميقة: ونقصد به، في هذا الصدد، شرح مفردات السورة وتعابيرها، وتفسير معانيها ولابد هنا من الاستعانة بالمعجم، وشروح المفسرين من أجل فهم السورة كما فهمها الصحابة وعلماء المسلمين رضوان الله عليهم، انطلاقا من السياق المحيط بها، ذلك لأن نصا في قداسة النص القرآني لا ينبغي أن يفهم فهما خاطئا، سيما وأن لغتنا العربية المتداولة في عصرنا قد ابتعدت عن العربية الفصحى بسبب التطور الزمني للغة، وتأثير اللهجات المحلية واللغات الأجنبية.

3. التحليل

 ويحتوي على مستويين اثنين: المستوى الشكلي والمستوى المضموني، ومن الأفضل في هذا الصدد أن نبدأ بالمضمون، فنحلل الوحدات الدلالية للسورة، فنضبط الدلالة المحورية والدلالات المتفرعة عنها، وتكشف عن التعالقات المنطقية فيما بينها، كما ندرس مختلف العناصر السردية الدلالية المكونة لها؛ والغرض من هذا المستوى الوقوف على البنية الدلالية العميقة للنص، ثم ننتقل بعد ذلك إلى الشكل فنحلل المكونات الأسلوبية للسورة ونقصد بها المتوازيات الصوتية، والإيحاءات المعجمية، والانزياحات التركيبية البلاغية، والغرض من دراسة هذا المستوى اكتشاف بلاغة القرآن الكريم الإعجازية من خلال جمالياته الأسلوبية.

4. التركيب

 يقصد به عادة في مجال الديداكتيك تلخيص النص بطريقة تبرز بنيته بصورة مكثفة ومنسجمة، ونقترح في هذا الصدد تركيب مكونات النص بطريقة (سيميائية ودينامية)، مما سيساعد كثيرا على الوصول إلى المرحلة الأخيرة في هذا التصور وهي مرحلة الاستنتاج، وذلك بتحديد المكونات التركيبية، والمكونات الدلالية، والمكونات التداولية، واكتشاف مدى تناميها فيما بينها بصورة دينامية أفقيا وعموديا من أجل تحقيق المقصدية.

5. الاستنتاج

 وهو آخر مرحلة في هذا التصور، ويعادل في المنهجيات التقليدية ما يسمى “بثمرة النص”، غير أن الفرق بين الاستنتاج في هذا التصور وغيره، هو أنه هنا بمثابة عملية علمية منطقية يستخلص من خلال الخطوات المنهجية السابقة، ونتيجة حتمية لها، ويتم بصورة عملية إجرائية، وفي التصور التقليدي يدرك عن طريق الحدس الشخصي وتخمين المتلقي؛ والغرض من الاستنتاج معرفة مقصدية النص والغاية التي يرمي إليها؛ والمقصدية نوعان: صريحة وهذه تستخلص من ظاهر العبارة، وضمنية وهذه تستخلص عن طريق التضمين والاقتضاء[4].

ثانيا: الجانب التطبيقي 

1. التقديم

 سورة الضحى التي سنتخذها نموذجا تطبيقيا لهذا التصور الديداكتيكي هي قوله تعالى: ﴿والضحى والليل إذا سجى، ما ودعك ربك وما قلى وللآخرة خير لك من الأولى، ولسوف يعطيك ربك فترضى، ألم يجدك يتيما فئاوى، ووجدك ضالا فهدى، ووجدك عائلا فأغنى، فأما اليتيم فلا تقهر، وأما السائل فلا تنهر، وأما بنعمة ربك فحدث﴾، صدق الله العظيم، وبلغ رسوله المصطفى الكريم.

والسورة الكريمة تحمل رتبة الثالثة والتسعين بين سور القرآن الكريم، وتحتوي على إحدى عشرة آية، وهي من السور المكية التي تتسم بقصر الآيات والأسلوب الخطابي، والطابع الدفاعي، والمضمون العقدي… الخ. ومما يذكر في فضائلها أنه يستحب التكبير عند قراءتها، ويذكر القراء أن ذلك سنة مأثورة عن الرسول، صلى الله عليه وسلم، ويعزونه إلى أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، كبر فرحا وسرورا حينما جاء الملك وأوصى إليه بها، وكان قد أبطأ عليه مدة، وورد في أسباب نزولها روايتان، الأولى تقول بأن النبي  ـ صلى الله عليه وسلم ـ اعتل فلم يقم ليلة أو ليلتين، فأتت امرأة من المشركين، فقالت: يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك، فأنزل الله تعالى سورة الضحى، وجاء في الرواية الثانية، أن الوحي فتر عن النزول مدة على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال المشركون: ودع محمدا ربه، فأنزل الله تعالى سورة الضحى. وإذن فهذه السورة نزلت في سياق تأكيد الرعاية الإلهية لنبيه محمد، صلى الله عليه وسلم، وفي إطار الرد على أقوال المشركين الباطلة ودحض مزاعمهم الواهية، وبالتالي فإنها تتعالق مع آيات أخرى وردت في نفس السياق، ومنها قوله تعالى: ﴿إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار، إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا، فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا، والله عزيز حكيم﴾ [التوبة: 40]. كما تتعالق مع سور أخرى على مستوى الصياغة، وهي السور المفتتحة بالقسم[5].

2. الفهم

 استهلت السورة بأسلوب القسم، ويتكون من: أداة القسم هي (الواو)، ومقسم به هو (الضحى والليل إذا سجى)، والمقسم به الثاني مقيد بالشرط الظرفي، والمقسم عليه هو (ما ودعك ربك وما قلى)، والضحى وضح النهار، وسجى الليل: إذا أظلم واسود، والوداع والقلى: الترك والبغض، ثم بعد ذلك بشر الله تعالى نبيه، صلى الله عليه وسلم، بأن ما ينتظره في الدار الآخرة من نعم خير له من الدار الأولى (الدنيا)، وأنه تعالى سوف يغدق عليه من نعمه حتى يجعله راضيا مسرورا، وقيل من تلك النعم نهر الكوثر وقصور الجنة، والشفاعة في أمته…إلخ، وغيرها من النعم التي أعدها الله تعالى لمحمد، صلى الله عليه وسلم، وللمؤمنين من أمته ثم عدد بعض ما أنعم عليه من نعم في الدنيا، حيث كان، صلى الله عليه وسلم، يتيما فأواه بأن هيأ له كفالة جده عبد المطلب ثم من بعده عمه أبي طالب، وكان ضالا فهداه، وللضلال هنا معنيان: معنى مادي، فلقد قيل بأن النبي، صلى الله عليه وسلم، ضل الطريق في إحدى شعاب مكة ثم رجع، وهو صغير من نفسه، بإلهام من الله تعالى، وقيل أيضا: إنه كان مسافرا، صلى الله عليه وسلم، ليلا في إحدى الرحلات إلى الشام، فأضله “إبليس” عن الطريق، فجاء “جبريل” عليه السلام، فنفخ عليه نفخة رمته في الحبشة، ثم وجه الراحلة إلى الطريق السليم، وأما المعنى المعنوي فيكمن في كون المقصود بالضلال الحالة التي كان عليها الرسول صلى الله عليه وسلم عندما كان يتعبد في غار حراء قبل نزول الوحي، كما يستنتج من الآية الكريمة: ﴿وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان، ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا، وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم﴾ [الشورى: 52].

والمقصود بالهداية القرآن الكريم وما يحتويه من عقيدة الدين الإسلامي الحنيف، وكذلك الشأن بالنسبة للغنى له معنيان أيضا: الغنى المادي حيث صار الرسول، صلى الله عليه وسلم، غنيا بما هيأ له الله تعالى من أرباح في تجارة الشام، والغنى المعنوي الذي هو غنى النفس والرسالة الإسلامية، ومعنى عائلا: فقيرا ذا عيال، ثم بعد ذلك أمره الله تعالى بأن يعطف على اليتيم ولا يذله، وأن يحسن إلى السائل ويجيبه على سؤاله بلطف، سواء كان السائل بمعنى الذي يسأل عن العلم والمعرفة، أو بمعنى المتسول الذي يطلب الصدقة، كما أمره تعالى بأن يتحدث بنعم الله عليه ويذكرها ويشكره عليها، ويتضمن الحديث بنعمة الإسلام الدعوة إليه، كما يتضمن شكر النعمة طاعة لله في أوامره واجتناب نواهيه.

3. التحليل

أ. المضمون (البنية الدلالية)

تتكون السورة الكريمة من خمس وحدات دلالية هي:

  1. تقرير استمرار الرعاية: ﴿والضحى والليل إذا سجى ما ودعك…﴾.
  2. الوعد بالرعاية المستقبلية: ﴿وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف…﴾.
  3. التذكير بالرعاية الماضية: ﴿ألم يجدك يتيما فأوى ووجدك ضالا…﴾.
  4. التكليف برعاية الضعفاء: ﴿فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر﴾.
  5. الأمر بالتحدث بنعمة الرعاية: ﴿وأما بنعمة ربك فحدث﴾.

وأول ما يثير الانتباه هو تكرار “دلالة الرعاية” في الوحدات كافة، ومعنى هذا أن العنصر الدلالي المهيمن أو مفتاح النص هو “الرعاية” فهذه الرعاية ترد في مفتتح السورة على وجه (الخصوص) في سياق القسم ما يزكي محوريتها، ثم تتردد بعد ذلك على وجه العموم في سياقات الوعد والتذكير والتكليف وتنتهي على وجه (الاستنتاج) في الاختتام في سياق الأمر بالتحدث بالنعمة، وإذن فهناك تعالق نصي بين الآيات جميعا، فهي متعالقة بعلاقة منطقية هي على التوالي:

(الخصوص ← العموم ← النتيجة) أما على مستوى الزمن فهي تنطلق من الحاضر (تقرير الرعاية)، ثم تنتقل إلى المستقبل (الوعد بالرعاية)، وتعود إلى الماضي (التذكير بالرعاية ثم تستقر في الحاضر (التكليف بالرعاية والأمر بالتحدث بالنعمة)؛ والملاحظ أن الزمن الواقعي للسورة الكريمة مساير للزمن الشعوري للرسول، صلى الله عليه وسلم، إذ كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حالة قلقة ينتظر (الرعاية/ الوحي)، فأكد الله تعالى له استمرارها في مفتتح السورة ليطمئنه، ثم بعد ذلك بشره بالرعاية المستقبلية ليحدث السرور في نفسه، ثم ذكره بالرعاية الماضية منذ مرحلة طفولته إلى مرحلة البعثة، ليثير حنينه إلى ماضي الرعاية، وبعد أن مهد بالطمأنينة وثنى بالسرور والحنين، حيث تكون النفس مستعدة للتقبل، عقب بالتكليف والأمر من جنس ما أنعم به تعالى عليه، صلى الله عليه وسلم، مما جعل التكليف والأمر عمليتين مرتبتين على ما سبق من رعايته إياه وتفضله بالنعم عليه، وهو ما يجعل النفس تقبلهما بكل شوق وسرور وعن اقتناع ورضى، ويلاحظ أيضا على المستوى العمودي والمحوري ثنائية دلالية متباينة تسري في كل بنية السورة الكريمة، وتتمحور حولها كل الدلالات المتفرعة، هي ثنائية: (الرعاية/القلى)؛ يتجلى ذلك منذ مفتتح السورة، فعلى مستوى القسم هنالك (الضحى/الرعاية) مقابل (الليل/القلى)، وعلى مستوى الوعد هنالك: (الآخرة/الثواب) مقابل (الأولى/المعاناة)، وعلى مستوى التذكير هنالك: (اليتم والضلال والفقر/ المعاناة والتيه والحرمان مقابل (الإيواء والهداية والغنى)، وكذلك الشأن بالنسبة لمستوى التكليف: (اليتيم والسائل والنعمة)، مقابل (لا تقهر ولا تنهر ولا تتنكر)، فالقضية إذن قضية: (ضحى ← أمل ← رعاية ← هدى) (ليل ← يأس ← قلى ← ضلال)

وتجدر الإشارة إلى أن هذا التعالق المنطقي والتمحور الدلالي على المستويين الأفقي والعمودي، وهذا الانسجام بين الزمن الواقعي والزمن النفسي، وما يتضمنه من تحفيز تراتبي على مستوى السلوك الإرادي، وتلاحم كل هذه العناصر: (العقل، والسلوك، والإرادة) التي تتكون منها شخصية الإنسان جعل الخطاب موجها لهذه العناصر بصورة متكاملة كما أكسب السورة التماسك والوحدة العضوية بالإضافة إلى الوحدة الموضوعية، وهذه الطريقة في صياغة الخطاب وفي المخاطبة من الإعجاز بمكان.

ب. الشكل (الصياغة الأسلوبية)  

المستوى الصوتي

 تهيمن على السورة الكريمة الأصوات القوية مسايرة مع الحالة النفسية للرسول صلى الله عليه وسلم، سواء عندما فتر نزول الوحي، وهي حالة قلق وحيرة، أو بعد مواصلة نزول الوحي، وهي حالة بهجة وفرح، فكلتا الحالتين تتطلبان قوة على مستوى الصواتة، فالملاحظ أن معظم الحروف مجهورة كما أن معظم المقاطع ممدودة ومعظم الكلمات منبورة، أما النغم فيبدأ صاعدا في الوحدة الأولى كما يؤشر على ذلك أسلوب القسم والكلمات المنبورة: (الضحى، الليل، ودعك، ربك)، وهذا الصعود في النغم مساير لدلالة تقرير استمرار الرعاية وتأكيدها، ثم ينزل النغم في صوت الوعد، حيث يرد نبر واحد في كلمة (ربك)، وكذلك في صوت التذكير إذ يرد النبر في كلمة (ضالا)، ويصعد من جديد في الختام كما يؤشر على ذلك تكرار كلمة (أما) المنبورة ثلاث مرات، كما يرد النبر في كلمة (فحدث) في مختتم السورة، وتبئيرها يساير فاصلة السورة ومقصديتها، كما أن تبئير كلمة (الضحى) كان مسايرا لمستهل السورة ومفتاحها.

ويلاحظ في السورة أيضا عدة متوازيات صوتية داخلية وخارجية، فعلى المستوى الداخلي نلاحظ جرسا موسيقيا بين صوائت وصوامت الكلمات ومن ذلك: (الآخرة/ خير)، و (لك/الأولى)، وتجانس أصوات حرف الكاف في الآيات، وكذلك الشأن بالنسبة لحرف اللام، ونلاحظ أيضا الطباق بين الليل والضحى، والآخرة والأولى، والضلال والهدى؛ والتكرار في عدة حالات مثل (ربك)، (ووجدك)، والجناس في (فلا تقهر، ولا تنهر، أما المقابلات المتوازية فكثيرة كما يتضح في الآيات الأخيرة. ومما حقق للسورة الكريمة الموسيقى الخارجية كونها مبنية على الترصيع في تقسيماتها ومؤسسة على الألف المقصورة في سجعاتها، ما عدا في الآيات الأخيرة والفاصلة، فجاءت مغايرة، حيث استبدلت الألف المقصورة التي توحي بالامتداد الذي يساير الاستمرار في الرعاية ونزول الوحي بالراء المجهورة المقيدة التي توحي بالنهي، بخلاف حرف التاء المقيد الذي ورد في الكلمة الأخيرة، الذي يوحي بالأمر وبالتبليغ، باعتبار أن التاء من الحروف التي تخرج من طرف اللسان الذي هو وسيلة التحدث بالنعمة، كما أن هذا الانزياح عن الألف المقصورة والراء المقيدة يعكس أهمية هذه الجملة بالذات، إذ تشكل المقصدية من السورة بأكملها وتكثف كل معانيها وهي الأمر بالحديث بالنعمة أي تبليغ الرسالة والدعوة الإسلامية.

المستوى المعجمي

 فيلاحظ أن السورة تحتوي على معجم ذي إيحاءات دلالية وتوازيات صوتية، فالضحى والليل مثلا لهما دلالتان دلالة الحضور (المعجمية)؛ تتجلى من خلال عظمة وحكمة زمني الضحى والليل في ناموس الكون، ودلالة الغياب (الإيحائية)؛ تتجلى من خلال إيحائهما بالحالة النفسية التي كان عليها الرسول صلى الله عليه وسلم وهو ينتظر تواصل نزول الوحي بين الأمل وكشف الغمة (الضحى والوضوح)، واليأس والغم (الليل والغموض)، ولا تخفى ما توحي به المقاطع الممدودة في كلمات: (اليتيم، السائل، العائل) من ضعف وإثارة العطف، أما المتوازيات الصوتية فلا حصر لها وسبق الإشارة إليها في المستوى الصوتي، كما روعي أيضا حسن اختيار المعجم على مستوى المفردات وحسن توزيعها على مستوى التراكيب “فالآخرة تقابلها الأولى، والعطاء يعقبه الرضى، والوداع ينجم عنه القلى، والضحى يأتي بعده الليل، وسجى تناسبها قلى صوتيا ودلاليا، وهكذا دواليك مما يطول سرده بالرغم من صغر السورة الكريمة.

مستوى التراكيب البلاغية

 فالسورة تتكون من عدة أساليب وتراكيب بلاغية وردت في صورتين رئيسيتين: إخبارية (تقريرية) وإنشائية (طلبية).

الأسلوب الأول؛ هو أسلوب القسم حيث يقسم الله تعالى بالضحى والليل لعظمتهم، وهو قسم غير معهود في الأسلوب العادي، مما يثبت نسبته إلى الله تعالى بصورة مباشرة، وقد تقدم القسم بالضحى (الوضوح) على الليل (الغموض) لتعجيل المسرة والإيحاء بالأمل، كما أن المقسم عليه ورد في سياق النفي (نفي الوداع والقلى) لإزاحة ما في النفس من يأس وحيرة.

الأسلوب الثاني؛ أسلوب الوعد، حيث وعد الله تعالى نبيه، صلى الله عليه وسلم، بالرعاية المستقبلية وبالعطاء والثواب فترضى نفسه، وورد هذا الوعد في صورة التوكيد أيضا كما يدل على ذلك (اللام مع الآخرة) و (لسوف) ولقد تقدمت الآخرة على الأولى على غير عادة التسلسل المنطقي وذلك لتفضيلها على الأولى (الدنيا) وتبشير النبي صلى الله عليه وسلم بنعمها.

الأسلوب الثالث؛ أسلوب التذكير بالماضي، وهو أسلوب خبري تقريري يندرج في سياق (فائدة الخبر)، حيث يكون كل من المتكلم والمخاطب يعرفان حقيقة الخبر، لكن يذكر المتكلم المخاطب بالخبر لأن هذا الأخير غفل عنه، ولقد ورد في صورة استفهام إنكاري، ولا يراد به الطلب وإنما يراد به تنبيه المخاطب إلى ما غفل عنه.

والملاحظ في الأساليب الخبرية الثلاثة أنها وردت مؤكدة فأسلوب القسم وتكرير المقسم به، واستعمال لام التوكيد، وكلمة “لسوف” وهذا الاستفهام الإنكاري كلها مؤشرات على أن المخاطب كان في حالة تردد، ولذلك وجه إليه الخبر من النوع الطلبي الذي يحتوي على مؤكد واحد في كل أسلوب، ولقد جاء الخبر بهذه الصورة ليناسب  الحالة النفسية التي كان عليها الرسول صلى الله عليه وسلم، فلقد كان مترددا بين اليأس والأمل حول عملية استمرار نزول الوحي.

الأسلوب الرابع؛ أسلوب التكليف، وهو أسلوب إنشائي طلبي جاء في سياق: النهي والأمر، وفي صورة الشرط والتفصيل بأما التي تتطلب الجواب بالفاء مما يؤشر على توكيد الطلب، مسايرة مع الأساليب الخبرية الطلبية المؤكدة السابقة، فالملاحظ أن كل الأساليب وردت على وجه التأكيد نظرا لأهمية الحدث، كما أنها وردت بصورة انزياحية غير عادية، فالقسم في سياق النفي، والوعد في سياق التفضيل، والتذكير في سياق الاستفهام الإنكاري، والتكليف في سياق الشرط التفصيلي، وهذا ما يؤشر على انزياح حالة الرسول صلى الله عليه وسلم النفسية فلقد كانت غير عادية، حالة قلق وحيرة وحرج بسبب فتور نزول الوحي كما سبق ذكره.

ومن التجليات البلاغية في السورة الكريمة ظاهرة الإيجاز، وقديما قيل “البلاغة الإيجاز” فنظرا لأهميته البلاغية حصروا البلاغة فيه، ويكمن الإيجاز في السورة من خلال قوله تعالى: ﴿وللآخرة خير لك من الأولى﴾، وقوله: ﴿ولسوف يعطيك ربك فترضى﴾، وقوله: ﴿وأما بنعمة ربك فحدث﴾، فهذه الآيات على قصرها تتضمن معاني كثيرة جدا، فالآخرة قد تعني الدار الآخرة وقد تعني ما تأخر من حياة الدنيا، وكذلك الحال بالنسبة للأولى هل الأمر يتعلق بالدار الدنيا أو بما سبق من حياة الدنيا فقط، ولفظة خير تحصر خيرا كثيرا على المستوى الكم والكيف، والمادي والمعنوي، وكذلك الشأن بالنسبة للعطاء والرضى، والحديث بالنعمة يعني الشكر والحمد والحفاظ والصون والتسخير والتوظيف، والنشر والدعوة، والطاعة والرضى…

ويزداد الإيجاز كثافة في الآيات التي توجز حياة الرسول صلى الله عليه وسلم عبر مراحلها الطويلة في قوله تعالى: ﴿ألم يجدك يتيما فآوى، ووجدك ضالا فهدى، ووجدك عائلا فأغنى﴾، ويوجد إيجاز آخر في قوله تعالى: وما قلى فمعيار اللغة يجعل الجملة هكذا: ﴿ما ودعك ربك وما قلاك﴾ ولكن حذفت (ك) لغرض بلاغي هو، أولا تحقيق الإيجاز، وثانيا تحقيق السجع.

ومن التجليات البلاغية من السورة الكريمة ما يسميه علماء البلاغة بالإبداع، وهو أن يأتي في الجملة الواحدة عدة ضروب من البديع[6] ولقد ورد هذا في قوله تعالى: ﴿ألم يجدك يتيما… وأما بنعمة ربك فحدث﴾، فهذه الآيات الكريمات تحتوي على عدة ضروب بديعية منها: حسن المقابلة وحسن الترديد، وحسن التفصيل، وحسن الترصيع في الآيات الثلاث الأولى، وحسن التسميط في الآيات الثلاث الأخيرة، هذا بالإضافة إلى التكرار مع الإيجاز.

– أما على مستوى المؤشرات التداولية، فيلاحظ في السورة الكريمة عدة مؤشرات، منها ما يتعلق بالضمائر: وأولها الضمائر العائدة إلى الله سبحانه وتعالى ثم الضمائر العائدة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ويوجد أيضا ضميران عائدان إلى اليتيم والسائل، وهناك تعالق بين هذه الضمائر كافة، إذ تتمحور حول: عنصر الرعاية، رعاية الله لنبيه ورعاية النبي للعباد، وبالتالي فهنالك أيضا رعاية ضمنية تتعلق برعاية العباد لبعضهم البعض، ومن تلك المؤشرات أيضا ما يندرج في إطار الأفعال الإيجازي، وتتجلى في الآيات الأخيرة حيث يكلف الله نبيه مرتين بصورة النهي ومرة واحدة بصورة الأمر، وتوجد مؤشرات أخرى ضمنية كالوعد في قوله تعالى: ﴿ولسوف يعطيك ربك فترضى﴾ والتحفيز من خلال هذا الوعد بالثواب، والإقناع من خلال التذكر بالرعاية الماضية.

4. التركيب  

تبين مما سبق أن كلا من الصوت والمعجم والتركيب والمؤشرات التداولية تخدم الدلالة العامة للسورة الكريمة، فقد سبقت الإشارة إلى أن الإيقاع الصوتي العام قوي، وقلنا بأن هذه القوة الإيقاعية تناسب قوة الحدث، وأن المعجم يوحي بالحالة النفسية العامة التي كان عليها الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن التراكيب منزاحة عن التراكيب العادية، وهذا يدل على صدور الخطاب عن الله تعالى بصورة مباشرة، كما يؤشر على غرابة الحدث (فتور نزول الوحي، وقلق الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما أن المؤشرات التداولية تزكي دلالة الرعاية وتبرز الحالة النفسية للرسول صلى الله عليه وسلم.

ويمكن توضيح التنامي الحاصل بين كل من التركيب والدلالة والتداول بالصورة التالية:

تصور ديداكتيكي لتدريس النص القرآني

5. الاستنتاج

من خلال البنية التركيبية للسورة يتجلى بوضوح أن المقصدية الحورية لهذه السورة الكريمة هي: تقرير استمرار رعاية الله تعالى لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفي هذه الحالة يتجلى في استمرار نزول الوحي، لأن هذا الاستمرار في حد ذاته هو نوع من الرعاية، كما أنه سبحانه وتعالى يأمر بتبليغ الرسالة الإلهية لعباده وهذا التبليغ هو أيضا من طلب هذه الرعاية، فالدين الإسلامي الحنيف إذن إنما هو رعاية الله تعالى لعباده بواسطة نبيه، فمن اتبعه شملته رعاية الله، ومن لم يتبعه حرم منها وكتب عليه الشقاء في الدنيا والآخرة. وبالإضافة إلى هذا الاستنتاج المحوري هنالك استنتاجات أخرى فرعية نذكر منها:

  1. طمأنة الرسول صلى الله عليه وسلم باستمرار نزول الوحي ورعايته إياه، وتبشيره بالثواب في الآخرة.
  2. إفحام الكفار، ودحض مزاعمهم، وتخييب آمالهم.
  3. النهي عن قهر الأيتام، ونهر المتسولين، وجحود النعمة، ونكران الجميل.
  4. الدعوة إلى التدبر في عظمة الله سبحانه وتعالى من خلال خلقه للظواهر الطبيعية (الضحى والليل…)
  5. يجب على المؤمنين أن يراعى بعضهم بعضا، وأن يتحدثوا بنعم الله وينشروها بين الناس كافة وفي مقدمتها نعمة الإسلام.

انظر العدد 17 من مجلة الإحياء

تصور ديداكتيكي لتدريس النص القرآني

الهوامش

  1. محمد الدريج، تحليل العملية التعليمية، البيضاء: مطبعة النجاح الجديدة، 1988.
  2. محمد مفتاح، دينامية النص، بيروت–البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط1، 1987.
  3. صلاح فضل، علم الأسلوب، بيروت: دار الوفاق الجديدة، ط1، 1985.
  4. أرمينكو، المقاربة التداولية، ترجمة: سعيد علوش، البيضاء: المؤسسة الحديثة للنشر والتوزيع، ط1، 1987.
  5. أمثال سور: البروج، والطارق، والفجر، والبلد، والشمس، والليل، والتين، والعاديات، والعصر.
  6. ابن أبي الإصبع المصري، بديع القرآن، تحقيق: حنفي محمد شرف، القاهرة: دار نهضة مصر للطبع والنشر، ط2، ص340.
Science
الوسوم

د. عبد الواحد بنصبيح

المدرسة العليا للأساتذة-تطوان 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق