وحدة الإحياءدراسات محكمة

تصورات المعرفة الإسلامية: قراءة في السياقات والتحولات

نظرية المعرفة مبحث قديم قِدَم التفلسف، وإن لم تُفرَد له الأبحاث المستقلة إلا منذ الفيلسوف الإنجليزي جون لوك (ت1704م)، الذي كان أول مَن حاول وضع هذا المبحث في صورة العلم المستقل في نهاية القرن السابع عشر(1690م) في كتابه “مبحث في الفهم الإنساني”[1]، ومع ذلك لم يظهر مصطلح “نظرية المعرفة” إلا في القرن التاسع عشر، وأقدمُ تاريخ يقدمه الباحثون في هذا الصدد يرجع إلى عام 1832م حيث أشار إلى هذا المصطلح راينهولد في كتاب له بعنوان “نظرية ملكة المعرفة الإنسانية والميتافيزيقا”، ثم توالت الدراسات بعدها وتَعَمّق البحث في المعرفة في الفكر الغربي[2].

وعادة ما تتوجه الأبحاث حول نظرية المعرفة إلى التقسيمات المعروفة في الفلسفة الغربية الحديثة والتي تشتمل على محاور ثلاثة هي: إمكان المعرفة،وطبيعة المعرفة، وطرق المعرفة أو مصادر المعرفة وأدواتها، وهي تقسيمات مرتبطة بظهور مشكلة المعرفة في العصر الحديث.

ففي إمكان المعرفة يتم بحث السؤال التالي: هل المعرفة ممكنة أو غير ممكنة؟ وهنا يتم التعرض، عادة، لمسألة الشك واليقين في المعرفة لتقرير أن المعرفة ممكنة ومركوزة في فطرة الإنسان، وعنها نشأت الرغبة في المعرفة والبحث عن الحق، بخلاف مَن أنكر إمكانها ممن عُرفوا في تاريخ الفلسفة باسم السوفسطائيين أو الشكّاك.

وبعد أن يتم تقرير أن المعرفة ممكنة وقائمة على اليقين، يتم بحث المحور الثاني من نظرية المعرفة وهو طبيعة تلك المعرفة من خلال تحديد العلاقة الفكرية والعلمية بين الشخص العارف والشيء المعروف، وتفسير عملية المعرفة، عن طريق بحث جملة من التساؤلات من قبيل هل تلك الأفكار التي لديه عن الأشياء أصيلة وفطرية أم أنها طارئة عليه ومكتسبة؟ فإذا كانت فطرية فما العلاقة بين وجود تلك الأفكار ووجود الأشياء؟ أي علاقة المعرفة بالوجود؟ وإذا كانت مكتسبة فما مصدر تلك الأفكار؟ ثم إن تلك المعرفة الفطرية والمكتسبة هل هي معرفة بماهيات وحقائق أم معرفة بصورة عنها ومثال وشبيه؟ وهل هي معرفة بكليات الأشياء أم بجزئياتها؟ وكيف نكتسب تلك المعرفة؟ وهل الذات العارفة هي محور العلاقة المعرفية بالأشياء (كما هو مذهب المثاليين)، أم الواقع والوجود الخارجي هو محور المعرفة ونحن نتصل به من خلال الإدراك (كما هو مذهب الواقعيين)؟. ثم هل هذه المعرفة نسبية أم مطلقة؟ وما مقاييس صواب المعرفة؟

ثم يأتي، بعد ذلك، كله البحث في المحور الثالث وهو طرق المعرفة وأنواعها؛ كالعقل والحس والحدس وغيرها، والبعض يضيف إلى ذلك الحديث عن أصل المعرفة ومنبعها خاصة من وجهة نظر البحث الديني.

لكن لابد من القول إن القدماء أثاروا مسائل مختلفة حول المعرفة، وقد استمرت النقاشات المختلفة حول تلك المسائل وصولاً إلى العصر الحديث الذي شهد إفراد مشكلة المعرفة بالبحث والتأليف وفق مسالك مختلفة، بعضها مقاربات فلسفية عامة[3] أو خاصة بعلَمٍ من الأعلام، كأرسطو وابن سينا وابن رشد وغيرهم[4]، وبعضها مقاربات عُنيت باستخراج أصول المعرفة من القرآن الكريم، في سياق الحديث عما سُمي بأسلمة المعرفة[5].

أولا: الصياغة الإسلامية لنظرية المعرفة

ذكر أبو هلال العسكريُّ أن واصلَ بن عطاء (131هـ) المعتزلي هو “أول من قال: الحق يُعرف من وجوه أربعة؛ كتاب ناطق، وخبر مجتَمَع عليه، وحجةُ عقلٍ، وإجماعٌ”، و”أول من قال: الخبر خبران، خاص وعام، فلو جاز أن يكون العام خاصًّا جاز أن يكون الخاص عامًّا، ولو جاز ذلك لجاز أن يكون الكل بعضًا والبعض كلاًّ، والأمر خبرًا والخبر أمرًا، وأولُ من قال: إن النسخ يكون في الأمر والنهي دون الأخبار”[6]، وإذا صحّ كلام العسكري فإن هذا النص شديد الأهمية؛ لجهة أنه “أول محاولة عربية إسلامية لصياغة نظرية في المعرفة، أو بالأحرى في مصادر المعرفة، إذا رأينا تغاضيها عن تحديد ماهية المعرفة نقصًا مؤثّرًا”[7].

ومع أن واصل أول مَن نعرفه قال هذا، لا يمكن التسليم بكون هَمّ تأسيس تَصَور للمعرفة وبنائها همًّا شخصيًّا بعيدًا عن هموم ذلك العصر في القرن الثاني الهجري؛ فنحن نعرف أن عبيد الله بن الحسن العنبري (168هـ) قاضي البصرة قال في كتابٍ طويلٍ إلى المهديّ: “فأما الأحكام فإن الحكم بما في كتاب الله، ثم بما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يوجد ذلك في كتاب الله، ثم ما أجمع عليه الأئمة الفقهاء إن لم يوجد ذلك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم اجتهاد الحاكم، فإنه لا يألو إذا ولاه الإمام ذلك مع مشاورة أهل العلم”[8].

وهو ما يُعتبر أول نصّ نقف عليه في تحديد مصادر التشريع والأحكام، فقد كانت تلك انشغالاتِ وهموم علماء القرن الثاني الهجري التي توّجها الإمام الشافعي (204هـ) في وضع رسالته المعروفة التي يقول فيها: “جهةُ العلم الخبرُ: في الكتاب، أو السنة، أو الإجماع، أو القياس”[9]، وجادل فيها طويلاً في حجية خبر الواحد في مقابل الخبر المجتَمَع عليه لدى واصل.وأحسب أن “السنة” في كلام عبيد الله العنبري هي السنة العملية أو ما عليه العمل؛فتكاد تقترب من الخبر المجتَمَع عليه، لينفرد الشافعي بمسألة الدفاع عن خبر الواحد وحجيته.

وقد قرأ بعض الباحثين[10] الخبر المجتمع عليه هنا على أنه “التجربة التاريخية للأمة”؛ لأنه يُحيل إلى السنة العملية التي يأتم بها آلاف الناس ويطبقونها في حياتهم بحيث تصبح عادةً اجتماعية، ومن هنا رجحها مالك على الحديث فيما إذا خالفت عمل أهل المدينة.

لم تتوقف هموم البحث عن مصادر تشكيل المعرفة عند هذا الحدّ؛لأن مقالة بل مقالات واصل بن عطاء تركت أثرًا كبيرًا، فيما يبدو، على المناقشات فيما بعد، فنحن نعرف أنه مؤسس فرقة المعتزلة في النصف الأول من القرن الثاني، وأن مذهب الاعتزال تَوَزّع على فترتين؛ فترة غير فلسفية وفترة فلسفية، ففي الفترة الأولى السابقة على التأثر بالفلسفة استخدم المعتزلة مناهج توصف بأنها “مناهج الكلام”، ذلك أنه وُجد منهج كلامي في الاستدلال قبل نشأة الاعتزال مؤلَّفٌ من المنهج القياسي الفقهي (وقياس النظير في الفقه يعني التشابه في جانب أو جوانب بين أشياء غير متشابهة في سائر الجوانب)، الذي طُبّق في بادئ الأمر على آيات التشبيه في القرآن بتأويلها على مقتضى صيغة “جسم لا كالأجسام”.

أما الفترة الفلسفية فقد بدأت مع أبي الهذيل العَلّاف (135-226هـ) الذي اتبع رأي الفلاسفة، كما يقول ابن خلدون،وكذلك النظّام (231هـ) الذي “طالع كتب الفلاسفة”. وهذه المرحلة، أعني الكلام الاعتزالي الفلسفي، بدأت مع ترجمة الأعمال الفلسفية اليونانية إلى العربية، التي تَعَلّم منها المعتزلة منهج القياس المنطقي، كما تعلموا استخدامًا جديدًا لمنهج القياس التمثيلي، وكان هذان المنهجان الفلسفيان في الاستدلال مختلفَين عن المنهج الكلامي القائم على قياس الشَّبَه، في أن كليهما يقيمان استدلالاتهما على معطيات فلسفية، على حين أن النهج الكلامي القياسي يقيم استدلاله على معطيات دينية، وفيما يتعلق بالاستخدام الفلسفي للقياس، بمعنى التمثيل، فإنه كان مختلفًا عن الاستخدام الكلامي له في أنه كان قائمًا على أساس التساوي في النِّسَب على حين قام الاستخدام الكلامي للقياس على مجرد التشابه بين الأشياء [11].

فالقياس الفقهي صار اسمه التمثيل، واستأثر القياس الفلسفي بمصطلح “القياس”، ولهذا نجد ابن سينا (428هـ) حين أشار إلى القياس والاستقراء والتمثيل قال: “أصنافُ ما يُحتج به في إثبات شيء لا مرجع فيه إلى القبول والتسليم، أو فيه مرجع إليه لكنه لم يرجع إليه، ثلاثةٌ: أحدها القياس، والثاني الاستقراء وما معه، والثالث التمثيل وما معه”، ثم قال: “وأما التمثيل فهو الذي يعرفه أهل زماننا بالقياس”[12]، ثم جاء الغزالي (505هـ) فقال: “الحجة إما قياس وإما استقراء وإما تمثيل، واعتبار الغائب بالشاهد يسمى مثالاً ويدخل فيه”[13] وذكر أن التمثيل هو الذي يسميه شيوخ الفقه وشيوخ الكلام القياس.

ثانيا: نظرية المعرفة وتعدد المقتربات: الاعتزال، والتصوف، وعلم الكلام والأصول

وفي مقابل التوجه الاعتزالي قدّم الحارث المحاسبي (243هـ) أطروحة نقدية وضح فيها ماهية العقل ووظيفته وحدود عمله؛ لأنه أساس الحديث عن “الحجة” أو “حجة العقل”، فالعقل عنده “غريزة يولَد العبد بها ثم يزيد فيه، معنى بعد معنى، بالمعرفة بالأسباب الدالة على المعقول، وقد زعم قوم أن العقل معرفةٌ نظمها الله ووضعها في عباده، يزيد ويتسع العلمُ بالمكتسَب الدالّ على المنافع والمضارّ”، ثم يقرر المحاسبي أن “الذي هو عندنا أنه غريزة والمعرفة عنه تكون”[14].

وهي محاولة نقدية لصياغة رؤية مختلفة للمعرفة المتولدة عن العقل، فإذا “كان العقل ساريًا في الإنسان لا ينفصل عنه فما الحاجة إلى فصله عن سياقه الجمعي، وما الحاجة إلى الحديث عن خبر آحاد أو خبر مجتمَع عليه أو حتى إجماع؟. إن القضية في حالة كهذه وفي سياق فهم كهذا لا بد أن تستوي للنظر من مستوى مختلف تمامًا”[15]، ولهذا نجد المحاسبي يقرر بشكل حاصرٍ أن “الحجة حجتان؛ عيان ظاهر، أو خبر قاهر، والعقل مُضَمَّن بالدليل، والدليل مُضَمَّن بالعقل، والعقل هو المستدِلّ، والعيان والخبر هما علة الاستدلال وأصله”[16]. فالمحاسبي يقرر، إذن، مصدرين للمعرفة؛ الحواس ومدرَكاتها والقرآن، وهناك علاقة جدلية بين المصدرين يقوم بها الإنسان بغريزته العقلية عن طريق الاستدلال.

إن أطروحة المحاسبي تختلف عن أطروحتي واصل بن عطاء والشافعي[17] بدْءًا من تفسير العقل الذي عنه تتولد المعرفة، فالمحاسبي حين يفسر العقل بالغريزة يعني أن الإنسان ليس شريرًا بطبيعته حتى يتم تقييده بالقيود التي يذكرها الشافعي من القرآن والحديث والقياس والإجماع، كما أنه ليس متناقضًا في داخله حتى يتم تسديده بالعقل كما يرى واصل بن عطاء، فكون العقل غريزة سارية في نفسه يجعل منه إنسانًا منسجمًا في عالمه الداخلي ويجعل الإشكاليات إنما ترد عليه من الخارج من الخبر القاهر (القرآن) والعيان (العالم المشاهد)، وهنا يجب عليه أن يقيم ويبث هذا الانسجام في الخارج حتى يتحقق التواصل المطلوب بين الداخل والخارج.

تُحيل تلك الأسماء الثلاثة التي تعرضنا لها إلى ثلاثة أنماط من التفكير والتوجه الذي برز مبكرًا، فواصل بن عطاء كان صاحب أول محاولة مذهبية عقلية في أمور الدين، وهي المحاولة الاعتزالية التي استأثرت بعد ذلك بلقب “المتكلمين”، على حين تمثل محاولة الشافعي مذهب “الفقهاء” وطريقتهم، أما محاولة المحاسبي فتشكل طريقة في التصوف العقلي الذي نشأ مبكرًا ثم تَبَلْور مع المحاسبي[18]، وقد جعلوا العقل موضوعًا غير منفصل عن الدين، سواء من حيث غريزيةُ العقل في التفرقة البديهية بين الخير والشر، أم في العقل عن الله أوامرَه ونواهيَه.

تطورت الصياغة الإسلامية للمعرفة مع تَبَلور صناعتي الكلام والأصول خاصةً، ومع تَعَمق أثر التراث اليوناني وجدل الفرق المختلفة، ولعل أهم مَن أفرد هذا الموضوع بالبحث والتفصيل وخصّه بمجلد كبير هو القاضي عبد الجبار المعتزلي (415هـ)، إذ خصص جزءًا من موسوعته “المغني في أبواب العدل والتوحيد” لبحث موضوع “النظر والمعارف” [19]،قدّم فيه تصورًا شاملاً يَرقى إلى بناء نظرية في المعرفة، تتلخص في أن النظر المراد هنا نظرُ القلب؛ لأنه يقوم على التفكير الذي يكشف الحقيقة، وهو واجب لأن العقل سابق على السمع عند المعتزلة، ومن ثم فالتقليد فاسد؛ لأنه يؤدي إلى جحد الضرورة، والنظرُ لا بد له من موضوع يتعلق به وهو المنظور فهو كالاعتقاد يتعلق بغيره، وللنظر دواعٍ وخواطرُ تبعث النفسَ نحوه، ومن لطف الله أنْ جعل المكلف بحيث تَرِد عليه الخواطر فيعمل بمقتضاها، والخواطر هنا، عند القاضي عبد الجبار، معنى يقوم في النفس[20].

والنظر فعلٌ كسائر الأفعال يَصدر عن إرادة العبد وقدرته، ويتولد عنه فعل آخر هو عمل الإنسان، ومن حقه أن يولّد العلمَ، وكلُّ قيمته في هذا التوليد، وهو يولّد العلم متى كان نظرًا من عاقل في دليل معلوم على الوجه المطلوب، وتَكثر العلومُ بكثرة النظر وتَقِل بقلته. وفي تَوَلّد العلم عن النظر إشكالاتٌ كثيرة[21] يستفيض فيها القاضي عبد الجبار؛ لأن من النظر ما لا يولّد علمًا بل يولّد جهلاً أو ظنًّا أو شكًّا، ومنه ما لا يولّد شيئًا مطلقًا، ومن العلم ما يتم عن طريق الوحي والإلهام ولا سبيل لمؤمن أن ينكر ذلك، والعلم والمعرفة عند القاضي لا يختلفان، فهما معًا وليدا النظر، والعلمُ، عنده، بالنسبة للعباد تَبَيُّنٌ وتَحَقّق، ويسمى فهمًا وتَفَقُّهًا وفطنة، وهو على كل حال ما تسكن إليه نفس العالم، فليس من العلم في شيء ما لا يطمئن إليه المرء ويعتقده، والعلوم والمعارف تنقسم إلى ضرورية ومكتسبة، وطريقها جميعًا الإدراك، سواء أكان حسيًّا أم ذهنيًّا، فالحقائق لا تصير علمًا إلا بعد أن تُدرَك، وما الحواس إلا أبواب للمعرفة[22].

لم يكن القاضي المعتزلي وحيدًا في ذلك، فمعاصِرُه المتكلم الأشعري القاضي الباقلاني (403هـ) خصص بابًا للعلم وأقسامه وطرقه من كتابه “التمهيد”[23]، فكأنه بهذا “سنّ سنة سلكها علماء الكلام من بعده، وأخذوا يقدمون لكتبهم بمقدمة هي أشبه ما يكون بنظرية في المعرفة أو دراسة في الفلسفة العامة”[24]، كما فعل فخر الدين الرازي (605هـ) الذي خصص الركن الأول من “مُحَصَّل أفكار المتقدمين والمتأخرين” للحديث عن مقدماتٍ منها: أحكام النظر والفكرُ المفيد للعلم، وكيفيةُ حصول العلم عُقَيب النظر الصحيح: هل هو حصولٌ عادة أم تولدًا أو وجوبًا؟[25].

وكذلك فعل عَضُد الدين الإيجي (756هـ)،فقد عَقَد الموقفَ الأول من كتابه “المواقف” للحديث في مسائل العلم[26]، أوضح فيه أن العلم هو معرفة المعلوم على ما هو عليه، كما ارتضاه الباقلاني، وهو منقسم إلى تصور وتصديق، والعلم الحادث ضروري ومكتسَب، فالضروري لا سبيل للانفكاك عنه، والمكتسب ما يمكن تحصيله، والضروريات وجدانيات،وحسيات، وبديهيات، وقد أنكرت فرقةٌ (هي السُّمنيَّة) الحسيات، وأنكرت أخرى (هي السوفسطائية) الحسيات والبديهيات معًا.والنظر، فيما يرى الباقلاني، ما يُطلَب به علم أو غَلَبة ظن، وقيل: هو اكتساب المجهول بالمعلوم. ومنه ما هو صحيح ومنه ما هو باطل، وصحته بصحة مادته وصورته، والنظر الصحيح فقط هو الذي يُفيد العلمَ، وإنما يحصل العلم بالعادة عند الأشعري، لا بالتوليد كما ذهب المعتزلة، ولا بالاستعداد والفيض كما يرى الحكماء، وشرطه، على كل حال، أن يكتمل عقل الناظر، وأن يتوفر له موضوعٌ ينظر فيه.

ولم يقف الأمر عند حدود علم الكلام، فلم يكن علم أصول الفقه بمَعزل عن تأثيرات علم الكلام، فقد تَبِع القاضيَ الباقلانيَّ كثيرٌ من علماء أصول الفقه فيما بعد، حتى إن أصوليي الحنابلة المعاصرين له لم يجدوا بُدًّا من التعرض لمسائل العلم والمعرفة، وإنْ في نطاق بيان الحدود والتعريفات، فإننا نجدهم يَعرضون لتعريف العلم وأقسامه وأقسام النظر، وطرق العلوم[27]، واستمر الأمر على هذا الحال في كتب الأصول فيما بعد[28].

وكأنهم يشيرون، بذلك، إلى أن المعرفة هي إحدى أركان  الاعتقاد والتصور الكلي، سواء في علم الكلام أم في علم الأصول، إلى جانب نظريتي الوجود والقيم، بل إننا نجد أن علماء الكلام والتصوف يتحدثون عن المعرفة الواجبة، وهي معرفة الله، ما يعني أن المعرفة أساس الوجود، وأساس وظيفة الإنسان كما تشير إليها النصوص، ثم إنهم، بعد ذلك، يتحدثون في مسألة اليقين الذي لا يمكن دفعه أو يجب التسليم به تسليمًا مطلقًا، وفي الظن، كما أن البحث في أصل المعرفة بالعقل أم بالشرع/النص، وفي مسائل التحسين والتقبيح، هل هما شرعيان أم عقليان، وكذلك تعارض العقل والنقل، هي مسائل تقع في صلب نظرية المعرفة عند القدماء، وهي نقاشات استمرت طويلاً وشغلت مساحات كبيرة من التفكير الكلامي والأصولي.

الهوامش

[1]انظر: مصطفى سامي النشار، نظرية المعرفة عند أرسطو، مصر: دار المعارف، ط3، 1995م، ص27.

[2]انظر: محمود حمدي زقزوق، تمهيد للفلسفة، القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1986م، ص109.

[3] مثل: ج. ف. لَيبِنْتز، أبحاث جديدة في الفهم الإنساني، تقديم وترجمة وتعليق أحمد فؤاد كامل، مصر: دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1983م، ورودرك م. تشيزهولم، نظرية المعرفة، تعريب نجيب الحصادي، مصر: الدار الدولية للنشر والتوزيع، 1995م.

[4] مثل: مصطفى النشار، نظرية المعرفة عند أرسطو، (مرجع سابق)، ومحمود قاسم، نظرية المعرفة عند ابن رشد وتأويلها لدى توماس الأكويني، مصر: مكتبة الأنجلو مصرية، [د.ت].

[5] مثل: راجح الكردي، نظرية المعرفة بين القرآن والفلسفة، السعودية: مكتبة المؤيد، 1992م، وعبد الرحمن الزنيدي، مصادر المعرفة في الفكر الديني والفلسفي، السعودية: مكتبة المؤيد، 1992.

[6] أبو هلال العسكري، الأوائل، تحقيق محمد السيد الوكيل، القاهرة: دار البشير للثقافة والعلوم الإسلامية، 1987م، ص374.

[7] رضوان السيد، الأمة والجماعة والسلطة، بيروت: دار اقرأ، ص148.

[8] وكيع: محمد بن خلف، أخبار القضاة، بيروت: عالم الكتب، [د.ت]، ج2، ص101.

[9] الشافعي، الرسالة، تحقيق أحمد شاكر، مصر: مكتبة الحلبي، 1940م، ص34.

[10]انظر: رضوان السيد، الأمة والجماعة والسلطة، ص149.

[11] انظر: هاري أ. ولفسون، فلسفة المتكلمين، ترجمة مصطفى لبيب عبد الغني، القاهرة: المشروع القومي للترجمة، 2005م، ج1، ص65، 77-78.

[12] أبو علي بن سينا، الإشارات والتنبيهات (مع شرح نصير الدين الطوسي)، تحقيق سليمان دنيا، ط3، القاهرة: دار المعارف، [د.ت]، ج1، ص365، و368.

[13] الغزالي، مقاصد الفلاسفة، تحقيق سليمان دنيا، القاهرة: دار المعارف، 1961م، ص66.

[14] الحارث المحاسبي، العقل وفهم القرآن، تحقيق حسين القوتلي، ، بيروت: دار الكندي للطباعة والتوزيع،ط3، 1982م، ص205.

[15] رضوان السيد، الأمة والجماعة والسلطة، ص151.

[16]الحارث المحاسبي، العقل وفهم القرآن، ص232.

[17] انظر: رضوان السيد، الأمة والجماعة والسلطة، ص152.

[18] انظر حول التصوفي العقلي: حسين القوتلي، مقدمة تحقيقه لكتاب: العقل وفهم القرآن، ص131-133.

[19]القاضي عبد الجبار الأسد آبادي، المغني في أبواب التوحيد والعدل: النظر والمعارف، تحقيق إبراهيم مدكور، إشراف طه حسين، مصر: [د.م]، [د.ت]، مجلد 12.

[20] اختلف المعتزلة في معنى الخاطر، فذهب أبو علي الجُبّائي إلى أنه ظن واعتقاد، وذهب ابنه أبو هاشم إلى أنه كلامٌ. انظر: القاضي عبد الجبار، المغني، ج12، ص403، و410.

[21] توسع بشر بن المعتمد (210هـ) رئيس معتزلة بغداد في فكرة تَوَلد العلم عن النظر، وذهب الجاحظ (255هـ) وهو من المعتزلة إلى القول بالطبائع، فليس للعباد من فعل سوى الإرادة، وما عداها إنما يقع طبعًا لا اختيارًا، فالعلم ليس فعلاً للعبد ولا متولِّدًا عن فعل آخر، وإنما يتم بالطبع والضرورة. انظر: القاضي عبد الجبار، المغني، ج12، ص306.

[22] انظر: القاضي عبد الجبار، المغني، ج12، ص4-115. وانظر مقدمة المحقق، ص د – ز.

[23] محمد بن الطيب الباقلاني، تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل، تحقيق عماد الدين حيدر، بيروت: مؤسسة الكتب الثقافية، 1987م.

[24] إبراهيم مدكور، مقدمة تحقيق كتاب: المغني للقاضي عبد الجبار، ج12، ص: ط.

[25] فخر الدين الرازي، محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والحكماء والمتكلمين، راجعه وقدم له طه عبد الرؤوف سعد، القاهرة: مكتبة الكليات الأزهرية، [د.ت]، وابن خلدون، لباب المحصل في أصول الدين، دراسة وتحقيق عباس محمد سليمان، الإسكندرية: دار المعرفة الجامعية، 1996.

[26]عضد الدين عبد الرحمن الإيجي، المواقف في علم الكلام، بيروت: عالم الكتب، [د.ت].

[27]انظر مثلاً: أبو يعلى (458هـ)، العدة في أصول الفقه، تحقيق أحمد المباركي، ط2، السعودية: [د.ن]، 1990م، وأبو الخطاب الكَلْوَذاني (510هـ)، التمهيد في أصول الفقه، تحقيق مفيد أبو عمشة، السعودية: مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي، 1985م، وابن عقيل الحنبلي (513هـ)، الواضح في أصول الفقه، تحقيق عبد الله التركي، بيروت: مؤسسة الرسالة، 1999م. وقد انفرد ابن عقيل ببحث طرق العلوم في ج1، ص20.

[28]كما نجد – مثلاً – لدى: فخر الدين الرازي، (606هـ)، المحصول في علم أصول الفقه، تحقيق طه جابر العلواني، بيروت: مؤسسة الرسالة.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق