مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكشذور

تصحيح مفاهيم خاطئة (8): الاجتهاد من المقلد عارض أقلي

سئل الفقيه أبو موسى عيسى بن محمد بن الإمام –رضي الله عنه- عن ابن القاسم – رحمه الله- هل هو مجتهد مطلقا أو مقلد لمالك – رضي الله عنه-؟

فأجاب هو مقلد لمالك – رحمه الله تعالى –لا مجتهد مطلقا، بل مجتهد في مذهبه، متمكن من الاستنباط على أصوله وقواعده المعتبرة عنده في تحصيل أحكام الله تعالى، والقائل بحكم والعامل به ممن يمكن أن يظن به الاجتهاد لاشك أنه لو صرح  بالاعتماد فيه على قول شخص واتباعه فيه أنه مقلد فيه لذلك الشخص، كما أنه لو صرح باعتماده فيه على نظره واتباعه للدليل المطلق كان مجتهدا، ومتى لم يُعلم أحد الأمرين وجب النظر فيما يدل من المذكور على أحد الأمرين فيقال به، ويجب أن تعلم أن حديثنا هذا وسؤالك في الاجتهاد إنما هو بالمعنى  المعلوم عند جمهور العلماء، لا بالمعنى الذي يفسره به من يُحرِّم التقليد من أهل الظاهر على العالم والعامي، فإن الاجتهاد إذا تصور عندهم في حق العامي وحظروا عليه التقليد، فأحرى أن يحظروه في حق من يمكن ظن الاجتهاد المطلق به، على أن اجتهاد العامي  عندهم مفسر  بمعنى غير معنى اجتهاد العالم.

واجتهاده أن يسأل العالِم إذا أفتاه، فيقول له:هذا حكم الله تعالى عز وجل، وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن أقر له العالم بذلك أخذ به، و إن لم يقر له بذلك حرم عليه العمل بقوله، بناء على أن هذا القدر هو الذي في وسعه، والله عز وجل لا يكلف نفسا إلا وسعها، ولهم على معنى التقليد مطلقا وعلى التزام مذهب معين وجوه، ربما اعترف المنصف بقوتها مطلقا.

ويجب أيضا أن تعلم أنا لا نمنع اجتهاد المقلد في مسألة ما أو مسائل، بناء على صحة تبعيض الاجتهاد فإنه مختارنا وعليه يدل الدليل عندنا،كما أنا لا نمنع تقليد المجتهد في مسألة ما أو مسائل عند العجز، إلا أنها أقلية بالنسبة إليهما، فالتقليد للمجتهد المطلق عارض أقلي، والاجتهاد لو صح من مقلد عارض أقلي أيضا، والمراد هاهنا إنما هو سلب الاجتهاد الذي يعرض له التقليد، ولا بد من تحقيق ذلك، وإلا فلا تقابل بين السلب والإيجاب، إذ يصدق عل الشخص مجتهدا مقلدا باختلاف النسبتين المذكورتين، ولا يمكن ذلك باتحاد النسبة، وعلى هذا فمتى ثبت كون ابن القاسم مقلدا ولو عرض له الاجتهاد امتنع أن يكون مجتهدا، ومتى ثبت أنه مجتهد امتنع أن يكون مقلدا ولو عرض له التقليد.

وقد دلت أقوال ابن القاسم وأقوال الأئمة رحم الله جميعهم على ما ذكرنا من تقليده، فيجب أن يقال به.

بيان دلالتها وهو أن متبع المجتهد إنما هو الدليل المطلق، ومتبع المقلد هو الشخص المقلد، واتباع ابن القاسم لقول مالك والتزامه لمذهبه أوضح عندي عند من له أدنى اطلاع من أن يفتقر إلى دليل.

بيانه من وجوه:

أولها: أن المجتهد إذا سئل عن حكم من أحكام الله تعالى فإن الواجب عليه أن يجيب بما أداه إليه الدليل المطلق، ولن يخفى أن دواوين [دليل] الروايات والسماعات ممتلئة عند الأسئلة  المطلقة لابن القاسم بأجوبته عنها، قال مالك: كذا، قال مالك: كذا، وليس ذلك من الدليل المطلق في شيء، بل اتباع الشخص المعين، فإن قيل: إنما أجاب بذلك قبل النظر أو بعد العجز، قيل: أما قبل النظر فلا يجوز له التقليد على الصحيح، فإنه سبحانه قال: (فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول) [سورة  النساء، الآية: 59]، ومَن تمكن من الردّ إلى الله ورسوله وردّ إلى غيرهما فقد خالف الأمر، ولو سلم فإنما يكون نادرا وأقليا، كالحال بعد العجز المسلم. وأجوبة المذكورين بقول مالك هي الأكثر، بل لا يجيب ويطلق أو يضيف إلى نفسه إلا بعد خروج قول مالك عن قواعده، واختيار أحد أقوال مالك، وإن لم يعلمه على ما نقرره إن شاء الله تعالى.

لايقال: لم يجب ذلك إلا عند تعيين السائل له إرادة مذهب مالك، لأنا نقول:قد قدمنا ما يبطل هذا وهو قولنا: الأسئلة المطلقة، فإنه إن صح هذا فإنما يصح حيث عين السائل أن مراده ذلك، ونحن قد علمنا جوابه بذلك لمن عين له ذلك، ولمن لم يعين وأطلق سؤاله، ولئن كابَر مدّع أنه لم يجب قطّ بقول مالك إلا إذا عين السائل أن مراده ذلك، قيل له بعد إبطال ذلك بما قدمناه من إطلاق] الأسئلة: هذا القدر أيضا يدل على اعتقاد كل السائلين والرواة عنه من الأئمة كونه خزانة لمذهب مالك وأقواله، ناشرا لها ومتحريا في نقله وضبطه، بحيث لم يبلغه في ذلك من نظرائه، وهذا القدر أدل على التقليد منه على الاجتهاد، فإن همة المجتهد وإن كان مطلعا على مذاهب الأئمة إنما تتوجه نحو الأدلة المطلقة وما تؤدي إليه، وغير ذلك إنما يكون بالتبعية، وأيضا: فسؤال المجتهد عن مذهب غيره في غاية الندرة، وأيضا: فكما يعرض للمجتهد أن يسأل عن مذهب مالك يعرض له أن يسأل عن غيره، فما بال الخصوصية لمالك؟

 وثانيها: أنه يجيب في مسائل يكاد أن تخرج عن الإحصاء، ثم يقول:لأن مالكا قال كذا في  كذا، فيجعل قول مالك موجبا لصحة جوابه، ودليلا على أنه جار على مذهبه، وتصحيح جواب المجتهد إنما هو بالدليل المطلق لا بقول الشخص.

وثالثها: قوله بأجوبته في عدة مسائل: ولولا ما قاله مالك لرأيت كذا، أو لَقُلت كذا، بل هو يدل على أنه عمل على خلاف ما دل عليه الدليل عنده، وهو أقصى الغايات في التقليد.

ورابعها: ما نقله صاحب الاستيعاب حيث ذكر عن ابن وهب قوله: إذا لم أجد أثرا قلدت مالكا، لأن قوله أثرٌ من الآثار وقال: وبهذا كان ابن حنبل يقول، كأنه قد  سمع ذلك من ابن وهب، ثم قال: وقال ابن القاسم: اخترت مالكا لنفسي وجعلته بيني وبين النار، ولا معنى لاختياره إياه، وجعله بينه وبين النار إلا تقليده، واعتقاد صحة مذهبه واستحسان رأيه، فإن الذي يجعل المجتهد بينه وبين النار إنما هو الأدلة وبذل الوسع في طلبها، واستنباط أحكام الله تعالى منها لا الشخص المعين.

فإن قيل: أول اختياره إياه إنما هو في التعلم والاستفادة منه ابتداء، لا في تقليده حين استبحَر في العلوم وأمكنه الاجتهاد.

قيل :المجتهد المطلق لا يمكنه جعل ما استفاد منه ابتداء بينه وبين النار كما قررنا، وإنما يتبع الدليل، وبالنسبة إلى استفراغ الوسع فيه ينسب إلى المبالغة أو التقصير، وإلى حصول الأجر أو الإثم وسقوطه، لا إلى  من أخذه عنه [بدأة] أو استفاده منه أولاً؛ فإنها حالة قد انتسخت بأكمل منها، هذا واستفادة المذكور بدأة لم تنحصر في مالك – رحمه الله – وإن كانت منه أكثر لملازمته وصحبته له أطول، فقد أخذ عن الليث، وعبد العزيز بن الماجشون، ومسلم بن خالد، وبكر بن مضر، وابن الدراودي، وابن أبي حازم، وعثمان بن الحكم وغير واحد.

وأما دلالة أقوال الأئمة على ذلك، فقد قال شرف الدين أبو محمد عبدا لله محمد بن علي الفهري وهو أحد محققي الأئمة المتأخرين لما حكى صفات المجتهد قال: وجميع ما ذكرنا شرائط المفتي المطلق، وهو المجتهد في الدين، ودونه المجتهد في المذهب، وهو الذي له مُكْنة بتخريج الوجوه على نصوص إمامه كابن سريج وأبي حامد بالنسبة إلى مذهب الشافعي، ومحمد بن الحسن وأبي يوسف بالنظر إلى مذهب أبي حنيفة، وابن القاسم وأشهب بالنسبة إلى مذهب مالك، وهو نص منه رحمه الله تعالى على ما قلناه.

وأيضا فقد قال ابن وهب لابن ثابت: “إن أردت هذا الشأن – يعني فقه مالك- فعليك بابن القاسم، فإنه انفرد به “…

 وهذا أيضا يدل على تقليده له وكونه خزانة لعلمه وأقواله ومآخذه، فإن المجتهد لا ينفرد بعلم شخص ولا يوصف بأنه لم يخلط به غيره، فإنه  إنما ينظر إلى الدليل المطلق، وأيضا فقد حكى الحارث  بن أسد القفصي – وكان ثقة خيارا مستجابا يختم القرآن في كل ليلة من رمضان- وكان ممن أخذ عن مالك رحمه لله- قال: لما أردنا وداع مالك دخلت عليه أنا وابن القاسم وابن وهب فقال له ابن وهب: أوصني، فقال له: اتّق الله وانظر عمّن تنقل، وقال لابن القاسم: اتّق الله وانشر ما سمعت، وقال لي: اتّق الله وعليك بتلاوة القرآن، قال الحارث رحمه الله: لم يرني أهلا للعلم…

فهذا مالك – رحمه الله- ينبوع إفادته يأمره بنشر ما سمع، والناشر لما سمع بمعزل عن الاجتهاد المطلق، ومن المحال أو الأبعد أن يعلم من حاله ما يعلم منه شيخه وإمامه رحمه الله…

فإن قيل: ما ذكرتم وإن دل على تقليده، ولكنه معارض بما يدل على اجتهاده.

بيانه: أن ابن القاسم خالف مالكا رحمه الله برأيه في مسائل كثيرة، وحظ المقلد اتباع مقلَّده، ولا رأي له، إنما الرأي للمجتهد، فمخالفته برأيه تأبى تقليده .

قيل: مخالفته إنما تحقق إذا لم يكن لمالك- رحمه الله-قول في المسألة إلا الذي خولف، فلعل له قولا آخر رجّحه ابن القاسم واختاره. لا يقال: لما قال: أرى أو هو رأيي، عُلم أنه أناط الحكم برأيه، فحمْل قوله على اتباع قول آخر لمالك تأويل وخلاف الظاهر، لأنا نقول: ترجيح القول الذي صار إليه واختياره إياه رأي حقيقة فلا تأويل…

ولو سلم أيضا اجتهاده في المسائل المشار إليها لكان اجتهادا عارضا للتقليد المطلق، وأنه غير مخرج له عن تقليده المطلق، كما أن تقليده المجتهد المطلق العارض لا يخرجه عن اجتهاده المطلق…

وقد تبين بهذا أن مخالفته برأيه لا تستلزم الاجتهاد المطلق ولا تخرج عن التقليد، وأن رأيه حينئذ إنما هو ترجيح أحد أقوال إمامه واستمداد من قواعده مقول بحسب القدر المشترك وهو المرتضى عنده.

 

المعيار للونشريسي ج6: صص(350/360).و ج11: (صص373/386)

الدكتور عبد الله معصر

• رئيس مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوك بالرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق