مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكشذور

ترجيح علم “عالم المدينة” من طريق النقل و الأثر

 

           قال القاضي أبو الفضل عياض رحمه الله تعالى ورضي عنه:

          “اعلموا – وفقكم الله تعالى- أن ترجيح مذهب مالك على غيره و إنافة منزلته في العلم، وسمو قدره من طريق النقل والأثر، لا ينكره إلا معاند أو قاصر لم يبلغه ذلك مع اشتهاره في كتب المخالف والمساعد. و ها نحن نقرر الكلام في ذلك في محلين: أولهما بالتقديم، وهو الأثر المشهور الصحيح المروي في ذلك عن رسول الله عليه السلام من حديث الثقات، منهم سفيان بن عيينة، عن أبي جريج، عن أبي الزبير عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم).  وفي رواية: (يلتمسون العلم فلا يجدون عالماً أعلم)، وفي رواية: (من عالم المدينة)، وفي بعضها: (أباط الإبل) مكان (أكباد الإبل)، وقد رواه غير سفيان عن ابن جريج بمثل حديث سفيان، منهم المحاربي موقوفاً على أبي هريرة ومحمد بن عبد الله الأنصاري مسندا، وهو ثقة مأمون.

وهذا الطريق أشهر طرقه، ورجال هذا الطريق رجال مشاهير ثقات، خرّج عن جميعهم البخاري ومسلم وأهل الصحيح.

 ورواه أيضاً المقبري عن أبي هريرة بلفظ آخر، حدث به القاضي أبو البَختري وهب بن وهب، عن عبد الأعلى بن عبد الله عن القبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تنقضي الساعة حتى يضرب الناس أكباد الإبل من كل ناحية إلى عالم المدينة يطلبون علمه)، إلا أن أبا البختري ضعيف عندهم، وقد رواه النسائي أيضاً، وخرجه في مصنفه عن علي بن محمد بن كثير عن سفيان عن أبي الزناد عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(تضربون أكباد الإبل وتطلبون العلم فلا تجدون عالماً أعلم من عالم المدينة).

قال النسائي: هذا خطأ، والصواب: أبو الزبير عن أبي صالح. ورواه أيضاً أبو موسى الأشعري عن النبي عليه السلام بلفظ آخر حدث به معن بن عيسى عن أبي المنذر التميمي زهير قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم (يخرج ناس من المشرق والمغرب في طلب العلم فلا يجدون عالماً أعلم من عالم المدينة)، أو (عالم أهل المدينة). وذكر ابن حبيب حديثاً يسنده عن أبي صالح عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تنقطع الدنيا حتى يكون عالم بالمدينة تضرب إليه أكباد الإبل ليس على ظهر الدنيا أعلم منه)، قال سفيان بن عيينة من غير طريق واحد: نرى أن المراد بهذا الحديث مالك بن أنس، وفي رواية هو مالك بن أنس، ومثله عن ابن جريج وعبد الرزاق، عن سفيان أنه قال: كنت أقول: هو ابن المسيب حتى قلت: كان في زمن ابن المسيب سليمان وسالم وغيرهما، ثم أصبحت اليوم أقول: إنه مالك، وذلك أنه عاش حتى لم يبق له نظير بالمدينة.

           وهذا هو الصحيح عن سفيان، رواه عنه الثقات والأئمة: ابن مهدي ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، والزبير بن بكار، وإسحاق بن أبي إسرائيل، وذؤيب بن عمامة السهمي وغيرهم كلهم سمع سفيان يقول في تفسير الحديث إذا حدثهم به: هو مالك أو أظنه، أو أحسبه، أو أراه، وكانوا يرونه. قال ابن مهدي يعني سفيان بقوله: “كانوا يرونه” التابعين، قال القاضي أبو عبد الله التستري: هو إخبار عن غيره من نظرائه، أو ممن هو فوقه، وأن منزلته كانت في نفوسهم هذه المنزلة، لما شاهدوه من حاله التي تشبه ما أخبر به في الحديث، قال وقد جاءت هذه الأحاديث بلفظين أحدهما: “لا يجدون عالماً أعلم من عالم المدينة”، والآخر: “من عالم بالمدينة”، ولكل واحد منهما معنى صحيح، فأما قوله من عالم بالمدينة، فإشارة إلى رجل يعينه يكون بها لا بغيرها، ولا نعلم أحداً انتهى إليه علم أهل المدينة وأقام بها، ولم يخرج عنها ولا استوطن سواها في زمن مالك مجمعاً عليه إلا مالكاً، ولا أفتى بالمدينة وحدث نيفاً وستين سنة أحد من علمائها، يأخذ عنه أهل المشرق والمغرب ويضربون إليه أكباد الإبل غيره، وأما رواية عالم المدينة أو أهل المدينة فقد ذكر محمد بن إسحاق المخزومي أبو المغيرة أن تأويل ذلك: ما دام المسلمون يطلبون العلم فلا يجدون أعلم من عالم المدينة كان بها أو بغيرها، فيكون على هذا سعيد بن المسيب، لأنه النهاية في وقته، ثم بعده غيره ممن هو مثله من شيوخ مالك، ثم بعدهم مالك، ثم بعده من قام بعلمه وصار أعلم أصحابه بمذهبه، ثم هكذا، ما دام للعلم طالب، ولمذهب أهل المدينة إمام، ويجوز على هذا أن يقال هو ابن شهاب في وقته وفنه، والعمري في وقته وفنه ومالك في وقته وفنه ، ثم إذا اجتمعت اللفظتان اختص مالك بقوله: “من عالم بالمدينة” ودخل في جملة علماء المدينة باللفظة الأخرى”.

 

    ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، للقاضي عياض،    تحقيق: د. علي عمر، الطبعة الأولى 1430هـ- 2009، دار الأمان، 1/63

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق