مركز الدراسات القرآنيةشذور

تدبر الكون في القرآن الكريم

يتميز تدبر الكون في القرآن الكريم بأنه يحمل في دلائله البراهين اليقينية على صحة العقيدة التي يتناولها إقناعا للعقل واقتناعا بالقلب واطمئنانا للنفس؛ بحيث تكتمل في الإنسان قناعات كل إمكانياته المعرفية العقلية والوجدانية على السواء، كما يتميز هذا التدبر بنظره التحليلي للوجود الإنساني يجعل للوجود معنى وللإنسان وظيفة. فالوجود لم يخلق عبثا لا غاية له ولا هدف منه، بل له غاية وهدف مطلوب. وعالم الشهادة في القرآن لم ينفصل في حكمته الوجودية عن عالم الغيب، وليست المادة في القرآن مستقلة في وجودها عن عالمها الغيبي الحاكم لها والمتحكم فيها، كما هو الشأن في المذاهب المادية قديمها وحديثها.

والوجود ليس مقطوع الصلة بخالقه، كما أن هذا الوجود صفحة معروضة على العقل الإنساني ليقرأها بتكليف إلهي: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق: 1]. فعالم الخلق العلوي والسفلي معروض على العقل ليتدبره ويقرأ منه على قدر استطاعته باسم ربه، لا باسم غيره ولا بتيسر واستعانة بسواه؛ لأن الوجود في القرآن يحمل قوانين وبراهين يقرؤها ويتعلمها عقل الإنسان، فلا يرى في خلق الرحمن من تفاوت، وكل شيء عنده بمقدار.

إن تدبر الكون في القرآن الكريم يتميز بأنه يشترك فيه الحس والعقل والقلب، فحين ينظر العقل ويتفتح القلب الواعي تنفع الذكرى، وتثمر في القلب أثرا إيمانيا، يجعل للحياة معنى وللوجود قيمة؛ لأنها تصل قلب الإنسان العارف بالكون الذي هو موضوع المعرفة، حيث تباشر الحواس معارفها الجزئية من رؤية السماء سقفا محفوظا من الخلل، ويشهد السماء مزينة بالآيات التي تبعث في النفس البهجة والسرور، فالقمر نور في الليل، والشمس ضياء في النهار، والنجم علامات وهدايات للسراة ليلا في البر والبحر.

هذا التدبر للكون في القرآن من خلال مشاهد متعددة تربط قلب المسلم بهذه المشاهدات فتبعث فيه عوامل الإيمان واليقين، وتربط عقله بالنظر في هذه الظواهر؛ طلبا لمزيد من التعرف عليها، لتصل بين الإنسان وهذه الظواهر في وحدة معرفية يجمع فيها المسلم بين الذات العارفة (الإنسان) وموضوع المعرفة معا. فالإنسان ليس غريبا عن هذه الشواهد؛ لأنها مسخرة لأجله، وهو مطالب بالكشف عنها وحسن الاستفادة منها، ولا تستقيم حياته على الأرض إلا بذلك، ولا بد له من وصل ما انقطع بينه وبينها في الماضي حتى يواصل مسيرته، ويلحق بركب الحضارة الإنسانية، ولا بد للمسلم من الصلة العلمية الوثيقة بها. فكل معرفة بجزء مادي من الكون أو بخاصة من خصائصه أو بقانون من قوانينه يجب أن تتحول إلى موضوع للبحث العلمي يوثق صلة العقل المسلم بهذا الكون بدلا من هذا الحاجز بين المسلم وعالم الشهادة، والذي أصبح ظاهرة لافتة للنظر في واقع المسلمين.

إن القرآن الكريم يحث على التدبر والتفكير في خلق السموات والأرض وفي الحياة وفي الكون وفي الإنسان، وهذا التدبر والتفكير هو مصدر المعرفة. يقول محمود شلتوت: «لقد كان موقف القرآن في الحث على التفكير في ملكوت السموات والأرض بأساليبه برهانا واضحا على مكانة العقل والعلم في نظر الإسلام؛ إذ العقل آلة التفكير، والعلم ثمرته. وإذن يكون كل ما ورد في القرآن حثا على التفكير إعلانا عن فضل العقل، وإيحاء بالعمل على تربيته وتقويته، وهو في الوقت نفسه إعلان وتسجيل لفضل العلم، وإيحاء بتحصيله، فيقف الإنسان على الحقائق، وتزول عنه غشاوة الجهل، ويحرر من رق الأوهام والخرافات، وبذلك كان الإسلام دين الفكر، ودين العقل، ودين العلم، وحسبنا أن رسوله لم يقدم حجة على رسالته إلا ما كان طريقها العقل والنظر والتفكير»[1].

إن تدبر الكون للكشف عن أسراره بكل وسيلة متاحة، يستطيع أن يقوم به كل عاقل ليجني الثمرة وينعم بخيراته، فيجد كل امرئ فيه زاده العلمي والإيماني معا، حين يتأمله بقلب مفتوح وعقل صحيح متطلع إلى الحق، وكل عالم يبحث فيه بقدر استعداده، وعلى قدر استطاعته؛ ولذلك فإن الآية الواحدة تحمل معا البرهان العقلي لطالب العلم واليقين الإيماني لطالب الحق، والاستدلال القرآني يجمعهما في سياق واحد، فلا ينقض البرهان العلمي اليقين الإيماني بل يقويه ويعضده، ولا يبطل اليقين الإيماني البرهان العلمي ولا يعارضه بل يسانده ويدعمه، ويمده بنور البصيرة ﴿تَبْصِرَةً وَذِكْرَىٰ لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ﴾ [ق: 8].

إن نور البصيرة التي تساعد العقل في الربط بين الجزئيات المتناثرة والمفردات المتنوعة فيربط بعضها ببعض، ويضم شتاتها في وحدة متناسقة، تشير إلى وحدة المصدر، ووحدة النظام الحاكم، ووحدة الخالق باعتبارها حقيقة كبرى، تسوق إليها هذه المقدمات الجزئية والمفردات المتنوعة على أنها الحقيقة الكبرى والمقصد والغاية؛ إنها تصل القلب المتبصر بنظام الكون، فتذكره بالحكمة الكامنة والعناية الإلهية المبثوثة في كل جزئياته، ما دق منها وما عظم. فهي ليست معلومات جامدة يتلقاها العقل دون أن تسري آثارها إلى القلب، فتثير فيه عوامل الإيمان؛ ولذلك فإن القرآن سماها آيات يجب تدبرها وتذكرها ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾ [القمر: 17].

الهوامش:

[1] ينظر: محمد شلتوت، من توجيهات الإسلام، ط 8 (القاهرة: دار الشروق، 2004م)، (ص: 116).

Science

د. مصطفى اليربوعي

باحث بمركز الدراسات القرآنية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق