مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةغير مصنف

تحديث المغاربة بالمشرق

 

 

 

كان التصدر لإملاء الحديث مما ينبئ عن علو كعب المتصدر لذلك في هذا الفن، فما كان في الغالب يتصدر إلا الثقة، الضابط لما روى، الكثير المشايخ، المنفرد بلقاء الكبار، المتميز بعالي الأسانيد، وذلك لأن طلبة الحديث كانوا في العصور الأولى يميزون بين مراتب المشتغلين بهذا الفن، فلا يقصدون إلا مَنْ كان بما ذُكِر من الأوصاف، أو جَمَع كثيرا مما ذكر منها، والمطالع لكتب التراجم يقف على قولهم: إن فلانا ضاعت رحلته إلى فلان ؛ لكون المرحول لم يكن أهلا للأخذ عنه. ويقولون أيضا فيمن رحل إلى بلاد بها بعض كبار الحفاظ، ففاته الأخذ عنه : إن رحلته قد ضاعت. ومن ذلك ما نُقِل عن الحافظ أبي القاسم علي بن الحسن أنه قال ـ وذَكَر رجلا من أصحابه رَحَل ـ: إن رجع ولم يلق الحافظ أبا العلاء ـ يعني الحسن بن أحمد العطار الهمذاني شيخها ـ ضاعت رحلته.[1] 

وقد ذكر الرامهرمزي في المحدث الفاصل[2]، والخطيب في الجامع،[3] والسمعاني في أدب الإملاء والاستملاء[4] وابن الصلاح في المقدمة[5] شروط التحديث ، وتلك الشروط تدل على محل المتصدر في هذا الفن ومرتبته فيه.

ومن الطريف ما تشير إليه كثير من كتب التراجم مِنْ تَصَدُّر كثير من أئمة المغرب أثناء رحلتهم إلى المشرق للتحديث، فكان ذلك بمثابة الشهادة لهم بتمكن الأهلية العلمية فيهم.

فها هو ذا الإمام أبو بكر ابن العربي حدث بالمشرق، وقد رحل إليه شابا، ولولا الاحتياج إلى ما عنده لما حصل له هذا التصدر، قال ابن النجار: حدث ببغداد بيسير[6]، وبغداد كانت في ذلك الإبان قبة الإسلام، ودار الخلافة، ومجمع الحفاظ، يسيل علم الحديث من حيطانها، فالتحديث بها ولو بحديث واحد في ذلك العصر يعد من أعظم مناقب من يذكر ذلك عنه، فأما إذا انضاف إلى ذلك كونه في مقتبل العمر، وشرخ الشبيبة، وكونه من الغرباء الطارئين على البلد، كان ذلك من أدل الأدلة على بعد شأوِهِ في فن الحديث.

ومنهم الإمام العلامة المتفنن ابن دحية الكلبي الذي تصدر للتحديث بالمشرق في كبرى أمصار العلم فيه، وأخذ عنه من المشارقة الكبارُ، وممن روى عنه إمام كبير، وحافظ شهير، هو أبو عمرو ابن الصلاح إمام الفن في وقته، فإنه سمع منه الموطأ[7]. وقال ابن خلكان: “ودخل إلى عراق العجم وخراسان وما والاها ومازندران، كل ذلك في طلب الحديث والاجتماع بأئمته والأخذ عنهم، وهو في تلك الحال يؤخذ عنه، ويستفاد منه”.[8]

ولو رمنا أن نتتبع الذين حدثوا بالمشرق من محدثي المغاربة لطال ذيل الكلام، والغرض تقرير القضية بالاحتجاج لها بالدليل والدليلين، وما ذكرناه كاف لإثبات المدلول. 

******************

[1] – تذكرة الحفاظ 4/1327.

[2] – المحدث الفاصل: ص351 وص403، فما بعدها (تحقيق محمد عجاج الخطيب، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى 1391هـ.).

[3] – الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: 1/491 فما بعدها (تحقيق محمد عجاج الخطيب، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثالثة 1416هـ).

[4] – تحقيق ماكس فايسفايلر، تصوير دارالكتب العلمية، بيروت، 1401هـ.

[5] – النوع السابع والعشرون: معرفة آداب المحدث: 203 (تصحيح محمد راغب الطباخ، الطبعة الأولى 1350هـ. المطبعة العلمية بحلب)

[6] – تذكرة الحفاظ 4/1296.

[7] – تذكرة الحفاظ 4/1421.

[8] – وفيان الأعيان 3/449 (تحقيق إحسان عباس، دار صادر، بيروت، بدون تاريخ).

بقلم د/ محمد السرار

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق