مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

تاج العارفين سيدي ابن عطاء الله السكندري

   على قلوب العارفين تتنزل النفحات الإلهية لتضيء ساحتها بالأنوار الربانية، وتجذبها إلى حضرة المولى عز وجل، فيظل العارف مستهلكا في بحار التحقيق، فانيا في الله، قائما به، فلا يشهد غير محبوبه الأزلي، ولا انشغال له إلا بمعشوقه الأبدي، مصدر كل جلال وجمال وكمال…

   إنه الخضوع المطلق للحق تبارك وتعالى، الذي خصّ به صفوته من خليقته رضي الله عنهم أجمعين…، ومن أفذاذ أولئك الأئمة الأخيار، والصوفية الأبرار، قطب سماء العرفان، وليُُّ أفنى ذاته في محبة الرحمن…، إنه الإمام العابد، والصوفي الزاهد، والرباني الساجد، صاحب الأمداد والنور، سيدي ابن عطاء الله السكندري- رضي الله عنه-،علم من أعلام الصوفية الواصلين، المجمع على جلالتهم، من كبار الشيوخ العارفين، إمام أهل زمانه…

 نسبه:

    هو تاج الدين ، ومنبع أسرار الواصلين، أبو الفضل، سيدي “أحمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد بن عيسى بن الحسين بن عطاء الله، الجذامي نسبا، المالكي مذهبا، الإسكندري دارا، القرافي مزارا، الصوفي حقيقة، الشاذلي طريقة، أعجوبة زمانه، ونخبة عصره وأوانه، الجامع لأنواع العلوم من تفسير، وحديث، وفقه، وتصوف، ونحو، وأصول، وغير ذلك”.[1]

    كان “رجلا صالحا يتكلم على كرسي في الجامع بكلام حسن، وله ذوق ومعرفة بكلام الصوفية وآثار السلف، وله عبارة عذبة لها وقع في القلوب، وكانت له مشاركة في الفضائل، وكان من كبار القائمين على الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وكانت له جلالة”.[2]

 ملامح من سلوكه وعلمه

    كان سيدي ابن عطاء الله السكندري، “فقيها عالما ينكر على الصوفية، ثم جذبته العناية إلى اتباع طريقتهم الرضية، فصحب شيخ الشيوخ أبا العبّاس المرسي، وانتفع به، وفُتِحَ له على يديه بعد أن كان من المنكرين عليه، وسيرته معه…”.[3]

    وقد “أكبّ ابن عطاء الله على طلب العلوم الدينية من تفسير وحديث وفقه وأصول على الشيخ ناصر الدين بن المنير (ت683ھ-1284م)، كما تلقى علم الكلام والفلسفة على الشيخ شمس الدين الأصفهاني (ت683ھ-1284م)، كذلك برع في علوم اللغة من نحو وبيان، ولما شبّ سار على النهج المعارض للتصوف، فأنكر على أبي العباس المرسي تصوفه، وكان يناقش الصوفية ويعارضهم”.[4]

    وقد جرت بينه وبين أصحاب أبو العباس المرسي قبل صحبته إياه مقاولة، يحكي ذلك في “لطائف المنن”، فيقول: “وكنت أنا لأمره- يعني أبو العباس المرسي- من المنكرين، وعليه من المعترضين، لا لشيء سمعته منه ولا لشيء صحّ نقله حتى جرت بيني مقاولة وبين أصحابه، وذلك قبل صحبتي إياه، وقلت لذلك الرجل: “ليس إلا العلم الظاهر”؛ وهؤلاء القوم يدّعون أمورا عظيمة وظاهر الشرع يأباها…، وكان سبب اجتماعي به أن قلت في نفسي بعد أن جرت المخاصمة بيني وبين ذلك الرجل: “دعني أذهب أنظر إلى هذا الرجل فصاحب الحق له أمارات لا يخفى شأنه، فأتيت إلى مجلسه، فوجدته يتكلم في الأنفاس التي أمر الشارع بها، فقال الأول إسلام، والثاني إيمان، والثالث إحسان. وإن شئت قلت الأول شريعة، والثاني حقيقة، والثالث تحقق…، قال: “وعلمت أن الرجل إنما يغترف من فيض بحر إلهي، ومدد رباني، فأذهب الله ما كان عندي…، وصار رحمه الله تعالى من خواص أصحابه، ولازمه اثني عشر عاما حتى أشرقت أنواره عليه وفُتِح له على يديه ثم استقر في الأزهر يدرّس الفقه والتصوف”.[5]

    وقد قال له مرة شيخه أبو العباس المرسي: “إلزم فو الله لئن لزمت لتكون مفتيا في المذهبين، يريد مذهب أهل الشريعة أهل العلم الظاهر، ومذهب أهل الحقيقة أهل العلم الباطن”.[6]

    ولسيدي ابن عطاء الله السكندري، اليد الطولى في العلوم الظاهرة، والمعارف الباطنة، “إمام في التفسير والحديث والأصول، متبحر في الفقه، وله وعظ يعذب في القلوب، ويحلو في النفوس، وكان قد تدرب بقواعد العقائد الشرعية، وهذبته العلوم، فاستدل بالمنطوق على المفهوم، فساد بذلك العصابة الصوفية، فكان له من الرياسة شرب معلوم، وهو صاحب كتاب: “الحكم” الذي من تأمله قال: “ما هذا منشور، إن هذا إلا لؤلؤ منثور”، كل سطّر منه جنة قد حُفت بالثمار، وأحدقت بأنوار الأزهار، وكل شطر من سطر لو يباع بثمن بخس لاشتري بألف دينار”.[7]

  كراماته

    من كراماته رضي الله عنه، أن “الكمال بن الهمام زار قبره، فقرأ عنده سورة هود حتى وصل إلى قوله تعالى: ﴿فمنهم شقي وسعيد﴾،[8] فأجابه من القبر صوت عال: “يا كمال، ليس فينا شقي. فأوصى بأن يُدفن هناك”.[9]

    ومنها، أن رجلا من تلامذته حج، فرأى الشيخ في المطاف، وخلف المقام، وفي المسعى، وفي عرفة، فلما رجع سأل عن الشيخ: “هل خرج من البلد في غيبته إلى الحج؟” قالوا: “لا”… فدخل إليه وسلم عليه، فقال له: “من رأيت من الرجال؟” قال: “يا سيدي، رأيتك”… فتبسم وقال: “الرجل الكبير يملأ الكون، لو دُعي القطب من جحر لأجاب”.[10] 

ابن عطاء الله من خلال كتب المناقب والتراجم

    قال ابن حجر في كتابه: “الدرر الكامنة”: “صحب الشيخ أبا العباس المرسي صاحب الشاذلي، وصنّف مناقبه ومناقب شيخه، وكان المتكلم على لسان الصوفية في زمانه، وهو ممّن قام على الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وكان يتكلم على الناس، وله في ذلك تصانيف عديدة”.[11]

    وذكر ابن حجر في كتابه أيضا، أن الذهبي قال عنه: “كانت له جلالة عجيبة، ووقع في النفوس، ومشاركة في الفضائل، وكان يتكلم بالجامع الأزهر فوق كرسي بكلام يروح النفوس، ومزج كلام القوم بآثار السلف وفنون العلم، فكثُر أتباعه، وكانت عليه سيما الخير، ويقال: “إن ثلاثة قصدوا مجلسه، فقال أحدهم: “لو سَلِمتُ من العائلة لتجرّدت”. وقال الآخر: “أنا أصلي وأصوم ولا أجد من الصلاح ذرّة”. وقال الثالث: “أنا صلاتي ما تُرضيني فكيف تُرضي ربي”، فلما حضروا مجلسه، قال في أثناء كلامه: ومن الناس من يقول… فأعاد كلامهم بعينه”.[12]

    وذكره الشعراني في طبقاته، فقال: “الشيخ تاج الدين ابن عطاء الله السكندري رضي الله عنه، الزاهد المذكر، الكبير القدر، تلميذ الشيخ ياقوت رضي الله عنه، وقبله تلميذ الشيخ أبي العباس المرسي، كان ينفع الناس بإشاراته، ولكلامه حلاوة في النفوس، وجلالة”.[13]

    وقال الكمال جعفر: “سمع من الأبرقوهي، وقرأ النحو على الماروني، وشارك في الفقه والأدب، وصحب المرسي، وتكلم على الناس، وكثُر أتباعه”.[14]

    وقال ابن الأهدال: “الشيخ العارف بالله، شيخ الطريقين، وإمام الفريقين، كان فقيها، عالما، ينكر على الصوفية، ثم جذبته العناية، فصحب شيخ الشيوخ المرسي، وفُتِح عليه على يديه، والذي جرى له معه مذكور في كتابه: “لطائف المنن”، وله عدة تصانيف، منها: “الحكم”، وكلُّها مشتملة على أسرار ومعارف، وحكم ولطائف، نثرا ونظما. وما أحسن قوله في شيخه في بعض قصائده”.[15]

 مؤلفاته

 ترك ابن عطاء الله السكندري عدة مصنفات في التصوف، منها: 

– “الحكم العطائية”: وقد نالت شروحها الداني والبعيد، وقرأها الكبير والصغير، وما زالت مرجعا وافيا في لون متميز من ألوان السلوك الإنساني، والمعراج إلى حضرة القدس الأعلى”.[16] عالج في كتابه هذا، مختلف الموضوعات التي تحدث عنها الصوفية، ولعل أهمها: “كيف نستدل على الله، صلتنا بالله، التجريد والأسباب، الشهرة والخمول، دقائق الرياء…”.[17]

    وممن أفرد حكم ابن عطاء الله، نجد: «الشيخ زروق، سماه: “الحكم العطائية للقطب الجامع للشريعة والحقيقة”، وهو شرح ممزوج أوله الحمد لله الذي شرف عباده، وقد ذكر في بعض شروحه أن الحكم مرتب بعضها على بعض، فكل كلمة منها توطئة لما بعدها…، وشرحها أيضا محمد بن إبراهيم بن عباد النفزي الرندي الشاذلي، سماه: “غيث المواهب العلية”، ومنها أيضا شرح أبي الطيب إبراهيم بن محمود الأقصراني المواهبي الشاذلي الحنفي، سماه: “أحكام الحكم في شرح الحكم”، وشرح الشيخ محمد عبد الرؤوف المناوي، سماه: “الدرر الجوهرية”، وشرحها أيضا صفي الدين أبي المواهب، ومحمد بن إبراهيم المعروف بابن الحنبلي الحلبي…».[18]

 -“لطائف المنن في مناقب الشيخ أبي العباس المرسي وشيخه الشاذلي أبو الحسن”: وهو عبارة عن مقدمة وعشرة وأبواب وخاتمة، المقدمة في تفضيل النبي صلى الله عليه وسلم على جميع بني آدم، وذكر أقسام الولاية، وما تبقى تعريف بشيخه أبي العباس وبعلمه ومجرباته وما فسره من الآيات والأحاديث، وما ذكره من كلام أهل الحقائق ودعائه وشعره…، “ولهذا المؤلف قيمة كبرى في التعريف بآداب الطريقة الشاذلية، وقد حفظ ابن عطاء تراث الشاذلية الروحي من الضياع”.[19]

 -“التنوير في إسقاط التدبير”: ذكر ابن عطاء الله أنه ألفه بمكة ثم استدرك عليه بدمشق وزاد فيه. قال في مقدمته: “إذا طالعه المريد الصادق عرف أن المتلوث لا يصلح للحضرة القدسية”.[20]

 وله أيضا:

 – “تاج العروس الحاوي لتهذيب النفوس.

 – مفتاح الفلاح ومصباح الأرواح.

 – القول المجرد في الاسم المفرد”.[21]

 بعض حكمه

 قال سيدي ابن عطاء الله السكندري- رضي الله عنه-، في بعض حكمه:

 – ”الأعمال صورة قائمة، وأرواحها وجود سرِّ الإخلاص فيها.

 – اخرج من أوصاف بشريتك، عن كل وصف مناقض لعبوديتك، لتكون لنداء الحق مجيبا، ومن حضرته قريبا.

 – لا تصحب من لا ينهضك حاله، ولا يدلك على الله مقامه. 

 – أرح نفسك من التدبير، فما قام به غيرك عنك لا تقم به لنفسك.

 – من أشرقت بدايته، أشرقت نهايته.

 – من علامات النُّجح في النهايات، العودة إلى الله في البدايات.

 – الكون كله ظلمة، وإنما أناره ظهور الحق فيه، فمن رأى الكون ولم يشهده فيه أو عنده أو قبله أو بعده، فقد أعوزه وجود الأنوار وحُجبت عنه شموس المعارف بسُحب الآثار.

 – لا تترك الذكر لعدم حضورك مع الله فيه، لأن غفلتك عن وجود ذكره أشد من غفلتك في وجود ذكره، فعسى أن يرفعك من ذكر مع وجود غفلة، إلى ذكر مع وجود يقظة، ومن ذكر مع وجود يقظة، إلى ذكر مع وجود حضور، ومن ذكر مع وجود حضور، إلى ذكر مع وجود غيبة عمّا سوى المذكور،﴿وما ذلك على الله بعزيز﴾”،[22] (إبراهيم/20).

 وفاته

 توفي رحمه الله تعالى بالمنصورية سنة (709ھ،)[23] و”دفن بالقرافة بقرب بني الوفا قدّس الله أسرارهم”،[24] وقبره مشهور يُزار إلى يومنا هذا.

  رحمه الله تعالى ونفعنا به وبعلومه… آمين.

 

    الهوامش:


[1]– الحكم العطائية بشرح الشيخ زروق، أحمد زروق، تحقيق: رمضان محمد بن علي البدري، دار الكتب العلمية، بيروت، ط3، 1429ھ-2008م، ص: 9.

[2]– الوافي بالوفيات، صلاح الدين الصفدي، تحقيق: جلال الأسيوطي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 2010م، 6/214.

[3]– مرآة الجنان، أبو محمد عبد الله بن أسعد بن علي بن سليمان اليافعي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان،ط1، 1417ھ-1997م، 4/185.

[4]– الطريقة الشاذلية وأعلامها، محمد أحمد درنيقة، المؤسسة الحديثة للكتاب، طرابلس، لبنان، ط: 2009م، ص: 104-105.

[5]– لطائف المنن، ابن عطاء الله السكندري (ت707ﮪ)، تحقيق: خليل منصور، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1427ﮪ-2005م، ص: 81.

[6]– المصدر السابق، ص: 82.

[7]– الكواكب الدرية، محمد عبد الرؤوف المناوي، 2/271 

[8]– سورة هود، الآية: 105.

[9]– الكواكب الدرية، محمد عبد الرؤوف المناوي، 2/271-272.

[10]– المصدر السابق، ص: 272.

[11]– الدرر الكامنة، ابن حجر العسقلاني، دار الجيل، بيروت، ط: 1411ھ-1993م، 1/273.

[12]– المصدر السابق، ص: 274.

[13]– الطبقات الكبرى، الشعراني، تحقيق : عبد الغني محمد علي الفاسي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1427ھ -2006م، ص: 312.

[14]– شذرات الذهب، ابن عماد الحنبلي الدمشقي، تحقيق: محمود الأرناؤوط، دار ابن كثير، دمشق، بيروت، ط1، 1413ھ-1992م، 8/37.

[15]– المصدر السابق، ص: 37.

[16]– الحكم العطائية بشرح الشيخ زروق، أحمد زروق، ص: 10.

[17]– الطريقة الشاذلية وأعلامها، محمد أحمد درنيقة، ص: 107.

[18]– كشف الظنون، حاجي خليفة، دار الفكر، ط: 2007م، 1/520.

[19]– الطريقة الشاذلية وأعلامها، محمد أحمد درنيقة، ص: 105.

[20]– المصدر السابق، ص: 106.

[21]– الحكم العطائية بشرح الشيخ زروق، ص: 10-11.

[22]– اللطائف الإلهية في شرح مختارات من الحكم العطائية، بشرح إبراهيم الكيالي، دار الكتب العلمية، بيروت-لبنان، ط1،1424ﮪ/2003م، ص: 55-99.

[23]– الوافي بالوفيات، صلاح الدين الصفدي، 6/214.

[24]– الكواكب الدرية، محمد عبد الرؤوف المناوي، 2/271.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق