مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

تأملات منهجية في تدريس النحو العربي

                                            د.عدنان أجانَة

                                                  3

ثم إن الفحص عن منشأ هذا الأمر، يقودنا إلى القول بأن النحو تعتريه الصعوبة من جهتين: من جهة مادته، ومن جهة منهجه، ولنسم الأولى: بالصعوبة الذاتية. ولنسم الثانية: بالصعوبة المنهجية.

أما الجهة الأولى؛ فقد اقتضاها عاملان؛ عامل التجريد وعامل التمديد، أما عامل التجريد فغير خاف أن النحو ذو طبيعة تجريدية، لكونه قائما على تصور نظري، يسعى إلى توصيف دقيق لمجموعة من الظواهر اللغوية المطردة، وحصرها في أبواب جامعة، يكون فيها غنية لطالب العربية، يحصل بها ما يصون به لسانه عن الخطأ في التركيب، ويلتحق بالناطقين بها من أهلها.

وسبيل المعرفة التي هذا موضوعها أن تنحو منحى نظريا، وأن تجرد اللغة من مقامها التداولي، وسياقها الاستعمالي، وتختزلها في مجموعة من القواعد الناظمة، والأمثلة المختزلة، وفصل اللغة عن مقامها التداولي، يوثر سلبا في تعلمها وتعليمها،(1)

وقد تنبه سيبويه رحمه الله بذكاء بالغ إلى هذه النقطة، فربط النحو في كتابه بالبعد التداولي، واستحضر في تقريره لقواعده ثقافة المخاطب والمجتمع، وما ينبني على ذلك من دلالة وأوضاع وتراكيب. وقد ارتبط التحليل النحوي والبلاغي عنده بطرفي الكلام، “المتكلم والمخاطب” وأولاهما من العناية قدرا كبيرا يكشف عن مدى الوعي الكبير بالوظيفة التي نيطت بهما، ودورهما في دراسة الخطاب واللغة.

وقارئ الكتاب يلحظ ذلكم الارتباط القوي الذي يوليه سيبويه بين المتكلم والمخاطب، وكيف يجعل التفاهم اللغوي والقرائن الكلامية، هما المعول عليه في فهم المعنى.

فسيبيويه “لم يفصل اللغة عن واقعها ومحيطها الخارجيين، ولم يدرسها بعيدا عن أحوال متكلميها”(2) والمتكلم عنده “إطار عام يدخل فيه مفهوم النظام المعرفي، وما يترتب على هذا النظام من استعمال لغوي، واختيار وإرادة ومفهوم المشاركة في صياغة البنية اللغوية داخل مقام الكلام وظروف الخطاب المختلفة”(3).

“ويطول المقام لو أردنا بيان ما استقصاه النحاة العرب، مما يعرض لحال كل من المتكلم والمخاطب في مواقف الخطاب، أو ما تخصص به تراكيب معلومة لمواضع معلومة دون غيرها، أو ما يصح وما لا يصح من التراكيب اللغوية على وفق تصورنا للموقف الخارجي وعناصره وغير ذلك”(4). وكثيرا ما يعلق سيبويه تفسير بعض التراكيب أو صحتها أو ضعفها على المخاطب ومعرفته. فحضوره مؤثر في سياق الكلام ومنحاه.

بل يعد سيبويه البعد التداولي بعدا أساسيا في إنجاز الخطاب، وهذا يعني أن النحو يستضمر في بنيته المقام التدوالي للخطاب، ومن أمثلته التي أوردها في الكتاب قوله: “وذلك قولك إذا رأيت رجلا متوجها وجهة الحاج قاصدا فى هيئ الحاج فقلت: “مكة ورب الكعبة” حيث زكنت أنه يريد مكة كأنك قلت يريد مكة والله.. أو رأيت رجلا يسدد سهما قبل القرطاس، فقلت: “القرطاسَ والله” أى: يصيب القرطاس.

فهذه جمل أوردها سيبويه، كلها حذف منها المسند، والمسند ركن أساس في بناء الكلام، لكن المتكلم هنا، استعاض عن ذكره بالمقام، وذلك لما يوفره المقام من معطيات ودلالات تكمل النقص الحاصل في الكلام، ويقاس على هذا أنماط الحذف المذكورة في كتب البلاغة، التي يكون مرجعها ملاحظة قرينة في المقام تؤثر في بناء الكلام، فيسوق المتكلم كلامه وفقها.

وقد برزت قضية التجريد في النحو في الكتب المختصرة، والكتب المجردة من الشواهد، وغلب عليها التمثيل بزيد وعمرو،(5) لكون منهجها قائما في الأساس على الاختصار المحوج إلى ذكر المهمات، والاقتصار على الضروري من المسائل، فمن ثم كان النحو عندها قانونا مجردا. 

وهو إذا ألقي إلى الناشئة في أول عهدهم بالطلب، ولم يكن لهم مران بالأدب ورواية الشعر، رسخ عندهم المحفوظ النحوي، وصار حظهم الغالب عليهم من النحو الحفظ والرواية، دون الفهم والدراية. وهذا ينعكس على أدائهم اللغوي نطقا وكتابة، وهو مؤذن بالانفصال بين النظر والتطبيق، لكون النحو عندهم لم يتم إدراجه في البعد التداولي للغة، بل صار قانونا مجردا يتلى، وناموسا يحفظ. ولنسم هذا العامل بالتجريد.

ـــــــــــــــ

1)    تؤكد اللسانيات الوظيفية على أن اللغة لا يمكن تعلمها ولا تعليمها إلا إذا ربطت بمقاماتها التواصلية، وسياقات استعمالها، ينظر اللسانيات الوظيفية مدخل نظري د أحمد المتوكل ص 15

2)    أثر سياق الكلام في العلاقات النحوية عند سيبويه سارة الخالدي رسالة مقددمة لاستكمال متطلبات نيل شهادة (الماجيستر) في الجامعة الأميركية في بيروت ص 57

3)    من قضايا النظرية اللغوية العربية الدكتور بودرع ص 17

4)    علم اللغة الاجتماعي الدكتور هادي نهر ص 205

5)    ولا زال هذا التمثيل ساري المفعول في الكتب المصنفة حديثا، ككتب الدكتور تمام حسان رحمه الله.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق