مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

تأملات بلاغية في سورة القدر

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمي، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين

أما بعد:

فالبلاغة علم مرتامه الناهج القاصد دركُ ما اكتنَّ في كلام الله من لطيف المعاني، وبديع المباني، مما استوجب به وسم الإعجاز…

بيد أنه درك لا ينبغي أن يسلك فيه مسلك التسليم والتفويض، وإلا صار الوصف غير محيل على حقيقة الموصوف،  بل لابد أن يسلك به سبيل التمثل والتعقل، إذ للإعجاز وجوه تقتضيه، وللاستحسان علل تستوجبه وتستدعيه،  وقد جاهر بذلك أرباب البلاغة على مر العصور، وتعاقب الدهور، من ذلك قول شيخ البلاغة عبد القاهر الجرجاني :” وجملة ما أردت أن أبينه لك: أنه لا بد لكل كلام تستحسنه، ولفظ تستجيده، من أن يكون لاستحسانك ذلك جهة معلومة، وعلة معقولة، وأن يكون لنا إلى العبارة عن ذلك سبيل، وعلى صحة ما ادعيناه دليل”[1]

وإذا كانت وجوه الاستحسان في آي الذكر الحكيم لا تحصى، ومعانيه البلاغية  لاتستقصى، فإن مُتقصد هذا المقتضب من القول:  الإيماءُ إلى بعض ما اشتملت عليه سورة القدر من لطيف المعاني، وبديع الإشارات البلاغية، مما افتر عنه التأمل، واستبان بعضا من هديه التدبر، دون أن أبلغ بالقول البلاغي في السورة أقصاه، وأنتهي به إلى مداه، إذ اللطائف البلاغية في آي الذكر الحكيم  – كما قال شيخ البلاغة – ” لا يحصرها العدد، ولا ينتهي بها الأمد”[2]

وقد جعلت محصولها في ثلاث قضايا:

أولا: من بلاغة الجملة في السورة

تنوعت الجملة في السورة من حيث الفعلية والاسمية إلى نوعين: الفعلية، والاسمية، يوضحهما الجدول الآتي:

نوعهاالجملة
فعليةإنا أنزلناه
اسمية ( باعتبار الجملة الكبرى )وما أدراك ما ليلة القدر
اسميةليلة القدر خير…
فعليةتنزل الملائكة…
اسميةسلام هي…

نلاحظ إذن أن السورة تكونت من خمس جمل، ثنتان منها فعليتان، وثلاث منها اسمية،

ولا شك أن هذا الاختيار له مدلوله البلاغي، وباعثه البياني، ذلك أن الجملة الاسمية –  كما هو مقرر في علم البلاغة – تدل على التجدد والحدوث،بينما الجملة الاسمية تدل على الثبوت والدوام.

 وإذا تأملنا السورة نجد أن فيها ما هو ثابت، وما هو متجدد، فاختير للمتجدد ما يدل على التجدد، وللثابت ما يدل على الثبوت:

فالمتجدد في السورة هو:  الإنزال، ومتعلقه في السورة أمران

أ – نزول القرآن، فقد تحدثت السورة عن بداية الإنزال[3]  مما يعني استمراريته وتجدده حسب الواقع والأحداث،  مدة ثلاث وعشرين سنة.

ب – تنزل الملائكة، فتنزل الملائكة وجبريل عليه السلام، يتجدد في كل ليلة قدر، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فالنزول والتنزل كلاهما يقتضي تجددا،ـ فلذلك عبرا عنهما بالجملة الدالة على ذلك.

أما الجانب الثاني في السورة، فهو الثبوت والدوام، والثبوت في السورة من ثلاث جهات:

أ – ثبوت الخيرية، إذ معلوم أن هذا الفضل الذي اختص الله به تعالى ليلةَ القدر وما ثبت لها من شريف المقام، وعظيم المنزلة، لا يناله تغيير، فهو ثابت ثبوت الليلة، كائن ما كانت، ولذلك عبر عن هذا المعنى بجملتين اسميتين: وما أدراك ما ليلة القدر / ليلة القدر خير من ألف شهر.

ب –  ثبوت ما يقدره الله تعالى في هذه الليلة، إذ معلوم أن هذه الليلة يقدر الله فيها ما يقع في تلك السنة من الوقائع والأحداث، كما ذكر الله تعالى ذلك في سورة الدخان، ولا ريب أن هذا التقدير منه سبحانه وتعالى، ثابت لا يعتريه تغيير ولا تبديل، ولذلك عبر عنه سبحانه وتعالى بما يفيد ذلك من الجمل.

ج – ثبوت السلامة،  فقد وصف الله سبحانه وتعالى هذه الليلة بأنها (سلام) وهذه الصفة ثابتة لها لا يعتريه تغيير، فلذلك كان الجملة المعبرة عنها اسمية تفيد الدوام والثبوت.

فكان المحصول إذن أن مدار السورة على التجدد والثبوت، فعبر عن كل معنى بما يناسبه من الجمل، وذلك من وجوه البلاغة في السورة.

ثانيا: من بلاغة الضمير في السورة

من وظائف الضمير البارز في العربية: الربط بين عناصر النص، فيغدو النص وحدة متكاملة في غاية من  الانسجام، والتماسك.

وهذه الخلة للضمير تقتضي أن يكون مرجعه معلوما للمخاطب، سابق الذكر له، فلا يمكن أن يضمر الاسم إلا وقد علم السامع على من يعود[4].

وبالأوبئة إلى (سورة القدر) نجد أنها قد ابتدئت بضمير بارز متصل (أنزلناه) دون أن يكون لمرجع هذا الضمير تقدم ذكر، ولذلك كان للمفسرين والمعربين مذاهب في مرجع الضمير[5]، والسؤال الذي أطرحه في ذا المقام: لماذا لم تجر الآية على المعهود في الاستعمال من الإضمار بعد الذكر، وجاءت بالإضمار بدون ذكر، ما هي النكتة البلاغية التي يمكن استنباطها، بعيدا عن تأويلات المعربين،

 يمكن أن نلحظ ذلك في أمرين:

الأمر الأول: الإشارة إلى حضور الكتاب في قلوب ووجدان المسلمين، علما وعملا وأخلاقا، فهذا الذكر الاعتباري، أعظم من الذكر اللفظي، فكان في ذلك إشارة إلى عظمة هذا الكتاب في نفوس مصدقيه، وحضوره في كل مناحي حياتهم، حتى كأن الإشارة إليه بالضمير لم يعد يستوجب ذكره بصريح اللفظ، وإلى معنى ذلك  يشير صاحب التحرير والتنوير بقوله:” وفي الإتيان بضمير القرآن دون الاسم الظاهر إيماء إلى أنه حاضر في أذهان المسلمين، لشدة إقبالهم عليه، فكون الضمير دون سبق معاد إيماء إلى شهرته بينهم”[6]

الأمر الثاني: الإشارة إلى دقة موضع وضع السورة في الترتيب المصحفي، ذلك أنها جاءت بعد سورة العلق، وسورة العلق هي أول سورة بدأ بها النزول، فكأن الضمير في (أنزلناه) إشارة إلى النزول المذكور في سورة العلق، وبهذا يحقق الضمير بلاغة المناسبة بين السورتين.

ثالثا: من بلاغة الفصل والوصل في السورة  

للفصل والوصل بالغ الأهمية في علم المعاني، حتى حصرت البلاغة في بعض حدودها في معرفة الفصل والوصل، لما له من دقيق الدلالة والمغزى، وما يستوجبه وضعه الصائب من صحيح المبنى والمعنى… تفصح السطور الآتية عن بعض منه:

سلف أن هذه السورة تتكون من خمس جمل، والملاحظ أن هذه الجمل جاءت مفصولة عن بعضها[7]، وفيما يلي بيان لبواعث ذا الفصل:

أما جملة (وما أدراك ما ليلة القدر) ، فهي جملة معترضة بين جملتي: ( إنا أنزلناه)  وجملة ( ليلة القدر خير )، فلذلك فصلت، أما وظيفة هذا الاعتراض، فهو تفخيم شأنها، وتعظيم أمرها، وأن إدراك ذا التعظيم ليس بالشيء السهل إذ كلمة ( وما أدراك ما كذا) تقال في تعظيم الشيء وتفخيمه، فالجملة الاعتراضية إذن، أفادت نوعا من الإبهام، الذي غرضه تشويق السامع، ليتمكن الخبر في ذهنه تمكنا خاصا.

أما الجملة الثالثة وهي قوله تعالى ( ليلة القدر خير من ألف شهر ) فقد أزالت بعض الإبهام الذي أفادته الجملة السالفة، فهي من الأولى بمنزلة المفسّر، فلذلك لم تعطف عليها، لأن بينهما كمال الاتصال، والوصل شأنه المغايرة.

 وإذا كانت هذه الجملة أزالت بعض الإبهام فإن الجملة الرابعة وهي قوله ( تنزل الملائكة ) أزالت بعض ما قد يبقى عالقا بالذهن من الإبهام، فاكتملت بذلك الصورة المشرقة لليلة القدر في ذهن المتلقين، فلذلك هذه الجملة الرابعة أيضا مفصولة لأنها بيان، فهي بمنزلة التوكيد من الأولى، فكان شرف ليلة القدر المستفهم عنه في جملة ( وما أدراك )  من جهتين: من جهة  كونها ( خير من ألف شهر )  ومن جهة كونها ( تتنزل فيها الملائكة والروح فيها ) ، ولو تم الوصل بين هذه الجمل لما أفادت هذا المعنى.

وجاءت الجملة الأخيرة  لتكون غاية في التوكيد والإيضاح، منسوجة على منوال سالفتها من الفصل، إمعانا في الإيضاح والبيان.

وليس يخفى أن ما ذكر في هذه العجالة من المسائل البيانية في السورة إنما هو قلّ من كثر، وإلا فهناك ظواهر بلاغية أخرى تزخر بها السورة : كالتعريف والتنكير،  والحذف والذكر، والتقديم والتأخير…


[1]  ـ دلائل الإعجاز ص 40.

 ـ دلائل الإعجاز ص 40.[2]

 ـ على رأي من ذهب إلى أن المراد بقوله (أنزلناه):بدأنا إنزاله.[3]

 ـ ينظر المفصل لابن يعيش 2/54[4]

 ـ ينظر المحرر الوجيز 5/504. والفريد في إعراب القرآن المجيد 6/ 433.[5]

[6]  ـ التحرير والتنوير 30/456.

[7]  ـ وذلك لأن الواو في قوله: ( وما أدراك ) ليست للعطف وإنما هي للاستئناف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق