مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةدراسات عامة

تأثير البرهانية على الفكر الأشعري بالمغرب

في مقال سابق رأينا كيف انتشرت المرشدة للمهدي بن تومرت وسيطرت على الساحة العقدية بالمغرب خلال فترة حكمه وبعده، وكيف تحول المغاربة في المجال العقدي من تصور سلفي إلى تصور يقوم على التأويل بفضل “المرشدة”، وكيف جرت دروس العلماء بالمساجد بها وشروحهم عليها في مختلف الآفاق المغربية، وذلك لسهولتها ووجازتها وسلامتها من الانحرافات العقدية.
      وفي هذا المقال نقف على عقيدة أخرى لنرى مدى إسهامها وتأثيرها على الفكر الأشعري بالمغرب، وتلك هي “العقيدة البرهانية” لأبي عمرو عثمان السلالجي(ت574هـ).
يقول الأستاذ جمال علال البختي في كتابه”عثمان السلالجي ومذهبيته الأشعرية” : «لقد كان لوجازة “العقيدة البرهانية” وحسن اختزالها ولاتفاقها مع الاتجاه العقدي الرسمي للمغاربة، بالغ الأثر في سرعة انتشارها بالأوساط الخاصة والعامة بالمغرب، مما دعا غير واحد من المتخصصين في أمور العقيدة إلى العناية الخاصة بها حفظا ودرسا وشرحا، سواء في عهد الدولة المو حدية أو في العهود التي جاءت بعدها.
     وإذا كانت”مرشدة المهدي” قد ضمن لها الانتشار بفضل رعاية السلطان حيث كان ابن تومرت نفسه يعلمها الناس ويأمر بحفظها، كما أن عبد المؤمن أخذ عامة الناس بحفظها وفهمها ونشرها وسعى إلى تحقيق ذلك بالترغيب والترهيب..إذا كانت”المرشدة التومرتية” قد نالت هذه الحظوة السلطانية والسلطوية، باعتبار أن الجانب العقدي شكل ركنا أساسيا في دعوة الموحدين، فإن “برهانية السلالجي”[أو”العقيدة البرهانية” لأبي عمرو السلالجي] لقيت قبولا تلقائيا من طرف المغاربة، لكونها-على وجازتها واختزالها- تعطي تصورا عاما ودقيقا عن أصول وأركان العقيدة، بحيث يخرج قارئها بنظرة وافية عما يجب أن يعتقده في حق الله [تعالى] وصفاته ورسله والأخبار الغيبية المرتبطة بالرسالة، كما يخرج بموقف واضح من موضوع الإمامة وشروطها..الخ. عكس”المرشدة التومرتية” التي كانت ناقصة في عدة جوانبها وقصرت في إعطاء التصور العام لأركان العقيدة الإسلامية، كما أهملت مواضيع عقدية أساسية ومهمة في تلك العقيدة، واكتفى صاحبها بالبحث في المواضيع التالية: وحدانية الله- خالقيته المطلقة- خضوع الخلائق له- أزلية وجوده- تنزيهه عن المكان والزمان- تنزيهه عن الشبيه والمثيل- قيوميته- علمه المحيط بكل شيء- قدرته- إرادته- استغناؤه- عزته- بقاؤه- مشيئته المطلقة-وعدله وفضله- سمعه وبصره. وأما ما عدا ذلك من المواضيع المتعلقة بالإلهيات والإنسانيات والنبوات فلم تتعرض له “المرشدة” بسبب أن تأليفها كان في بداية مشوار ابن تومرت الدعوي، فلم تكن آراؤه فيها قد استوت بعد، كما أن تأليفها طغت عليه نوايا سياسية، فلم تهتم ببقية العناصر التي يمكن أن تشوش على تلك الأهداف والغايات.
     وعلى هذا فإن انتشار “برهانية السلالجي” يكون نابعا من رغبة علمية لدى المغاربة بعيدا عن أي تأثير للهيئات والسلطات الحاكمة. ويتأكد هذا خصوصا إذا علمنا بأن “البرهانية” تضمنت – كما ألمحنا ذلك آنفا- فصلا يطعن في أحقية الدولة الموحدية في الإمامة وتوليها لتسيير شؤون الأمة..
إن الإشارة إلى أهمية الاختيار الشعبي للبرهانية في أوساط المغاربة يؤكد بأن تأثير السلالجي في الفكر العقدي المغربي يوازي- إن لم نقل يفوق- التأثير الذي مارسته “مرشدة المهدي بن تومرت” فيه. ويكفي للبرهنة على ذلك أن نجري إحصاء ومقارنة لعدد الشروح التي وضعت على “المرشدة” مع تلك التي وضعت على “البرهانية” للتأكد من ذلك…
[ويمكن القول بأن المرشدة من خلال دراسة هذه الشروح] عجزت عن تلبية حاجات المغاربة العقدية، ولم تكفهم مشقة الرجوع إلى المؤلفات العقدية الأخرى لاستكمال قناعاتهم واعتقاداتهم في الأمور الكلامية»[1].
ويقول عبد الله كنون في شهرتها: «وأما بعد ومع قبل، فإن ما حصل به الشيخ على الشهرة الواسعة وأبقى له الذكر الحسن في الناس، هو هذه المقدمة العقدية التي شهرت “بالبرهانية” واقترنت بذكر جهاده في بث عقيدة أهل التأويل، ومحاربة عقيدة أهل التسليم الذين يسمونهم على سبيل المغالطة مجسمين». [2]
ويقول يوسف احنانة عن أبي عمرو السلالجي وبرهانيته: «المفكر الأشعري المغربي الذي رفع بعض المؤرخين درجته في علم الكلام بالغرب الإسلامي إلى درجة أبي المعالي الجويني في المشرق، وذلك لاطلاعه الواسع بأمور علم الكلام الأشعري من جهة، ولدوره الكبير في بث ونشر المذهب الأشعري بالمغرب، حتى قيل عنه إنه هو الذي أنقذ أهل فاس من التجسيم أي أنه أسهم إسهاما كبيرا في تكريس المذهب الأشعري مذهبا رسميا لدولة الموحدين في وقت كانت فيه العامة على مذهب أهل التسليم والتفويض..». [3]
ويضيف الأستاذ جمال البختي توضيحا حول انتشار البرهانية قائلا: «أما “العقيدة البرهانية” فيمكن لمن اطلع على نصها أن يؤكد أن وجازتها لم تكن على حساب مباحثها ومواضيعها، إذ إن مؤلفها كان حاذقا في اختصارها، متناولا في مباحثها لكل الجوانب العقدية التي نص عليها الإسلام، بل إن منهجه فيها، وتقسيمه لموضوعاتها ينبئ عن اطلاع واسع وخبرة كبيرة بمباحث العقيدة وبمسائل الكلام، لهذا اندفع الشراح إلى العناية بها وأسهب المتكلمون المغاربة في توضيح فصولها وبسط قضاياها…فلم يخل قرن من القرون التي تلت وفاة السلالجي من تأليف يرتبط بالعقيدة البرهانية شرحا لها أو اختصارا لشرح أو نظما لمسائلها، مما يجعلنا نعلن بكل اطمئنان أن تأثير هذه العقيدة على الفكر العقدي بالمغرب كان يفوق تأثير مرشدة المهدي وآرائه..»[4].
ويقول يوسف احنانا عن “البرهانية” وعن شروحها وانتشارها: «فقد عكست بالفعل العقيدة الأشعرية الرسمية للبلاد، ولعل شمولها لمجموع ما ينبغي اعتقاده، واختصارها، وسهولة تناولها لهي من بين الدواعي الحقيقية التي جعلت الشراح يتولونها بالشروح المتوسطة والطويلة ويعتنون بها الاعتناء الكبير والمهم، فعلى امتداد قرون من تاريخ الغرب الإسلامي تعاقب على شرحها رهط كبير من الشراح، بدءا من تلاميذه المباشرين كابن الكتاني ومرورا بالخفاف وابن بزيزة واليفرني والعقباني ووصولا إلى أحمد بابا التنبكتي»[5].
وحول العوامل التي ساهمت في انتشارها يقول الأستاذ جمال البختي: «إن ما يؤكد سيطرة العقيدة البرهانية على الساحة الكلامية في المغرب خلال هذا القرن [ويقصد به التاسع الهجري] ويثبت أنها عمَّت كل ربوعه وتغلغلت عند المغاربة في كل الأنحاء، أن نجد أحد علماء سوس وهو عبد الرحمن السملالي يشارك بإصدار تأليف يشرح فيه مسائلها..[ويضيف] وأصبح من اللازم على الطالب أن يطلع على نصها ويدرسه إن هو أراد التخرج في علم الكلام. كما يؤكد هذه الأهمية أن السنوسي نفسه-رائد الفكر الأشعري في القرن التاسع الهجري وما بعد-جعل هذه البرهانية بين أهم مصادره..»[6].
ويقول أيضا: «إن العقيدة البرهانية صارت –إذن- المصدر الأساسي والأول الذي ينهل منه طلبة العلم والباحثون في علم الكلام الأشعري، فيخبرنا ابن غازي أن عقائد السلالجي هي التي كانت تدرس قبل ظهور الشيخ السنوسي، ولم يعد تدريس ودراسة هذه العقيدة عملا علميا فقط، بل أصبح تدريسها ودراستها-عند بعضهم- أمرا عباديا ارتقى الأمر فيه مؤخرا إلى درجة أن بعض المحسنين قاموا بتحبيس أموالهم عليها، وأوقفوا الأوقاف الخيرية من أجل ضمان دراستها وشيوعها..[ويضيف] فها نحن نرى كيف استطاع هذا المؤلف العقدي المختصر الذي وضعه السلالجي لخيرونة أن يخترق الآفاق ويصل أقاصي البلاد الإسلامية-حتى وجدت له نسخ بتركيا وآسيا- ووقفت عليه الأوقاف والأحباس واعتنى الناس به عناية بالغة..»[7].
ويقول يوسف احنانا في تقرير تفوقها على باقي العقائد التي كانت منتشرة قبلها: « نحن لن نبالغ إذا قلنا إن أهمية العقيدة البرهانية جعلتها تتفوق على جميع كتب العقائد الأشعرية في الغرب الإسلامي في هذه الفترة، بحيث لم يستطع أي كتاب ولا رسالة أن ينهض بمثل هذا الدور، ويقوم بمثل هذه المهمة، وحتى عقيدة ابن تومرت المرشدة لم يتأت لها أن تضاهي بامتياز عقيدة السلالجي هذه، وما ذلك إلا لأن البرهانية تتميز بشمولها لمجموع ما تدور عليه عقيدة الأشعرية، في حين لا تتطرق مرشدة ابن تومرت لكثير مما يجب اعتقاده في هذا المذهب، بالإضافة إلى صفاء البرهانية وخلوها من أية شبهة غير أشعرية..».[8]يقول الأستاذ جمال البختي: «والواقع أن البرهانية لم تنل هذه الحظوة والمرتبة ولم تحرز هذا السبق بين مؤلفات العقيدة بالمغرب إلا لدقة العمل الذي سلكه فيها مؤلفها من جهة، ومن جهة أخرى بفضل موافقتها للخط العام الذي صارت عليه عقيدة المغاربة منذ عصر السلالجي واتفاقها مع توجههم الأشعري. فقد كان المغاربة متشبثين بالفكر الأشعري مهتمين بآرائه لأنهم-اعتقدوا- أنه يعكس مذهب أهل السنة والجماعة، ولم يكن هذا الأمر مقتصرا على مغرب البلاد الإسلامية فقط بل إن العقيدة الأشعرية كانت صاحبة القول الفصل في جل بقاع العالم الإسلامي. فلا عجب أن يلقى مؤلف السلالجي المذكور هذا الاهتمام المتزايد وتلك الحفاوة البالغة التي ترجمت إلى دراسات وشروح واختصارات أثبتت أهمية وقيمة العقيدة البرهانية وركزت مبادئها في نفوس المغاربة الأشاعرة..».[9]ومن هنا يخلص الأستاذ عبد الله كنون إلى القول بأنه: «يظهر من هذا أن الناس اعتنوا بها كثيرا وأنها أخذت دورا كبيرا بين أمهات العقائد، فشرحت بعدة شروح، ورويت بروايات مختلفة فضلا عن اعتمادها الدراسة غير قليل من الزمن». [10]
[وكخلاصة يتبين] أن آراء السلالجي الكلامية التي عكستها عقيدته البرهانية آراء أشعرية واضحة، اتسمت بالدقة المنهجية وبالتركيز على أسس وأصول القضايا التي تنبني عليها المواقف الكلامية الجزئية..[هذه الآراء التي كانت تصدر] عن مواقف مشابهة للمدرسة الأشعرية المشرقية في مرحلتها الوسطى، إذ كانت آراؤه تقترب إلى حد بعيد من آراء الغزالي وخصوصا من آراء الجويني في الإرشاد، لدرجة ذهب معها كثير من الباحثين والمتكلمين إلى القول بأن البرهانية ما هي في الواقع إلا مختصر لكتاب الإرشاد..

                                                           إعداد الباحث: منتصر الخطيب

 

الهوامش:

[1] “عثمان السلالجي ومذهبيته الأشعرية”(دراسة لجانب من الفكر الكلامي بالمغرب من خلال”البرهانية” وشروحها) للأستاذ الدكتور جمال علال البختي-منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية-الطبعة الأولى/2005-ص:197 وما بعدها.
[2] ذكريات مشاهير المغرب- عبد الله كنون – مركز التراث الثقافي المغربي- الدار البيضاء -دار ابن حزم/ بيروت-الطبعة الأولى/2010 – ج/1- ص: 263وما بعدها.
[3] تطور المذهب الأشعري في الغرب الإسلامي-تأليف الأستاذ يوسف احنانا-منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية/2003-ص:112وما بعدها.
[4] عثمان السلالجي ومذهبيته الأشعرية- جمال علال البختي ص:197 وما بعدها.
[5] تطور المذهب الأشعري- يوسف احنانا- ص: 263وما بعدها.
[6-7] عثمان السلالجي ومذهبيته الأشعرية- جمال علال البختي ص:197 وما بعدها.
[8] تطور المذهب الأشعري- يوسف احنانا- ص: 263وما بعدها.
[9] عثمان السلالجي ومذهبيته الأشعرية- جمال علال البختي ص:197 وما بعدها.
[10] ذكريات مشاهير المغرب- عبد الله كنون- ج/1- ص: 271.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق