مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

“بَلاغَة المَعْنَى” في “أسرار البلاغَة” (الحلقة الأولى)

 

إنَّ أَبرَزَ قَضِيَّةٍ يُمْكِنُ الحديثُ عَنهَا في إِطارِ تَصَوُّرِ عَبدِ القاهرِ لِبنْيَةِ المَعْنَى الشِّعرِيِّ  البليغ، أو الصّورَةِ الشعرية البليغَة، هِيَ أنَّ لَهُ رُؤيَةً دَلالِيَّةً واضِحةً في وَصْفِهِ لِنَظْمِ الشِّعْرِ.

ولَيْسَ المُرادُ بالرُّؤْيَةِ الدَّلاَلِيةِ اختزالَ التَّصَوُّرِ إِلى قَضِيَّةِ “اللَّفْظِ والمعنَى” التي طالَ الجَدَلُ فيها، وَصُنِّفتْ مَذاهِبُ النَّقْدِ العَرَبِيِّ القَديمِ وفْقَهَا، وعُدَّتْ مُجَرَّدَ مَسْأَلَةٍ لُغَوِيَّةٍ لِتَصَوُّرِ صِناعَةِ الشِّعرِ ومساَلِكِ القَوْلِ الأُخْرَى. ولَكِنَّ المَقْصُودَ بِالرُّؤْيَةِ الدَّلالِيَّةِ تِلكَ النَّظرَةُ التي تَرجِعُ مزايا الكَلامِ البَليغِ إِلى قِيَمِ المَعنى بِمَراتِبِهِ ومَظاهِرِهِ المُختَلِفَةِ، هذِه القِيَم التي تُحَدِّدُ نَوعَ الصِّياغَةِ اللَّفظِيَّةِ وَطريقَةَ النَّظْمِ والتَّركيبِ المُناسِبَةَ. وَيُمكِنُ أن نَنْعَتَ بَلاَغَةَ عبدِ القاهِر في “أسْرارِ البلاغَةِ” بِأنَّها تقعيدٌ لِلْمَعْنَى أو وَضْعُ نحوٍ للمَعْنى الشِّعريِّ؛ وذلِك لأنَّه يُديرُ كلامَهُ كُلَّهُ على طُرُقِ الإمْساكِ بِأَطرافِ المَعنَى وتقييدِ أوابدِه.

وَتتمَيَّزُ هذِه الرُّؤيةُ الدَّلالِيَةُ بميزَةِ الشُّمولِ والاستِقْطابِ لأنَّها تَسْري في كلِّ أَدواتِ التَّحلِيلِ وتَستَغرِقُ أجزَاءَ الرُّؤْيَةِ وتفاصيلَها. وَأكبَرُ دَليلٍ على تَصَوُّرِهِ المَذكورِ قَوْلُهُ:

“غَرَضي في هَذا الكَلاَمِ الذي ابْتَدَأتُهُ والأساسِ الذي وَضَعتُهُ أنْ أَتَوَصَّلَ إِلى بَيَانِ أَمْرِ المَعَاني كَيْفَ تَختَلِف و تَتَّفِقُ، ومِن أَيْنَ تَجْتَمِعُ وَتَفتَرِقُ وأُفَصِّل أَجناسَها وأَنواعَها، وأتَتَبَّع خاصَّها ومُشاعَها، وأُبَيِّنُ أَحْوالَها في كَرَمِ مَنْصِبِها مِن العَقْلِ وَتَمَكُّنِها في نِصَابِهِ، وَقُرْبِ رَحِمِها مِنهُ أو بُعدِها حينَ تنْسبُ عَنْهُ… وَهَذَا غَرَضٌ [أي بيانُ أمْرِ المَعَاني] لا يُنالُ عَلى وَجْهِهِ، وطَلِبَةٌ لا تُدرَكُ كَما يَنبَغِي إِلاَّ بَعدَ مُقَدِّماتٍ تُقَدَّمُ وَأصولٍ تُمَهَّدُ وَأشْياءَ هِيَ كَالأدَواتِ فيهِ حَقُّها أنْ تُجمَعَ”. وَقَوْلُهُ: “وَأَوَّلُ ذَلِكَ وأوْلاَهُ، وأَحَقُّه بِأَنْ يَستَوفِيَهُ النَّظَرُ وَيَتَقَصَّاهُ، القَوْلُ على التَّشْبيهِ والتَّمثيلِ والاستِعَارَةِ، فَإِنَّ هَذِهِ أُصُولٌ كبيرَةٌ كأنَّ جُلَّ مَحاسِنِ الكَلاَمِ – إن لَمْ نَقُل كُلَّها – مُتَفَرِّعَةٌ عَنهَا وراجِعَةٌ إِلَيْهَا، وكَأنَّها أَقْطابٌ تَدور عَلَيْها المعاني في مُتَصَرَّفاتِها…” (1)
هذا نصٌّ جامِعٌ يَتَحَدَّثُ فيهِ عبدُ القاهِرِ عَن أُصُولِ النَّظَرِ في بِنيَةِ المَعْنَى الشِّعرِيِّ، وسَمَّى أًصولَ النَّظَرِ هذِهِ باسْمٍ جامِعٍ هُوَ “بَيانُ أمرِ المَعَاني”، وهُوَ مُصْطَلَحٌ لِصِناعَةٍ أَوْ فَنٍّ أوْ عِلْمٍ وَضَعَهُ هُوَ نَفْسُهُ  وسُمِّيَ فيما بَعدُ بالبَيانِ، ويُمكِنُ أَن نَقول إنَّهُ أَنشأَ كِتابَ الأسْرَارِ لِتَمحيصِ رُؤيَةٍ واَضِحَةٍ، مَفاَدُهاَ أَنَّ قوامَ العَمَلِ الأَدَبِيِّ بِنيَةٌ دَلاَلِيَةٌ مُتَماسِكَةٌ في صُورَتِهاَ مُتَحَكِّمَةٌ في طَرِيقَةِ الصِّيَاغَةِ المُعَبِّرَةِ عَنهَا. ومَدارُ تَصَوُّرِ الرَّجُلِ عَلى بَيَانِ أَمْرِ المَعَاني فِي حالَتَي التَّحلِيلِ وَالتَّرْكِيبِ، وعَلَى مَنْهَجِهِ في مُعَايَنَةِ تَحلِيلِ المَعانِي وضَوَابِطِ تَركيبِهَا، وسَمّى طَرِيقَتَهُ فِي المُعَايَنَةِ بِالمُقَدِّمَةِ وَالأًصُولِ والأَدَواتِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أسرار البلاغة: 26-27. وأشار الشّيخ رشيد رضا إلى أن عبارة: “الأساس الذي وضعته” نصّ من عبد القاهر على أنه هو الواضع لهذا الفنّ: [هامش (1) ص:19، من طبعة المنار].

“غَرَضي في هَذا الكَلاَمِ الذي ابْتَدَأتُهُ والأساسِ الذي وَضَعتُهُ أنْ أَتَوَصَّلَ إِلى بَيَانِ أَمْرِ المَعَاني كَيْفَ تَختَلِف و تَتَّفِقُ، ومِن أَيْنَ تَجْتَمِعُ وَتَفتَرِقُ وأُفَصِّل أَجناسَها وأَنواعَها، وأتَتَبَّع خاصَّها ومُشاعَها، وأُبَيِّنُ أَحْوالَها في كَرَمِ مَنْصِبِها مِن العَقْلِ وَتَمَكُّنِها في نِصَابِهِ، وَقُرْبِ رَحِمِها مِنهُ أو بُعدِها حينَ تنْسبُ عَنْهُ…

وَهَذَا غَرَضٌ [أي بيانُ أمْرِ المَعَاني] لا يُنالُ عَلى وَجْهِهِ، وطَلِبَةٌ لا تُدرَكُ كَما يَنبَغِي إِلاَّ بَعدَ مُقَدِّماتٍ تُقَدَّمُ وَأصولٍ تُمَهَّدُ وَأشْياءَ هِيَ كَالأدَواتِ فيهِ حَقُّها أنْ تُجمَعَ”. وَقَوْلُهُ: “وَأَوَّلُ ذَلِكَ وأوْلاَهُ، وأَحَقُّه بِأَنْ يَستَوفِيَهُ النَّظَرُ وَيَتَقَصَّاهُ، القَوْلُ على التَّشْبيهِ والتَّمثيلِ والاستِعَارَةِ، فَإِنَّ هَذِهِ أُصُولٌ كبيرَةٌ كأنَّ جُلَّ مَحاسِنِ الكَلاَمِ – إن لَمْ نَقُل كُلَّها – مُتَفَرِّعَةٌ عَنهَا وراجِعَةٌ إِلَيْهَا، وكَأنَّها أَقْطابٌ تَدور عَلَيْها المعاني في مُتَصَرَّفاتِها…” (1)

هذا نصٌّ جامِعٌ يَتَحَدَّثُ فيهِ عبدُ القاهِرِ عَن أُصُولِ النَّظَرِ في بِنيَةِ المَعْنَى الشِّعرِيِّ، وسَمَّى أًصولَ النَّظَرِ هذِهِ باسْمٍ جامِعٍ هُوَ “بَيانُ أمرِ المَعَاني”، وهُوَ مُصْطَلَحٌ لِصِناعَةٍ أَوْ فَنٍّ أوْ عِلْمٍ وَضَعَهُ هُوَ نَفْسُهُ  وسُمِّيَ فيما بَعدُ بالبَيانِ، ويُمكِنُ أَن نَقول إنَّهُ أَنشأَ كِتابَ الأسْرَارِ لِتَمحيصِ رُؤيَةٍ واَضِحَةٍ، مَفاَدُهاَ أَنَّ قوامَ العَمَلِ الأَدَبِيِّ بِنيَةٌ دَلاَلِيَةٌ مُتَماسِكَةٌ في صُورَتِهاَ مُتَحَكِّمَةٌ في طَرِيقَةِ الصِّيَاغَةِ المُعَبِّرَةِ عَنهَا. ومَدارُ تَصَوُّرِ الرَّجُلِ عَلى بَيَانِ أَمْرِ المَعَاني فِي حالَتَي التَّحلِيلِ وَالتَّرْكِيبِ، وعَلَى مَنْهَجِهِ في مُعَايَنَةِ تَحلِيلِ المَعانِي وضَوَابِطِ تَركيبِهَا، وسَمّى طَرِيقَتَهُ فِي المُعَايَنَةِ بِالمُقَدِّمَةِ وَالأًصُولِ والأَدَواتِ.

ــــــــــــــــــــــــ

(1)  أسرار البلاغة: 26-27. وأشار الشّيخ رشيد رضا إلى أن عبارة: “الأساس الذي وضعته” نصّ من عبد القاهر على أنه هو الواضع لهذا الفنّ: [هامش (1) ص:19، من طبعة المنار].

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق