مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

“بَلاغَة المَعْنى” في “أسرار البلاغَة” (الحلقة الثالثة)

2- المَظْهَرُ الثَّانِي: بِنْيَة المَعْنَى الشِّعْرِي:
بِنيَة المَعْنَى هِيَ الأَصْلُ فِي تَوليدِ الشِّعْرِ، وَبِنيَةُ الصِّيَاغَةِ تَابِعَةٌ لِبِنْيَةِ المَعْنَى موافقَة لَهَا، وَيَظْهَرُ هَذَا الحُكْمُ وَاضِحاً فِي عَدِّ المَعْنَى الأَدَبِي جِسْماً ثَابِتاً مَوضُوعاً يَكْتَشِفُهُ الشُّعَرَاءُ وَيَبْذُلُونَ الجُهْدَ لإخْرَاجِهِ؛ فَالتَّشْبِيهُ – الذِي هُوَ صنعة الرَّبطِ بينَ المُتَبَاعِدَيْنِ – لاَ يتَصَور فِي مُطلَقِ التَّأليفِ، ولَكِن هناكَ مذهَباً يُصابُ فِيهِ الرَّبْطُ بَيْنَهُما. وَالذِي يَدُلُّ عَلَى أنَّ هُنَاكَ مَعْنى عَميقاً ثابِتاً فِي الأَصْلِ يَبْحَثُ عَنْهُ الشُّعَرَاءُ فِي اسْتِنْطَاقِهِمْ الأَشْيَاءَ المُتَبَاعِدَةَ، وَمُحَاوَرَتُهُم لَهَا للرَّبْطِ بينَهَا وفْقاً لِذَلِكَ المَعْنَى، أَنَّ المُدَقِّقَ فِي المَعَانِي يُشَبَّهُ بِالغائِصِ عَلى الدّرّ؛ يَقُولُ عبدُ القاهر: “استَحْقَقتَ الأُجْرَة عَلى الغَوْصِ لا أنّ الدّرَّ كَان بك” (1) ، ويقُولُ: “أَلاَ تَرَى أَنَّ التَّشْبِيهَ الصَّريحَ إِذَا وَقَعَ بَيْنَ شَيئَيْنِ مُتَبَاعِدَيْنِ فِي الجِنسِ، ثُمَّ لَطُفَ وَحَسُنَ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ اللُّطْفُ وَذَلِكَ الحُسْنُ إِلاَّ لاتِّفَاقٍ كَان ثَابِتاً بَيْنَ المُشَبَّهِ وَالمُشَبَّهِ بِهِ مِنَ الجِهَةِ التِي بِهَا شَبَّهْتَ، إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ خَفِيّاً لاَ يَنْجَلِي إِلاَّ بَعْدَ التَّأَنُّقِ فِي اسْتِحْضَارِ الصّوَرِ وَتَذَكُّرِها” (2).

2- المَظْهَرُ الثَّانِي: بِنْيَة المَعْنَى الشِّعْرِي: 

بِنيَة المَعْنَى هِيَ الأَصْلُ فِي تَوليدِ الشِّعْرِ، وَبِنيَةُ الصِّيَاغَةِ تَابِعَةٌ لِبِنْيَةِ المَعْنَى موافقَة لَهَا، وَيَظْهَرُ هَذَا الحُكْمُ وَاضِحاً فِي عَدِّ المَعْنَى الأَدَبِي جِسْماً ثَابِتاً مَوضُوعاً يَكْتَشِفُهُ الشُّعَرَاءُ وَيَبْذُلُونَ الجُهْدَ لإخْرَاجِهِ؛ فَالتَّشْبِيهُ – الذِي هُوَ صنعة الرَّبطِ بينَ المُتَبَاعِدَيْنِ – لاَ يتَصَور فِي مُطلَقِ التَّأليفِ، ولَكِن هناكَ مذهَباً يُصابُ فِيهِ الرَّبْطُ بَيْنَهُما. وَالذِي يَدُلُّ عَلَى أنَّ هُنَاكَ مَعْنى عَميقاً ثابِتاً فِي الأَصْلِ يَبْحَثُ عَنْهُ الشُّعَرَاءُ فِي اسْتِنْطَاقِهِمْ الأَشْيَاءَ المُتَبَاعِدَةَ، وَمُحَاوَرَتُهُم لَهَا للرَّبْطِ بينَهَا وفْقاً لِذَلِكَ المَعْنَى، أَنَّ المُدَقِّقَ فِي المَعَانِي يُشَبَّهُ بِالغائِصِ عَلى الدّرّ؛ يَقُولُ عبدُ القاهر: “استَحْقَقتَ الأُجْرَة عَلى الغَوْصِ لا أنّ الدّرَّ كَان بك” (1) ، ويقُولُ: “أَلاَ تَرَى أَنَّ التَّشْبِيهَ الصَّريحَ إِذَا وَقَعَ بَيْنَ شَيئَيْنِ مُتَبَاعِدَيْنِ فِي الجِنسِ، ثُمَّ لَطُفَ وَحَسُنَ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ اللُّطْفُ وَذَلِكَ الحُسْنُ إِلاَّ لاتِّفَاقٍ كَان ثَابِتاً بَيْنَ المُشَبَّهِ وَالمُشَبَّهِ بِهِ مِنَ الجِهَةِ التِي بِهَا شَبَّهْتَ، إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ خَفِيّاً لاَ يَنْجَلِي إِلاَّ بَعْدَ التَّأَنُّقِ فِي اسْتِحْضَارِ الصّوَرِ وَتَذَكُّرِها” (2).

الأَقْيِسَةُ وَالصُّوَرُ العَقْلِيَّةُ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ العَالَمُ مُنَظَّماً فِي شَكْلِ مُتَشَابِهَاتٍ وَمُضَارَعَاتٍ، وَالشَّاعِرُ حِينَ يَصِلُ إِلَى الصُّورَةِ فَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ وَضَعَ اليَدَ عَلَى مُشَابَهَةٍ بَيْنَ طَرَفَيْنِ، ثَابِتَةٍ قبلاً، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ بِهَذا العَمَلِ يَسْتَجِيبُ لِأَصْلٍ فِي التَّصَوُّرِ البَلاَغِيِّ، هُوَ اَنَّ البَلاَغَةَ طَريقَةٌ مِن طُرُقِ النّظرِ والتَّفْكِيرِ والتَّصَوُّرِ وَالإِدْرَاكِ وَطَريقَةٌ مِن طُرُقِ تَنْظيمِ العَالَمِ، فَالمَعْنَى الأَدَبِيُّ جِسْمٌ ثَابِتٌ، وَالصُّورَةُ التِي يَأْتِي بِهَا الشَّاعِرُ طَرِيقَةٌ مِنْ طُرُقِ اقْتِطَاعِ ذَلِكَ المَعْنَى، مِثْلَمَا أَنَّ اللُّغَةَ طَريقَةٌ مِنْ طُرُقِ تَقْطِيعِ الوَاقِعِ وَتَنْظيمِهِ وَإِدْرَاكِهِ. وَيُمْكِنُ أَنْ نَفْهَمَ ثُبُوتَ المَعْنَى بِالنَّظَرِ إلَى المَعْنَى اللُّغَوِيِّ الأَصْلِيِّ، فَبِهِ يَتَحَدَّدُ أَنَّهُ حَصَلَ انْتِقَالٌ مِنَ المَعْنَى الأَصْلِيِّ، وَتَحَوُّلٌ منه ومَجازٌ، إلى المَعْنَى الفَرْعِيِّ أَوْ مَعْنَى المَعْنَى أَو المَعْنَى الثَّانِي. ويَكونُ تَحْدِيدُ الانْتِقَالِ بِالقِيَاسِ عَلَى أَصْلِ المَعْنَى، ولا يَستقيمُ النَّظَرُ إِلَى الصُّورِ إِلاَّ إِذَا رُوجِعَ الأَصْلُ الذِي عَنْهُ انْحَرَفَتْ هَذِهِ الصُّورَةُ، وَلَكِنَّ مُرَاجَعَةَ الأَصْلِ لاَ تَعْدُو أَنْ تَكُونَ إِلْحَاقاً للنَّاقِصِ بِالزَّائِدِ، وَالغَامِضِ بِالأَوْضَحِ، وَقِيَاساً لِلمَجْهُولِ عَلَى المَعْلُومِ.

3- مَرَاتِبُ تَحْلِيلِ المَعْنَى الشِّعْرِيِّ:

أ- المُسْتَوَى اللُّغَوِيُّ: وَهُوَ أَهَمُّ المَرَاتِبِ اللُّغَوِيَّةِ التي يُبْنَى عَلَيْهَا المَعْنَى الشِّعْرِيُّ أَوِ الصُّورَةُ، ويُرادُ به العَلاَقَاتُ النَّحْوِيَّةُ أَوِ المَعَانِي النَّحْوِيَّةُ، والمَعاني النحويّةُ عِبَارَةٌ عَنْ وَظَائِفَ تُسْنَدُ إِلَى الأَلْفَاظِ فِي الجُمْلَةِ، فَتُعَلِّقُ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ وَتُصَيِّرُهَا دَالَّةً؛ يَقُولُ عَبْدُالقَاهِرِ: ” وَالأَلْفَاظُ لاَ تُفِيدُ حَتَّى تُؤَلِّفَ ضَرْباً خَاصّاً مِنَ التَّألِيفِ…” (3). وتَتَبَيَّنُ أَهَمِّيَةُ التَّعْلِيقِ النَّحْوِيِّ فِي شَرْحِ بَعْضِ الصُّوَرِ الأَدَبِيَّةِ نَحْوَ شَرْحِ عَبدِ القَاهِرِ لِبَيْتِ بَشّارٍ:

كَأنَّ مُثَارَ النَّقْعِ فَوْقَ رُؤُوسِنَا   ///   وأَسْيَافَنَا لَيْلٌ تَهَاوى كَواكِبُهُ

يَلْتَقِي التَّفْسِيرُ البَلاَغِيّ بِالتَّفسيرِ النَّحْوِيِّ لِبَيَانِ وَحْدَةِ الصُّورَةِ وَتَمَاسُكِهَا وَمَجيئِهَا عَلَى شَكْلِ بِنْيَةٍ. وَعَلَيْهِ فَإِنَّ المَقْصُودَ بِالبَيْتِ الهَيْئَةُ الخَاصَّةُ الحَاصِلَةُ مِنْ مُخَالَطَةِ النَّقْعِ للسُّيُوفِ المُتَحَرِّكَةِ وَكَأَنَّهَا مُخَالَطَةُ اللَّيْلِ لِلكَوَاكِبِ المُتَهَاوِيَةِ:

” وَلِذَلِكَ وَجَبَ الْحُكْمُ بِأَنَّ الكَلاَمَ إِلَى قَوْلِهِ “وأسْيافَنا” فِي حُكْمِ الصِّلَةِ لِلمَصْدَرِ وَجارٍ مَجْرَى الاسْمِ الوَاحِدِ، لِئَلاّ يَقَعَ فِي التَّشْبِيهِ تَفْرِيقٌ وَيُتَوَهَّمَ أَنَّهُ كَقَوْلِنَا “كَأَنَّ مُثَارَ النَّقْعِ لَيْلٌ وَكَأَنَّ السُّيوفَ كَوَاكِبُ”، وَنَصْبُ الأَسْيَافِ لاَ يَمْنَعُ مِنْ تَقْدِيرِ الاتِّصَالِ وَلاَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي تَقْدِيرِ الاسْتِئْنَافِ، لأَنَّ الوَاوَ فِيهَا بِمَعْنَى مَعَ…”(4).

يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَعْنَى الشِّعْرِيُّ –أَوِ الصُّورَةُ- يَقْـَضِي الْجَمْعَ بَيْنَ طَرَفَيْ التَّشْبِيهِ دُونَ التَّفْرِيقِ، تَعَيَّنَ بَيَانُ تَرَابُطِ المَعَانِي النَّحْوِيَّةِ واتِّصَالِهَا. وَيَفْرِضُ مُقْتَضَى المَعْنَى الشِّعْرِيِّ تَقْدِيرَ اتِّصَالٍ نَحْوِيٍّ فِي أجْزَاءِ الْكَلاَمِ لا انْفِصَالٍ مَعَ تَقْدِيرِ اسْتِئْنَافٍ.

وَفِي بِنَاءِ الصُّورَةِ وَتَركِيبِهَا نَجِدُ البِنْيَةَ النَّحْوِيَّةَ تَسْتَجِيبُ لِبِنْيَةِ المَعْنَى الشِّعْرِيِّ وَتَتْبَعُهَا، أَمَّا فِي تَفْكِيكِ الصُّورَةِ وَتَحْلِيلِهَا فَنَجِدُ أنّ البِنيَةَ النَّحْوِيَّةَ دَالَّةٌ عَلَى بِنْيَةِ الْمَعْنَى الشِّعْرِيِّ. فَالنَّحْوُ –فِي شَاْنِ تَفْكِيكِ الصُّوَرِ- مَدْخَلٌ إِلَى البَلاَغَةِ، وَإِذَا جَاءَتِ الصِّيَاغَةُ مُعْتَسَفاً فِيهَا وَمُعَقَّدَةً فَإِنَّ النَّحْوَ لَنْ يَهْتَدِيَ إلى إصْلاحِهَا، وَهَذَا أَمْرٌ تَمَيَّزَ بِهِ شِعْرُ أَبِي تَمَّامٍ كَقَوْلِهِ:

ثَانِيهِ فِي كَبِدِ السَّمَاءِ وَلَمْ يَكُنْ   ///   لاثْنَيْنِ ثانٍ إِذْ هُمَا فِي الغَارِ (5) 

وَمِنَ المَرَاتِبِ اللُّغَوِيَّةِ التِي يَتِمُّ عَلَى أَسَاسِهَا فَهْمُ الصُّورَةِ وَتَحْلِيلُهَا مُسْتَوَى اللُّغَةِ وَالمُعْجَمِ، فَمِنْ خِلاَلِ المَعْنَى المُعْجَمِيِّ نَحْكُمُ بِأَنَّ هُنَاكَ صُورَةً شِعْرِيَّةً تَوَلَّدَتْ ثُمَّ انْحَرَفَتْ عَنِ الأَصْلِ اللُّغَوِيِّ المُعْتَادِ، فَمَعْرِفَةُ الأَصْلِ اللُّغَوِيِّ إِذاً شَرْطٌ فِي تَحْدِيدِ حُصُولِ الانْحِرَافِ وَإدْرَاكِ خَرْقِ المُعْتَادِ، لأَنَّ المُخْتَرِقَ مَعْنًى فَرْعِيٌّ ثَانٍ وَالمُخْتَرَقَ مَعْنًى أَوَّلُ ثَابِتٌ. يَظْهَرُ هَذَا الشَّرْطُ فِي قَوْلِ عَبْدِ القَاهِرِ: “اعْلَمْ أَنَّ الاسْتِعَارَةَ فِي الجُمْلَةِ أَنْ يَكُونَ للَّفْظِ أَصْلٌ فِي الوَضْعِ اللُّغَوِيِّ مَعْرُوفٌ، تَدُلُّ الشَّوَاهِدُ عَلَى أَنَّهُ اخْتصَّ بِهِ حِينَ وُضِعَ[…] ثُمَّ يَسْتَعْمِلُهُ الشَّاعِرُ أَوْ غَيْرُ الشَّاعِرِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الأَصْلِ، وَيَنْقُله إِلَيْهِ نَقْلاً غَيْرَ لاَزِمٍ، فَيَكُونُ هُناك كَالعَارِيَّةِ” (6).

فَأَنْتَ تُلاَحِظُ أَنَّهُ لاَ تُعَدُّ الصُّورَةُ صُورَةً أَوْ مَعْنىً شِعْرِيّاً إِلاَّ إِذَا كَانَ المُنْطَلَقُ فِي النَّظَرِ إِلَيْهَا الأَصْلَ اللُّغَوِيَّ، أَوْ مَا عَبَّرَ عَنْهُ بالأَصْلِ فِي الوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، وبِالمُسَمَّى الأَصْلِيِّ، والمَوْضِع الأَصْلِيّ، والحَقِيقَةِ، والصُّورَةِ الأَصْلِيَّةِ، والوُقُوعِ فِي وَضْعِ الوَاضِعِ (7).

ب- المُسْتَوَى غَيْرُ اللُّغَوِيّ: المَقْصُودُ بِالمُسْتَوَى غَيْرِ اللُّغَوِيِّ أَوِ المَرَاتِبِ غَيْرِ اللُّغَوِيَّةِ المُتَكَلِّمُ وَالمُخَاطَبُ وَظُرُوفُ الخِطَابِ، وَهِيَ اعْتِبَارَاتٌ وَأَطْرَافٌ غَيْرُ نَصِّيَةٍ تُسَاعِدُ فِي تَحْلِيلِ النَّصِّ، وَاسْتِخْرَاجِ المَعْنَى الشِّعْرِيِّ:

– المُتَكَلِّمُ: “اَلْمُتَكَلِّمُ مَنْ وَقَّعَ الكَلاَمَ…بِحَسَبِ أَحْوَالِهِ مِنْ قَصْدِهِ وَإِرَادَتِهِ وَاعْتِقَادِهِ وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأُمُورِ الرَّاجِعَةِ إِلَيْهِ حَقِيقَةً أَوْ تَقْدِيراً”(8). إِنَّ المُتَكَلِّمَ أَسَاسٌ أَوَّل مِن أُسُسِ بَيَانِ الْمَعْنَى الشِّعْرِيِّ لأَنَّهُ الرُّكنُ المُوَلِّدُ لِلْكَلاَمِ، وَتَظْهَرُ عَلاَقَتُهُ بِالمُخَاطَبِ فِي كَونِهِ يَتَّبِعُ قَوَاعِدَ إِخْرَاجِ الشِّعْرِ وَوُضُوحِ الْمَعْنَى الشِّعْرِيِّ وَمُرَاعَاة السَّامِعِ، وَبِاخْتِصَارٍ تَتَجَلَّى أَهَمِّيَتُهُ فِي تَوْلِيدِهِ النَّصَّ وَأَدَائِهِ وَظِيفَةَ التَّعْبِيرِ، “يَجْتَهِدُ المُتَكَلِّمُ فِي تَرتِيبِ اللَّفْظِ وَتَهْذِيبِهِ وَصِيَانَتِهِ مِنْ كُلِّ مَا أخَلَّ بِالدَّلاَلَةِ وَعَاقَ دُونَ الإِبَانَةِ”(9).

من مَظَاهٍرِ الاحْتِكَامِ إِلَى المُتَكَلِّمِ فِي بَيَانِ الصُّورَةِ مَعْرِفَةُ مَقَاصِدِهِ وَأَغْرَاضِهِ فِي التَّصْوِيرِ، أَيْ العِلْمُ بِمَقَاصِدِ صَاحِبِ النَّصِّ، فَقَدْ يَحْضُرُ طَرَفٌ مِنْ أَطْرَافِ الصُّورَةِ وَيَغِيبُ طَرَفٌ، ولا دَليلَ عَلَيْهِ مِنَ اللُّغَةِ إِلاَّ بِالبَحْثِ عَنْ هَذَا الخَبيءِ فِي نَفْسِ المُتَكَلِّمِ: “إذَا قُلْتَ: عَنَّتْ لَنَا ظَبْيَةُ… وَأَنْتَ تَعْنِي امْرَأَةً… لَمْ يَكُنْ ذِكْرُكَ [لِلاسْمِ] فِي كَلاَمِكَ هَذَا لإِثْبَاتِ الشَّبَهِ المَقْصُودِ الآنَ. وكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يُقْصَدَ إِلى إِثْبَاتِ الشَّبَهِ… وَأَنْتَ لَمْ تَذْكُر [قَبْلَهُ] شَيْئاً يَنْصَرِفُ إِثْبَاتُ الشَّبَهِ إِلَيْهِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الشَّبَهُ مِنْ طَرِيقِ الرُّجُوعِ إِلَى الحَالِ وَالبَحْثِ عَنْ خَبِيءٍ فِي نَفْسِ المُتَكَلِّمِ”(10).

فَلاَبُدَّ مِن اقْتِرَانِ المَذْكُورِ فِي النَّصِّ بِالوَارِدِ فِي النَّفْسِ أَوِ الحَالِ لِكَيْ يَتَحَدَّدَ قَصْدٌ مُعَيَّنٌ وَهُوَ أَنَّ المُرَادَ مَرْحَلَةٌ ثَانِيَةٌ فِي التَّصْوِيرِ، وَهيَ إِسْنَادُ فِعْلٍ لِفَاعِلٍ مُسْتَعَارٍ، لا المَرْحَلَةُ الأولى التِي هِيَ إِثْبَاتُ شَبَه شَيْءٍ بِشَيْء، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الصُّورَةَ مُرَكَّبَةٌ وَلاَ تُفكُّ إِلاَّ بِعَرْضِهَا عَلَى مَقَاصِدِ المُتَكَلِّمِ.

يَظْهَرُ مِنْ هَذِهِ العَلاَقَةِ أَنَّ ظَاهِرَ النَّصِّ لاَ يَكَادُ يَفِي بِالمُرَادِ لأَنَّهُ وُضِعَ هَكَذَا انْتِهَازاً وَاقْتِضَاباً عَلَى المَقْصُودِ فِي الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، وَيَحْتَاجُ أَمْرُ الفَهْمِ إِلَى أَداة تَنفذُ إِلَى الصُّورَةِ، وَأَدَاة النَّفَاذِ هِيَ مُرَاجَعَةُ قَصْدِ المُتَكَلِّمِ وَتَوسِيطُهُ فِي إِعَادَةِ تَرْكِيبِ الْمَعْنَى، فَقَدْ تُشَبَّهُ غرةُ الفرَسِ بالصبحِ فَيُقَالُ إِنَّهُ وَقَعَ عَلَى أَصْلِهِ لأَنَّهُ شُبّه فَرعٌ بِأَصْل وَلَكِنَّ قَصْدَ المُتَكَلِّمِ أَنَّ التَّشْبِيهَ لَمْ يَقَعْ عَلَى جِهَة المُبَالَغَةِ، كَمَا يُبَيِّن الظَّاهِرُ، وَإِنَّمَا قُصد أَمرٌ آخَرٌ: وَهُوَ وُقُوعُ مُنِيرٍ فِي ظُلْمٍ وَحُصُولُ بياضٍ فِي سَوَادٍ، ثُمَّ البَيَاضُ صَغِيرٌ بِالإضَافَةِ إِلَى السَّوادِ، وَهُوَ مَا يَظْهَرُ فِي قَوْلِ ابن المُعْتَزّ:

والصّبحُ فِي طُرّةِ لَيْلٍ مسفر   ///   كَأنَّهُ غُرّة مَهرٍ أَشْقَر

وَقَدْ يُثَارُ سُؤَالٌ حَوْلَ طَبِيعَةِ المُتَكَلِّمِ أَفَرْدٌ هُوَ مُتَجَلٍّ فِي شَخْصِيَّة الشَّاعِرِ، أَمْ قَوَاعِد أَدَبِيَّةٌ صَاغَهَا النُّقَّادُ وَعَرَضُوهَا عَلَى القَارِئِ لِيَفْهَمَ النَّصَّ مِنْ خِلاَلِهَا، أَمْ نِظَامٌ اجْتِمَاعِيٌّ وَأَعْرَافٌ تَوَاطَأَ المُتَكَلِّمُونَ عَلَى الالتِزامِ بِهَا وَالتَّفَاهُمِ بِوَاسِطَتِهَا؟

إِنَّ الجَوابَ عَلَى ذَلِكَ يَجْعَلُنَا نَسْتَحْضِرُ دَوْماً خُصُوصِيَّاتِ الخِطَابِ الشِّعْريِّ القَديمِ وَتَمَيُّزِه عَنِ الحَدِيثِ، فَقَدْ كَانَ النَّصُّ الأَدَبِيُّ فِي عُمُومِهِ خَاضِعاً لِشُرُوطِ التَّدَاوُلِ اللُّغَوِيِّ التي عَلى رَأْسِهَا الصِّفَةُ الاجْتِمَاعِيَةُ، وَالشَّاعِرُ مُحَاوِرٌ يُطْلِعُ قَارِئَهُ أَوْ سَامِعَهُ عَلَى مَا يَعْرِفُ، وَيُطَالِبُهُ بِمُشَارَكَتِه فِي المُعْتَقَدِ وَالمَعْرِفَةِ، وَلاَ عِبْرَةَ بِالاعْتِرَاضِ هنَا عَلَى قَاعِدَةِ “الاجْتِمَاعِية فِي التَّدَاوُل” بِأَنَّ بَعْضَ الشُّعَرَاءِ لَمْ يَكُن يُهِمُّهُم إِلاَّ التَّعْبِيرُ عَنْ ذَوَاتِهِم سَواء عَلَيْهِم أَفَهِمُوا أَمْ لَمْ يَفْهَمُوا، كَمَا فِي كَثِيرٍ مِنْ أَشْعَارِ أَبِي تَمَّام وَبَعْضِ أَشْعَارِ المُتَنَبِّي، إِذْ يُمكِنُ أَنْ نَتَصَوَّرَ لِهَؤُلاَءِ طَائِفَةٌ خَاصَّةٌ مِنَ القُرَّاءِ الذِينَ يُخَاطَبُونَ بِهَذَا الشِّعْرِ.

– المُخَاطَبُ: يشغل المخاطَب حيزَ الإِفهَام والتَّبلِيغِ، أي تَتَّصِلُ وَظيفَةُ التَّلَقّي لَدى المُخَاطَبِ بِوَظيفَةِ التَّعْبيرِ لَدى المُتَكَلمِ، وَهُنَا نَجِدُ المُخَاطبَ نَفسَهُ يُحَكِّمُ قَاعِدَةَ “التَّداوُلِ اللُّغَوِيِّ” الاجْتِماعِيَةَ لِفَهْمِ المَعْنَى. وَيَظْهَرُ اتصَالُ الوَظيفَتَيْنِ فِي بَعْضِ القَوَاعِدِ، وَمِنْهَا:

* قَاعِدَةٌ مِن قَوَاعِدِ الإِدرَاكِ وَهِيَ نَقْلُ المُخاطَبِ النَّصَّ “عنِ العَقْلِ إِلَى الإِحْسَاسِ، وَعَمَّا يُعْلَم بِالفِكرِ إِلَى مَا يُعْلَمُ بالاضطرار والطَّبعِ، لأَنَّ العِلْمَ المُسْتَفَادَ مِن طُرُقِ الحَوَاسِ أَو المَرْكُوزِ فيهَا مِنْ جِهَةِ الطَّبْعِ وَعَلَى حَدِّ الضَّرُورَةِ، يَفضُل المستفادَ من جهة النَّظَرِ والفكر فِي القُوَّةِ وَالاستحْكَامِ […] كما قَالوا: “لَيسَ الخَبَرُ كَالمُعَايَنَةِ” و”لا الظّنّ كَاليَقِينِ” (11) ، وَفي ذَلِكَ يَقولُ عَبد القَاهِر: “أُنْسُ النُّفُوسِ مَوقُوفٌ عَلَى أن تُخْرِجَهَا من خَفِيٍّ إِلَى جَلِيٍّ وَتَأتِيَها بِصَرِيحٍ بَعد مَكْنيٍّ” (12).

* القاعِدة الثَّانِيَةُ: اشْتِرَاطُ تَكَافُؤ جُهد التَّولِيد وجُهد الإدراكِ: أَي مُطَالَبَةُ المُخَاطَبِ بِأن يَكُونَ تَقْدِيرُهُ للصُّورَةِ بِالقوَّةِ ذاتِها التّي بُنِيَت بِها وَصيغَت: “وإِنْ تَوَقَّفتَ فِي حاجَتِكَ أَيُّها السَّامِعُ لِلمَعْنَى إِلَى الفكْرِ فِي تَحْصِيلِه فَهَل تشُكُّ في أَنَّ الشَّاعِرَ الذي أَدّاه إِلَيكَ […] قَد تَحَمَّل فِيه المَشَقَّةَ الشَّديدَةَ…”(13).

* القاعدةُ الثَّالِثَة: اشتِراطُ التَّفْصِيلِ فِي قِرَاءَةِ الصُّورَةِ، أَو الإِدْرَاكُ التَّفْصِيلِيُّ بَعْدَ الإِدرَاكِ الإِجْمَالِيِّ: يَقُولُ عبد القاهر فِي هَذا المَعنى: “وَلَكِنَّكَ تَرَى بِالنَّظَر الأَوَّلِ الوَصْفَ عَلَى الجُمْلَةِ ثُمَّ تَرَى التَّفْصِيلَ عِنْدَ إِعَادَةِ النَّظَرِ”(14). وَفَائِدَةُ إِعَادَةِ النَّظَرِ وَتَفْصِيلِ القِرَاءَةِ أَنَّهَا تَكْشِفُ عَنَاصِرَ وَدَقَائِقَ لَم تُدرَك بِالقِرَاءَةِ الأُولَى، أَو تَكُونُ هُنَاكَ عَنَاصِرُ غَيْرُ مُرَادَة فَيَلْزَمُ مَعْرِفَتُهَا لِتَنْحِيَتِهَا، فَفِي الصُّورَةِ الآتِيَةِ ما يُفيدُ هَذَا المَعْنَى: لَهَا حَدَقٌ لم يَتَّصِلْ بِجُفُون – كَأنَّهَا نَرْجَسَةٌ بِلا وَرَق – سَنَا لَهَبٍ لم يَتَّصِل بِدخان… فالقارِئُ يَتْبَعُ الشَّاعِرَ فِي نَظَرِ الإِجْمَالِ فَيُدْرِكُ الجِسْمَ كُلَّهُ (الحدق، النرجسة، اللهب) ثمَّ يَفْصل عُنْصُراً ما مِنَ الجِسْم (الجفون، الورق، الدخان). وَأَخِيراً يَتَصَوَّر ذَلِكَ الجسم مَعْزولاً عن مُلازِمِه…

وَهَذِهِ القَوَاعِدُ وَغَيْرُهَا يُمكِن أَن تُؤلِّفَ لَنا “نِظَام القَارِئِ الاجْتِمَاعِيِّ”.

– ظُرُوفُ الخِطَاب: المُرَادُ بِظُرُوفِ الخِطَابِ أَوِ السِّيَاق القَرَائِنَ وَالمُلاَبَساتِ المُصَاحِبَةَ. وَهِيَ عِبَارَةٌ عَن مَجْمُوعِ الأَحْدَاثِ وَالمُصاحِبات التِي تُرَافِقُ إِنْتَاجَ النَّصِّ وَتُلاَبِسُهُ وَتُؤَثِّرُ فِي فَهْمِ المَعَانِي، إِنَّهُ إِنجَازُ الفِعْلِ اللُّغَوِيِّ فِي سِيَاقٍ مُحَدَّدٍّ، وَلَيْسَ مُرَادُ عَبْدِ القَاهِرِ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ الخَارِجِيِّ تَحْوِيلَ النّصِّ إلى وَثِيقَةٍ أَو شَهَادَةٍ عَلَى التَّارِيخِ، بَلِ المُرَادُ تَفْكِيكُ النَّصّ فِي ضَوْءِ شُرُوطِهِ الخَارِجِيَّةِ لإِدْرَاكِ طَريقَةِ تَرْكِيبِه وَبِنْيَةِ تَرْكِيبِ المَعْنَى بِصُورَةٍ خَاصَّةٍ. أَمَّا السيَاقُ اللُّغَوِيُّ الذِي يُفِيدُ قَرَائِنَ النَّصِّ الدَّاخِلِيَّةَ فَهُوَ أَمْرٌ وَارِدٌ عِنْدَ النُّقَّادِ، وَقَدِ اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ بِمُصْطَلَحَاتٍ كَثِيرَةٍ مِثْلَ “دَلِيلِ الحَالِ” و”إِفصَاحِ المَقَالِ بَعْدَ السُّؤَالِ” و”فَحْوَى الكَلاَمِ وَمَا يَتْلُوه منَ الأَوصَافِ”(15). وهوَ دَلِيلٌ يُنْشِئُهُ النَّصُّ مِن تَآلُفِ الخَصَائِصِ الدّلاَلِيَّةِ المَاثِلَةِ فِي كُلِّ كَلِمَةٍ، نَحْوَ قَوْلِ الشَّاعِرِ:

تَرَنَّحَ الشَّرْبُ وَاغْتَالَتْ حُلُومَهُم   ///   شَمْسٌ تَرَجَّلُ فِيهِمْ ثُمَّ تَرْتَحِلُ(16) 

وَيُسْتَدَلُّ هُنَا بِذِكْرِ الشَّرْبِ وَاغْتِيَالِ الحُلُومِ وَالارْتِحَالِ أَنَّهُ أَرَادَ قَيْنَةً لاَ الشَّمْسَ على وَجْه الحَقِيقَة، فَمَجْمُوعُ الخَصَائِصِ الدّلاَلِيَّةِ فِي الشَّرْبِ وَاغْتِيَالِ الحُلُومِ وَالارتِحَالِ يُؤَلِّفُ بِنْيَةً دلاَلِيَّةً تتَعَلَّقُ بِأَحْوَالِ النَّاسِ فِي الحَرَكَةِ، وَهَذِهِ البِنْيَةُ تُخَصِّصُ المُرَادَ بِذِكْرِ الشَّمْسِ فِي البَيْتِ الشِّعْرِيِّ.

أَمَّا السِّيَاقُ الخَارِجِيُّ الذِي يُفِيدُ قَرَائِنَ النَّصِّ الخَارِجِيَّةَ، نَحْوَ ظُرُوفِ الخِطَابِ وَزَمَانِهِ وَمَكَانِهِ، فَإِنَّهُ يُعدُّ أَكْبَرَ قَرِينَةٍ مِنْ قَرَائِنِ تَرْكِيبِ النَّصِّ الأَدَبِيِ وَتَحْلِيلِهِ فِي النَّقْدِ العَرَبِيِّ، إِنَّهُ قَرِينَةُ ارْتِبَاطِ الأَقْوَالِ بِالأَحْوَالِ. أَمَّا اخْتِلاَفُ النُّحَاةِ فِي تَوْجِيهِ الشَّوَاهِدِ وَالاسْتِدلاَلِ بِهَا فَإِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى اسْتِنَادِهِمْ إِلَى ظَاهِرِ النَّصِّ دُونَ مَقَامِهِ.

فَالغُفُولُ عَنْ هَذِهِ القَرِينَةِ يُسْقِطُ فِي الاحْتِمَالِ، حَتَّى إِنَّ ذَلِكَ قَدْ أَدَّى بِبَعْضِ أَصَولِيِّي النُّحَاةِ إِلَى الحُكْمِ عَلَى الدَّلِيلِ بِأَنَّهُ إِذَا احْتَمَلَ سَقَطَ الاسْتِدْلاَلُ بِهِ، وَهُوَ حُكْمٌ تَرَتَّبَ عَلَى عَدَمِ مُرَاعَاةِ سِيَاقِ النَّصِّ وَظُرُوفِ قَوْلِهِ. وَنَجِدُ السِّيَاقَ مِقْيَاساً عِندَ النُّقَّادِ وَالبَلاَغِيِّنَ عِنْدَمَا عَرَضُوا النُّصُوصَ وَالأَبْيَاتَ فِي إِطَارِ سِيَاقِهَا وَمَقَامِهَا ووَجَّهُوا فَهْمَ القَارِئِ إلى المَعْنى المُرادِ، وَنَجِدُ السِّيَاقَ مِقْيَاساً عِنْدَ المُفَسِّرِينَ عِنْدَمَا ضَبَطُوهُ بِمَا سُمِّيَ بِعِلمِ أَسْبَابِ النُّزُولِ.

وَمِنَ النَّمَاذِجِ عَلَى ذَلِكَ تَنْبِيهُ عَبدِ القَاهِرِ عَلَى طَرِيقَةِ فَهْمِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ:

﴿وقالوا ما هِيَ إِلّا حَياتُنا الدُّنْيا نَموتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إلّا الدَّهْرُ﴾(17) ؛ فقائِلُ هَذَا الاعْتِقَادِ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ عَلَى أَنَّهُ مُتَأَوِّلٌ فَيُنْعَتَ قَوْلُهُ بِالمَجَازِ، أَيْ إِهْلاَك الدَّهْرِ عَلَى المَجَازِ، وَلَكِنَّهُ أَطْلَقَهُ إِطْلاَقَ مَنْ يَضَعُ الصِّفَةَ فِي مَوْضِعِهَا وَلاَ يُعْرَفُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالرُّجُوعِ إِلَى اعْتِقَادِ القَائِلِينَ بِإِهْلاَكِ الدَّهْرِ لِلنَّاسِ عَلَى الحَقِيقَةِ عِنْدَهُمْ، وَلَكِنَّنَا عِنْدَ الاحْتِكَامِ إِلَى مَا وَرَاءَ اللَّفْظِ نَجِدُ أَنَّ الآيَةَ تَخْلو منَ الصُّورَةِ الأَدَبِيَّةِ.

 أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ ﴾(18) ، فَفِيهِ إِسْنَادُ الإِهْلاَكِ للرِّيحِ عَلَى المَجَازِ، وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ القَائِلِ. فَظَاهِرُ اللَّفْظِ فِي الآيَتَيْنِ مُتَّفِقٌ وَلَكِنَّ أَحْوَالَ الخِطَابِ اخْتَلَفَت فَاخْتَلَفَ المَعْنَى.

وَمِمَّا جَاءَ فِي الشِّعْرِ مِن ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

أَشَابَ الصَّغِيرَ وَأَفْنَى الكَبِيـ   ///   ـرَ كَرُّ الغدَاةِ وَمَرُّ العَشِيّ

وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:

أَهْلَكَنَا اللَّيْلُ وَالنَّهَار مَعاً   ///   وَالدَّهْرُ يَغْدُو مُصَمّماً جَذعا

وَقَدْ عَلَّقَ عَبدُ القَاهِرِ عَلَى البَيْتَيْنِ بِقَوْلِهِ: “فَإِذَا سمعْنَا [ذَلِكَ] كانَ طَريقُ الحكمِ عَلَيْهِ بِالمَجَازِ أَنْ تَعْلَمَ اعْتِقَادَهُم التَّوحِيدَ إِمَّا بِمَعْرِفَةِ أَحْوَالِهِم السَّابِقَةِ أَو بِأَن تَجِدَ فِي كَلاَمِهِم من بعدِ إِطلاَقِ هَذَا النَّحوِ، مَا يَكْشِفُ عَن قَصْدِ المَجَازِ فيهِ”(19)، وَفِي كَلاَمِهِ هَذَا إِشَارةٌ وَاضِحَةٌ إِلَى السِّيَاقِ الخَارِجِيِّ، فَأَيُّهُمَا أَسْعَف بِالوُصُولِ إِلَى الصُّورَةِ فَهُوَ المُرَادُ بِالسِّيَاقِ.

يَظْهَرُ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ بَعْضَ النُّصُوصِ مُغْلَقٌ وَلاَ يُفْتَحُ لِلْفَهْمِ إِلاَّ بِمَفَاتِيحَ خَارِجِيَّةٍ، مِثْل مَقَاصِدِ المُتَكَلِّمِ، وَهِيَ الخَبيءُ النَّفْسِيُّ الذِي يُوجَدُ فِي حَيَاةِ صَاحِبِ النَّصِّ وَمُعْتَقَدِهِ وَثَقَافَتِهِ التِي يَشْتَرِكُ مَعَهُ فيها القارِئُ، فَيَكُونُ القارِئُ مَحْكوماً بِها فِي الفَهْمِ مُلْزَماً بِأَدَوَاتِها في اسْتِخْراجِ الصُّورَةِ الشِّعْرِيَّةِ، وهِيَ طُرُقُ العَرَبِ فِي كَلاَمِهَا، وَمَذَاهِبُهَا فِي قَوْلِ الشِّعْرِ وَالتَّصْوِيرِ، وَقَوَاعِدُهَا فِي الاستِعَارَةِ وَالتَّشْبِيهِ وَالتَّمثِيلِ وَالمَجَازِ وَالكِنَايَةِ، نَحْوَ: “رَأَيْتُ أَسَداً” وَأَنتَ تَعْنِي شُجَاعاً، وَ “بَحْراً” تُريدُ كَرِيماً، وَ “بَدْراً” تُريدُ مُضِيءَ الوَجْهِ، و”سَلَلْتُ عَلَى العَدُوِّ سَيْفاً” تُريدُ رَجُلاً مَاضِياً فِي نُصْرَتِكَ… وَقَدْ سَمَّى النُّقَّادُ القَارِئَ للشِّعْرِ العَارِفَ بِثَقَافَتِهِ المُبينَةِ المُلِمَّ بِشُرُوطِ قِرَاءَتِهِ: “بِأَهْلِ العِلْمِ بِالشِّعْرِ” و”أَهْلِ نَقْدِ الشِّعْرِ” و”العَارِفِينَ ذَوْقَ الكَلاَمِ” و”المُتَمَهِّرِينَ فِي فَصْلِ جَيِّدِهِ مِن رَدِيئِهِ”. وهِيَ مُصْطَلَحَاتٌ ومَفَاهِيمُ يُمكِنُ أَنْ تُحَدِّدَ لَنَا صورةَ “القَارِئِ المُخَاطِبِ” فِي شَكْلٍ مِن أَشْكَالِهِ.

وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نَقْرَأَ النَّصَّ الشِّعْرِيَّ القَدِيمَ فَإِنَّنَا سَنَجِدُ أَنْفُسَنَا مُلْزَمِينَ بِأَن نَدْخُلَ فِي نِظَامِ القَارِئِ المُقَيَّدِ بِقُيُودِ الثَّقَافَةِ التِي تُحيطُ بذَلِكَ الشِّعْر وتَكونُ له بمنزلَةِ المُعجَم الكَشّافِ؛ لأَنَّ الشِّعْرَ عِنْدَ العَرَبِ كَانَ عِلْمَ قَوْمٍ لم يَكُنْ لَهُم عِلْمٌ أَصَحّ مِنْهُ. لاَبُدَّ مِنَ النَّصِّ عَلَى هَذِه الأُصُولِ المَعْرِفِيَّةِ.

 ثمّ لا بُدَّ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ تَطْبِيقَ المَنَاهِجِ الحَديثَة عَلَى نُصُوصِ الشِّعْرِ العَرَبِيِّ القَدِيمِ، مَحْفُوفٌ بِكَثِيرٍ مِنَ المَزَالِقِ وَالمَخَاطِرِ وَالعَقَبَاتِ، إِنْ أَغْفَلَتْ هَذِهِ المَنَاهِجُ سِيَاقَ الشِّعْرِ التَّارِيخِيَّ وَالاجْتِمَاعِيَّ وَقَواعِدَ التَّعْبِيرِ الشِّعْرِيِّ التِّي صِيغَت مِنْهَا عُلُومُ الآلَةِ كَالنَّحْوِ وَالبَلاَغَةِ وَالعَرُوضِ.

لاَبُدَّ مِنَ الانْتِبَاهِ إِلَى خَطَرِ النَّصِّ القَدِيمِ؛ لأَنَّهُ جِسْمٌ تَتَفَاعَلُ فِيهِ اللُّغَةُ وَالدَّلاَلَةُ وَقِيَمُ النَّفْسِ وَالمُجْتَمَعِ وَالتَّارِيخِ، وَلَهُ طَاقَةٌ عَلَى استِيعَابِ القِيَمِ اللُّغَوِيَّةِ وَغَيْرِ اللُّغَوِيَّةِ وَعَلَى صَهرِهَا وَتَحْوِيلِهَا ومَنْحِها حَيَاةً وَحَرَكَةً وَامْتِدَاداً، فَيُصْبِحُ مَيداناً لِحَرَكَةِ اللُّغَةِ وَلِتَفَاعُلِ نُصُوصٍ أُخْرَى دَاخِلَهُ.

ــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1) أسرار البلاغة: 152-153.

(2) أسرار البلاغة:4.

(3) أسرار البلاغة: 4

(4) أسرار البلاغة: 195.

(5) أسرار البلاغة: 143

(6) أسرار البلاغة:30

(7) أسرار البلاغة:34-92-304

(8) سر الفصاحة: 44

(9) نفسه :144

(10) أسرار البلاغة:327

(11) أسرار البلاغة:121.

(12) أسرار البلاغة:121.

(13) نفسه:145.

(14) نفسه:138.

(15) أسرار البلاغة: 320.

(16) نفسه:320.

(17) الجاثية: 24.

(18) آل عمران: 117.

(19) أسرار البلاغة: 337-338.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق