مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

بين العربية والعامية

أصبحنا نسمعُ دفاعًا عن العامّيّاتِ والدّوارِجِ واللّهجاتِ المحلّيّةِ، بدعوى أنّها اللّغةُ المحكيّةُ ولغةُ الخطابِ اليوميِّ ولغةُ الواقعِ، وأنّ العربيّةَ لغةٌ كلاسيكيّةٌ لم تعدْ تَفي بمطالبِ الواقعِ المتطوِّرِ.
لا شكّ أن العامّيّةَ أساءَت إذْ عَبَثَت بالقُيودِ اللّغويّة، فباتَ من المستحيلِ وَضعُ قواعدَ محكَمَةٍ لصرفِها ونحوِها ولكتابتِها؛ فهي في الكثيرِ من تعابيرِها تكادُ تكونُ لغةَ اختزالٍ، والعامّيّة العربيّةُ “لُغاتٌ” عدّةٌ لا “لغة” واحدة. هذا وقد وُجدَ من الكُتّابِ من دافعَ عن العامّيّةِ والْتَمَسَ لها الأعذارَ وحمّلَ الفُصْحى تبِعاتِ العامّيّاتِ وأوزارَها، ومنهُم ميخائيل نعيمة: «غيرَ أنّ تفلُّت العامّيّةِ من القيودِ لا يجبُ أن يُعمِيَنا عمّا في قُيودِ الفصحى من الإرهاقِ، فهناك قواعدُ كثيرةٌ قد يكون أنّها كانت ضروريّةً فيما مضى، أمّا اليومَ فقد أصبحت أَحاجِيَ في استطاعتِنا نبذُها من غيرِ أن نخسرَ اللّغةَ أو نخسرَ شيئًا بل على العكسِ، فللُّغة ولنا في نبذِها أو تعديلِها خيرٌ عميمٌ، واذكرْ على سبيلِ المثالِ أحرفَ النّصبِ والجزمِ، والنِّداءِ والتّمنّي، والإعلالِ والإدغامِ، وكان وأخواتها، وإنّ وأخواتها، والهمزةَ وعينَ المضارِع، والأعدادَ المركَّبةَ، والممنوعَ من الصّرفِ… ولا أزيدُ، فالمجال يتّسعُ للتّمادي في البحثِ والتّحليلِ»1
ومثله قالَ شاعرٌ مهجريّ آخَرَ لا يَعْنيه شأن العربيّةِ لأنّه لا يَعْنيه دينُها وعَقيدَتُها، هو جَبْران خليل جَبْران: قال في [لي لُغتي ولكم لُغتُكم] : «لكم من اللّغةِ العربيّة ما شئتُم، ولي منها ما يُوافقُ أفكاري وعَواطفي. لكم منها الألفاظُ وترتيبُها، ولي منها ما تومئُ إليه الألفاظُ ولا تلْمَسُه، ويصبو إليه التّرتيبُ ولا يبلُغُه. لكُم منها جُثثٌ محنَّطةٌ باردةٌ، تحسبونَها الكلَّ بالكلِّ، ولي منها أجسادٌ لا قيمةَ لَها بذاتها بل كلُّ قيمتِها بالرّوحِ التي تحلُّ فيها. لكم منها محجّةٌ مُقرَّرةٌ مقصودةٌ، ولي منها واسطةٌ متقبّلةٌ لا أستكفي بها إلاّ إذا أوصلَتْ ما يختبئُ في قلبي إلى القُلوبِ، وما يَجولُ بضميري إلى الضّمائر… لكُم لُغتُكم عَجوزاً مُقعدَةً ولي لغتي صبيّةً غارقةً في بحرِ أحلامِ شبابِها، وماذا عسى أن تصيرَ إليه لُغتُكم عندَما يُرفعُ السّتارُ عن عَجوزكُم وصبيّتي؟» 2

أصبحنا نسمعُ دفاعًا عن العامّيّاتِ والدّوارِجِ واللّهجاتِ المحلّيّةِ، بدعوى أنّها اللّغةُ المحكيّةُ ولغةُ الخطابِ اليوميِّ ولغةُ الواقعِ، وأنّ العربيّةَ لغةٌ كلاسيكيّةٌ لم تعدْ تَفي بمطالبِ الواقعِ المتطوِّرِ.

لا شكّ أن العامّيّةَ أساءَت إذْ عَبَثَت بالقُيودِ اللّغويّة، فباتَ من المستحيلِ وَضعُ قواعدَ محكَمَةٍ لصرفِها ونحوِها ولكتابتِها؛ فهي في الكثيرِ من تعابيرِها تكادُ تكونُ لغةَ اختزالٍ، والعامّيّة العربيّةُ “لُغاتٌ” عدّةٌ لا “لغة” واحدة. هذا وقد وُجدَ من الكُتّابِ من دافعَ عن العامّيّةِ والْتَمَسَ لها الأعذارَ وحمّلَ الفُصْحى تبِعاتِ العامّيّاتِ وأوزارَها، ومنهُم ميخائيل نعيمة: «غيرَ أنّ تفلُّت العامّيّةِ من القيودِ لا يجبُ أن يُعمِيَنا عمّا في قُيودِ الفصحى من الإرهاقِ، فهناك قواعدُ كثيرةٌ قد يكون أنّها كانت ضروريّةً فيما مضى، أمّا اليومَ فقد أصبحت أَحاجِيَ في استطاعتِنا نبذُها من غيرِ أن نخسرَ اللّغةَ أو نخسرَ شيئًا بل على العكسِ، فللُّغة ولنا في نبذِها أو تعديلِها خيرٌ عميمٌ، واذكرْ على سبيلِ المثالِ أحرفَ النّصبِ والجزمِ، والنِّداءِ والتّمنّي، والإعلالِ والإدغامِ، وكان وأخواتها، وإنّ وأخواتها، والهمزةَ وعينَ المضارِع، والأعدادَ المركَّبةَ، والممنوعَ من الصّرفِ… ولا أزيدُ، فالمجال يتّسعُ للتّمادي في البحثِ والتّحليلِ»1

ومثله قالَ شاعرٌ مهجريّ آخَرَ لا يَعْنيه شأن العربيّةِ لأنّه لا يَعْنيه دينُها وعَقيدَتُها، هو جَبْران خليل جَبْران: قال في [لي لُغتي ولكم لُغتُكم] : «لكم من اللّغةِ العربيّة ما شئتُم، ولي منها ما يُوافقُ أفكاري وعَواطفي. لكم منها الألفاظُ وترتيبُها، ولي منها ما تومئُ إليه الألفاظُ ولا تلْمَسُه، ويصبو إليه التّرتيبُ ولا يبلُغُه. لكُم منها جُثثٌ محنَّطةٌ باردةٌ، تحسبونَها الكلَّ بالكلِّ، ولي منها أجسادٌ لا قيمةَ لَها بذاتها بل كلُّ قيمتِها بالرّوحِ التي تحلُّ فيها. لكم منها محجّةٌ مُقرَّرةٌ مقصودةٌ، ولي منها واسطةٌ متقبّلةٌ لا أستكفي بها إلاّ إذا أوصلَتْ ما يختبئُ في قلبي إلى القُلوبِ، وما يَجولُ بضميري إلى الضّمائر… لكُم لُغتُكم عَجوزاً مُقعدَةً ولي لغتي صبيّةً غارقةً في بحرِ أحلامِ شبابِها، وماذا عسى أن تصيرَ إليه لُغتُكم عندَما يُرفعُ السّتارُ عن عَجوزكُم وصبيّتي؟» 2

قالَ الأستاذ فَضل حسَن عبّاس معلّقاً على جبران: « لقد وهم جبرانُ، فها هي العربيّةُ لغة الرّقّة، ولكنّها مع ذلِك لغة الدّقّة، وستظلُّ خَضِرَةً نَضرةً، جَديرةً بأن تحتلَّ مكانَتها اللاّئقةَ بها في هذا العالَم، إن ارتَفَع بِها قومُها» 3

ــــــــــــــــــــ

الفهرس: 

(1)   بين العامّيّة والفُصحى، الأعمال الكامِلة لميخائيل نعيمه، دار العلم للملايين، بيروت، ط.1 مارس 1973، ج:7 / ص: 356-359.

(2) الاتّجاهات الوطنيّة في الأدب المُعاصر، محمد محمد حسين، مؤسسة الرسالة، ط.5-، 1982-1402

(3)     البَلاغةُ المُفتَرى عليها بين الأصالَة والتّبعيّة، فَضل حَسن عبّاس، دار النّفائس، الأردن، ط.1، 1432-2011، ص: 150.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق