مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

بين التوسط والتطرف، أي معيار؟ نحو جواب صوفي عن سؤال الوسطية(2)

    بعد أن  بسطنا الكلام في الجزء الأول من هذه الدراسة حول السيولة الدلالية والاختلاف المفاهيمي الذي طال ماهية الوسطية التي تحولت في زمننا هذا إلى مفهوم تبسيطي مبتور وملتبس محكوم بشعور ساذج قائم على محض الإشباع الايديولوجي/ الفكراني، وبعد محاولة نقد تعامل الخطاب الإسلامي المعاصر مع مفهوم الوسطية، سنعمل في هذا الجزء على تقديم بعض عناصر الإجابة الصوفية عن السؤال الوسطية، لكن قبل ذلك وحتى يتسنى لنا أن نجيب من منطلق صوفي معرفي عن هذا السؤال نقترح إتباع الخطة الأتي التي تضعنا أمام جملة من المحاذير والاحترازات التي يؤدي تجنبها إلى الخروج عن بنية الفهم المسبق والملتبس والانفلات من قبضة حجاب المسبقات، وتقتضي هذه الخطة ما يلي:

    أ‌- لا يمكن بناء معيار للوسطية خارج ما قرره الشرع، لذلك فمبادئ الوسطية تُطلب من داخل روح النصوص الشرعية الثبوتية.

    ب‌- الجواب عن سؤال الوسطية يقتضي التمسك بكل قديم نافع والانتفاع بكل جديد صالح، كما يقتضي تعليق بنية بعض الفهوم الموروث وتسريح الفكر، لا لكي يتنطع عن المعتقد بل لكي يوسعه كلما تُنطع عليه.

    ت‌- تجنب استباق الفهم، والإعراض عن الجواب الجاهز، والابتعاد عن المفاهيم الرخوة التبسيطية والسطحية.

    ولما كان طلب الوسطية طلبا مقصديا يحمل على المعنى القيمي، وكانت الوسطية قيمية موضوعية مطلوبة كعلم عملي نافع، سنفرد لها مبادئ نعتبرها مبادئ أساسية وعامة:

    1- مبدأ التخلق الفطري: ومقتضاه أن يخرج المتخلق المستغرق في العمل الشرعي من «النظر المجرد ويدخل في العمل المباشر، فلا تفيد في تخليقه التحليلات المقالية والاستماع إلى التوجيهات الوعظية، وإنما الذي يفيده هو القيام الفعلي بالالتزامات التعبدية على مقتضاها التربوي، انتظام ومواظبة»[1]. ولما كان كل نظر عملي حي كفيل لتحصيل القدرة على استخراج مضامين النصوص الأصلية، باعتبار أن النص كلما بَعُد عن عصره وعن أسباب ورده، غطت معانيه ألون من التجارب والمعارف المتراكمة في عقولنا، ومبدأ الاقتداء الحي هو وسيلة عملية لإدراك الدلالة العملية لمعاني النصوص، بحيث يخرج المتخلق من تصور الوسطية على أنها مجرد فكرة مثالية، للتحول إلى قيمة معتبرة، وكل قيمة هي أمر معتقد يستوجب سلوكا وفقها. بهذا المفهوم تصير الوسطية قيمة وسلوكا يوافق الفطرة الإنسانية جمعاء.

    2- مبدأ العقلانية الشهودية: لما كانت الوسطية احتكاك مباشر بين العلم والعمل ومحك لمدى تطابق الوعي الشرعي بالواقع العملي قصد جلب المنافع ودرء المفاسد، كان لابد من التميز بين وسطية مبينة على عقلانية مجردة تصير العقل شارعا، وتدعو إلى استقلاله وتجريده المطلق عن الدين، ووسطية مؤسسة على عقلانية شهودية طريقها البصيرة القلبية والعقل المؤيد الذي يُخرج المتخلق من حدود الإيمان التسليمي التقليدي إلى معرفة يقينية قلبية شهودية معرفة «أصحاب مشاهدة الجمال وأرباب مكاشفات الجلال الذين استخصهم الله بهذه السعادة واصطفاهم لهذه السيادة، بلا وهم في كتم العدم محبوسون من عهد القديم… فأين من يعرف الحق تعالى بإرادة العقل ممن يعرفه الحق بإراءة آياته في مرآة الآفاق، وقبله يقول تعالى: ﴿سنيرهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم الحق﴾»[2] (فصلت 53) .  

    3 – مبدأ الكونية: لما كانت طبيعة العمل الصوفي طبيعة تحويلية عميقة ومنفتحة نابعة من قلوب حية متصلة بالله عز وجل، استحال معها أن يكون هذا العطاء محل تدخل أو تسلط أو تحكم أو تحيز لعرق أو لون أو جماعة… لأنه عطاء يعانق هوية الإنسان وكينونته الأخلاقية والعملية. ومن تم كانت الوسطية من منظور الرؤية الصوفية، “وسطية شمولية” مطلبها تحرير الإنسان من أغلال أغراضه وحظوظه،  وسطية لا تخص جماعة معينة أو شعبا معينا أو عرقا… بل هي موجهة إلى الإنسانية جمعاء قصد تنوير أفق الإنسان حيثما كان لإخراجه من حال الانفصال إلى حال الاتصال، ومن الغفلة إلى اليقظة قصد تحقق السعادة والتعارف الخَيِّر المبني على الكلم الطيب مصداقا لقول الحق سبحانه: ﴿يَا أيُهَا النَّاسُ إنَا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وأنْثَى وَجَعَلْنَاكُم شُعُوبٍا وَقَبَائِل لِتَعَارَفُوا، إن أكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أتَقَاكُم، إنَّ اللهَ عَلْيمٌ خَبِيرٌ﴾ (الحجرات 13).


[1] تجديد المنهج في تقويم التراث، لطه عبد الرحمن، 84.

[2] منازل السائرين ومقامات الطائرين، أبوبكر الرازي، ص 46.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق