الرابطة المحمدية للعلماء

بينات إضافية عن مقاصد تأسيس مركز الدراسات القرآنية ورسالته

من أهداف المركز الكشف عن حقيقة الادعاءات والمزاعم غير العلمية  حول القرآن المجيد

بعد توصل مركز الدراسات القرآنية الفتي بجملة طيبة من التبريكات، وكذا التساؤلات عن طبيعته ووظيفته، يسر القائمين عليه بعد شكر الجميع الإبداء بهذه البينات الإضافية عن مقاصد تأسيسه وعن رسالته.

فمنذ أواسط القرن الماضي عرفت موجة القراءات المعاصرة للقرآن الكريم تناميا متزايدا في الساحة الثقافية والعلمية، انخرط فيها كتاب مسلمون ومستشرقون، يشتركون في إثارة قضايا مرتبطة بالقرآن الكريم من خلال توظيف مناهج لسانية، وسوسيولوجية، وتاريخية، وأنثروبولوجية.. وقد اختلفت منطلقات وأهداف هذه القراءات، كما تعددت المناهج التي اعتمدتها في مقاربة الكتاب الخاتم، إلى درجة أن بعضها، في غفلة عن طبيعة القرآن المجيد وخصائصه الكلية، رام استنطاقه بالآليات والأدوات المنهاجية نفسها التي تطبق على النصوص البشرية بأبعادها النفسية والأنثربولوجية والسياسية، وسياقاتها التي تتبلور فيها، مما لا يتواءم مع حقيقة النص القرآني المنزل..

والمتتبع للمشهد الثقافي المعاصر يجد أن هناك اتجاهات رفعت عنوان الحداثة والتحرر والعقلانية.. للطعن في قدسية القرآن وإطلاقيته وتصديقه وهيمنته على ما عداه من الكتب السماوية، ناهيك عن الفهوم البشرية التي تحكمها النسبية والمحدودية…

وقد خلّفت هذه الدعاوى ردود أفعال طغى على معظمها الانفعال والتشنج، فأضحت أسيرته، عوض التزام العلمية في الفهم المتعقل القادر على إيجاد الحلول العملية بدل الشعارات..؟

      ولا يمكن بحال تجاوز هذه الاختلالات الفهمية إلا بإدراك للمناهج والطرائق التي اعتمدها كل هؤلاء، كما أن هذا التجاوز لا يمكن تحقيقه بدون الرصد الدقيق للنتائج والآثار التي خلفتها هذه القراءات، وشرط ذلك كله، القيام بقراءات وكشوف منهجية علمية، في إطار عمل مؤسسي، طويل النفس، للتعاطي العلمي مع هذه الطروحات، وتصويب ما ينبغي تصويبه منها، وتفنيد ما ينبغي تفنيده منها؛ وفقا للضوابط العلمية والشرعية المرعية. فالفتنة تقبل بشبهة ولا تدبر إلا ببيان، وهو بيان وجب أن يكون قوليا وفعليا في الآن نفسه، يُصدّق فيه الفعلُ القولَ، ولا يكذّبه، يعضّده ويساهم في تحققه وتحقيقه، لا يكون مشغلة للتنكب عنه وعدم الوفاء به، وكل خلل في ذلكم البيان وكل تنكب عن ذالكم العمل واكتفاء بالقول دون الفعل قد يصير بدوره فتنة بالأصل بعد أن كان يروم إخماد فتنة، مما لا يخفى مقارفة المفاسد له.

في هذا السياق، وتفعيلا لتوجيهات مولانا أمير المومنين جلالة الملك محمد السادس، أيده الله، للرابطة المحمدية للعلماء في خطابه الملكي السامي بتطوان يوم السبت 26 رمضان 1429ه موافق 27 شتنبر 2008 بضرورة “تعبئة كل الطاقات العلمية التي تزخر بها بلادنا”، تَم تأسيس مركز للدراسات القرآنية بالرابطة المحمدية للعلماء، مع مطلع السنة الهجرية 1431هـ، ليكون هيئة متكاملة ومتفاعلة في هذا الجانب تتيمم شطر خدمة كتاب الله، وإظهار إشراق هذا الدين، والعمل بما يصلح البلاد والعباد.

ولا يخفى أن التصدي لمثل هذه القضايا ومثيلاتها مما يموج به عالمنا المعاصر، يستوجب جهدا مزدوجا؛ نظريا وعمليا، والتزاما يقوم على الفعل قبل القول. وهذا من المقتضيات التشريعية لمفهوم الواجب في الإسلام، ومن تطلباته الحكمية؛ فالواجبات الكفائية في المنظومة الإسلامية، وكما تنبه إلى ذلك الإمام الشاطبي وغيره، رغم أنها في الأصل أعمال إذا قام بها البعض سقطت عن الباقي، فإن القادرين على النهوض بها، يتوجب عليهم القيام بها، أما الذين لا يقدرون ولا تسمح لهم مؤهلاتهم بذلك، فيتعين عليهم “إعانة القادرين” وليس إعاقتهم.

مما يستدعي برنامجا كاملا قوامه الإحساس بالواجب، والقصدية المستحضرة للمآل أثناء الوفاء بهذا الواجب. وهو مقتضى الآية الكريمة: (ضَرَبَ اللهُ مَثَلا رجُلَين أَحَدُهُما أَبْكَم لاَ يَقْدِر علَى شَيءٍ وَهُو كَلٌّ علَى مَوْلاَه أَيْنَما يُوَجّهْه لا يَات بِخَير هَل يَسْتوي هُو وَمَن يامُر بٍالعَدل وَهُو علَى صِراطٍ مسْتَقيم) وهي آية كريمة تحدد مقومات القيام بالواجب من الأعمال كلِّها، وعلى جميع المستويات.

ولنا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ” خير مُعين ومنير في هذا الطريق. فذروة سنام تغيير المنكر بنص الحديث، هي تغييره باليد؛ أي بالعمل والحفر والكشف المصحوب بالقوة العلمية، حتى إذا لاح العجز وعدم القدرة، التي وجب أن تكون شرعية، عندها يجوز التغيير باللسان، فالقلب وهو أضعف الإيمان. وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مثل هذا فقال:” أدوا الحق الذي عليكم، واسألوا الله الذي لكم”. صحيح مسلم.

وهذا لا شك مسلك يستوجب اعتماد كل المداخل الممكنة، وعبر جميع الوسائل المتوافرة، مما يقتضي علما ملائما وظيفيا، وجهداً جماعيا منتظما، وإخلاصا متواصلا، وتعاونا وتناصحا وتدرجا، تمثلا بقول الإمام أبي القاسم الشاطبي ابن فِرّه الضرير، حين قال في حرز الأماني ووجه التهاني: “فزاحم بالذكاء لتفضلا”..

 ولئن كنا، وعلى حد تعبير الحارث المحاسبي، “في فطرنا فيما بيننا وبين الخلق؛ نحب قول الأخ والقرابة والعالم والشريف على قدر محبتنا له، ونجلّ قوله ونعظّم ونردد ذكره ونتفهم معانيه، على قدر حبنا له وإجلالنا له، فكلام العالم عندنا أحلى وألذ وأرفع من كلام الجاهل، وكلام الشريف، من كلام [غيره]، وكلام من أحْسَنَ إلينا، لا كمن لا إحسان له إلينا…” فلا أحد “..أعظم من الله عز وجل عندنا قدرا ولا أشرف… ولا أحد أعلم من الله عز وجل…” (العقل وفهم القرآن ص302-303).

 أقرب من هذا القول النفيس له، رحمه الله:” قد طَبَعَنا طَبْعا، لا نعرف ما نتلو دون أن نصغي إليه بأسماعنا، ولا نفهمه وإن أصغينا إليه، حتى نحضر له عقولنا…، ولا نفهم قوله دون أن نُعظِّم ما قال في قلوبنا… ولا يَعْظُم ذلك عندنا مع طول موالاتنا بالدنيا، والاشتغال بذكرها…”(العقل وفهم القرآن ص 312).

ولئن كان القرآن الكريم حمالا لأوجه، كما جاء في الأثر، فلا يمكنه بثاثا أن يتحمل تجاوزات الناس الفهمية والإدراكية بدعوى الموضوعية أو غيرها  من المسميات، في محاولة فهمه ومقاربته، فلا محمل – بحمد الله- لذلك فيه أبدا.

من هنا، وحتى نبلغ مستوى تطلعات أمتنا، في خدمة هذا الكتاب الكريم، ولأجل إبراء الذمة في التكليف، وجب الأخذ بجملة أسباب:
أولها، الالتفاف حول رائدنا الأول في هذه القضية وغيرها؛ ولي الأمر، مولانا أمير المومنين جلالة الملك محمد السادس أيده الله، وتعضيد كل مساعيه الخيرة بهذا الصدد وبغيره من أوجه البر التي ما فتئ حفظه الله باذلا لوسعه فيها. ثم ثانيا، العكوف وثَني الرُكب لمحاورة القرآن المجيد قراءة وتلاوة وترتيلا، عن طريق إنجاز الأبحاث المنهجية الجادة الناجعة والمؤسسة بطريقة وظيفية مسترسلة تطبق المفاصل وتضع الهناء في مواطن النقب. وثالثا، نشر هذه الأبحاث والدراسات وعقد التظاهرات الناجعة في هذا الجانب، وما واءمها وجرى مجراها، من أجل إعادة المركزية للنص المرجعي؛ قرآنا وسنة صحيحة، وإعمال النظر فيهما في سبيل استيعاب الإشكالات الجديدة التي استجدت في أسيقة جديدة. وكذا الإسهام في استكمال المناهج العلمية المسعفة في مجالات تمكين المسلمين في العصر الحديث من فهم أفق القرآن الكريم. ورابعها: تعزيز الجسور العملية والمعنوية الممتدة بين مختلف أرجاء هذا الوطن العزيز، وأرجاء الأمة الإسلامية قاطبة، بكل أوجه وأضرب التعاون المثمر على البر والتقوى. وخامسها: عدم ادخار أي جهد لكشف حقيقة الادعاءات والمزاعم غير العلمية التي تنطلق منها استخداما لمقاربات نسبية لهذا النص المطلق وذلك ببيان واتزان. كل ذلك في دعاء خالص ومستمر للباري جل وعلا أن يعزز جهود المخلصين ويباركها.

وهذه كلها أمور وجب التعاون بين الجميع لرفعها، وقد صح عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: “مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالْمُدَّهِنِ فِيهَا ، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ فِي الْبَحْرِ ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا ، وَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا ، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا يَصْعَدُونَ ، فَيَسْتَقُونَ الْمَاءَ ، فَيَصُبُّونَ عَلَى الَّذِينَ فِي أَعْلَاهَا ، فَقَالَ الَّذِينَ فِي أَعْلَاهَا: لَا نَدَعُكُمْ تَصْعَدُونَ ، فَتُؤْذُونَنَا ، فَقَالَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا : فَإِنَّنَا نَنْقُبُهَا مِنْ أَسْفَلِهَا ، فَنَسْتَقِي ” قَالَ: ” فَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ ، فَمَنَعُوهُمْ ، نَجَوْا جَمِيعًا ، وَإِنْ تَرَكُوهُمْ غَرِقُوا جَمِيعًا ” [أخرجه البخاري في صحيحه، رقم 2493].

علما أن مخاطبة مجتمع بأكمله، ليست كمخاطبة إنسان واحد، فأُذن المجتمع، وعين المجتمع، أجهزة استقبال جماعية لها خصائصها وقابلياتها، إذ لا تتلقى إلاّ الخطاب الذي استجمع مواصفات البلاغ، وملامسة مختلف مراكز وقنوات ومؤسسات وهيئات هذا المجتمع، مما يقتضي العلم والصبر والدأب. وهي كلها أمور وجب السعي لاستكمالها حتى يتم التجسير بين الآمرين بالقسط من الناس، الممتلكين لأهلية ذلك، الملازمين لهدي نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم، المخلصين المريدين وجه ربهم، وبين مجتمعهم، مما يقتضي إعداده أيضا اجتهاداً وتشميراً.

ولتحقيق الأهداف سالفة الذكر وغيرها، فإن المركز سيعتمد على الوسائل الآتية:
ـ النقد المعرفي؛ القائم على التفكيك والمناقشة والتوضيح، لمختلف المدارس الفكرية المهتمة بالدراسات القرآنية، ولما تصدره من منشورات ودوريات، في الشرق والغرب على السواء، مع العناية بالإنتاج والتوليد المعرفيين، حتى يعود للمرجعية المعرفية القرآنية صفاؤها.

ـ نشر البحوث والرسائل والأطروحات المتميزة التي تعنى بالدراسات القرآنية، باللغة العربية أساسا، وبسائر اللغات الحية، ولا سيما منها الإنجليزية والفرنسية والإسبانية واللغات الأسيوية.

ـ عقد الندوات والمؤتمرات العلمية لمناقشة مختلف القضايا والمستجدات في مجال الدراسات القرآنية، مع الحرص على أن يتم اختيار المواضيع بدقة عالية، حتى نخلص إلى نتائج عملية محددة، وتوصيات علمية معتمدة.

ـ إنشاء مكتبة متخصصة في الدراسات القرآنية، بمختلف اللغات الحية، تعمل على حصر شامل لكل ما كتب في هذا المجال قديما وحديثا، مع العمل على تصنيفه، وتبويبه، وفهرسته، ليكون متاحا للدارسين والباحثين في مختلف التخصصات.

ـ التنسيق مع أقسام الدراسات الإسلامية، وأقسام العلوم الإنسانية بجامعات العالم وتيسير عنايتهم بالدراسات القرآنية المنهجية المعرفية، مع إبراز أبعاد ذلك ودلالاته.

ـ إنشاء موقع” الدراسات القرآنية المنهجية المعرفية” على شبكة الأنترنت باللغة العربية وبما تيسر من اللغات الحية، يهتم بموضوعات الدراسات القرآنية.

ـ إعداد ورعاية أجيال من نوابغ الباحثين، من مختلف بقاع العالم، ومن المملكة المغربية على
وجه الخصوص، وتوجيههم للتخصص في الدراسات القرآنية المنهجية المعرفية.

ـ إصدار مجلة دورية علمية محكمة متخصصة في الموضوع، تتغيى إعادة الاعتبار للدراسات القرآنية المنهجية، وتُعرف بأبحاث ودراسات المركز.

والله المستعان

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق