مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكشذور

بيان فضائل أهل السنة والجماعة

قال أبو المظفر الإسفراييني

“اعلم أنه لا خصلة من الخصال التي تعد في المفاخر لأهل الإسلام، من المعارف والعلوم وأنواع الاجتهادات،إلا ولأهل السنة والجماعة في تزيينها القدح المعلى والسهم الأوفر:      
أما العلوم فأولها الرقي في مدارج الفضل والأدب،هو ترجمان جميع العلوم،ومعرض جميع الفوائد الفاخرة في الدنيا والآخرة،إذ لا سبيل إلى تفسير القرآن وأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بمعرفة الأدب، وجملة الأئمة في النحو واللغة من أهل البصرة والكوفة في دولة الإسلام، كانوا من أهل السنة والجماعة،وأصحاب الحديث والرأي ولم يكن في مشاهيرهم من تدنس بشيء من بدع الروافض  والخوارج والقدرية،مثل أبي عمرو بن العلاء،الذي قال له عمرو بن عبيد القدري:قد ورد من الله تعالى الوعد والوعيد،والله تعالى يصدق وعده ووعيده،فأراد بهذا الكلام أن ينصر بدعته التي ابتدعها في أن العصاة من المؤمنين خالدون مخلدون، فقال أبو عمرو: فأين أنت من قول العرب أن الكريم إذا وعد عفا،وإذا وعد وفى،وافتخار قائلهم بالعفو عند الوعيد حيث قال:
       وإني إذا أوعدته أو وعدته       لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
فعده من الكرم لا من الخلق المذموم،وكذلك لم يكن في أئمة الأدب أحد إلا وله إنكار على أهل البدعة شديد،وبعد من بدعهم بعيد مثل الخليل بن أحمد،ويونس بن حبيب،وسيبويه،والأخفش، والزجاج،والمبرد،وأبي حاتم السجستاني،وابن دريد،والأزهري،وابن فارس،والفارابي،وكذلك من كان من أئمة النحو واللغة،مثل:الكسائي،والفراء،والأصمعي،وأبي زيد الأنصاري،وأبي عبيدة، وأبي عمرو الشيباني،وأبي عبيد القاسم بن سلام، وما منهم أحد إلا وله في تصانيفه تعصب لأهل السنة والجماعة،ورد على أهل الإلحاد والبدعة،ولم يقر واحد في شيء من الأعصار من أسلاف أهل الأدب بشيء من بدع الروافض والقدرية،غير أن جماعة من المتأخرين من أهل الأدب تدنسوا بشيء من ذلك تقربا إلى ابن عباد طمعا في شيء من الدنيا والرياسة،وأظهروا شيئا من الرفض والاعتزال،ومن كان متدنسا بشيء من ذلك،لم يجز الاعتماد عليه في رواية أصول اللغة، وفي نقل معاني النحو، ولا في تأويل شيء من الأخبار، ولا في تفسير آية من كتاب الله تعالى.
وثانيها:علم تفسير القرآن، ولم يكن في جميع من نسب إليه شيء من أصول تفسير القرآن، من وقت الصحابة إلى يومنا هذا، من تلوث بشيء من مذهب القدرية والخوارج والروافض، مثل الخلفاء الراشدين الذين تكلموا في التفسير،ومثل عبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم ومثل المشاهير من التابعين، وأتباع التابعين الذين تكلموا في التفسير: كسعيد بن جبير، وقتادة، وعطاء، وعكرمة، ومكحول، وعطية، ومن كان بعدهم:كالواقدي، ومحمد بن إسحاق بن يسار، والسدي، وغيرهم، ممن كان بعدهم إلى أن انتهت النوبة إلى محمد بن جرير الطبري وأقرانه، وكان الزجاج رأسا في نصرة أهل السنة والرد على أهل البدعة،وكذا الفراء قبله، وقد ردا في كتابيهما المصنفين في المعاني على القدرية والخوارج والروافض، وصنف بعض متأخري القدرية في تفسير القرآن على موافقة بدعتهم، وذلك لا يتداوله من أهل صنعة التفسير إلا مخذول، وقد جمعنا في كتابنا المعروف بتاج التراجم ما هو المعتمد من أقوال المفسرين ابتعادا عما أحدثه فيه أهل الضلالة والزيغ من التأويلات على سبيل التحريف.        
وثالثها: العلوم المتعلقة بأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، والتمييز بين الصحيح والسقيم من الروايات، ومعرفة السلف الصالح، ولا يدخل في تلك الصنعة إلا أهل السنة والجماعة،وكذلك علوم القرآن لاحظ في شيء منها لأحد من الخوارج والروافض والقدرية،وكيف يكون فيه حظ لمن يدعي أن في القرآن زيادة ونقصا،ويقدح في الصحابة الذين عليهم مدار الأحاديث،بل لا يبالي بأن يقدم عليهم بالتضليل والتكفير،ولو ندر فيما بين أهل القرآن والحديث من يتلبس بصنعتهم وهو يضمر سوء بدعته،فإنه ينذر سوء سريرته لا نعتد به.
ورابعها: علوم الفقه،ويختص بالتبحر فيه أصحاب الحديث وأصحاب الرأي، ولم يكن قط للروافض والخوارج والقدرية تصنيف معروف يرجع إليه في تعرف شيء من الشريعة،ولا كان لهم إمام يقتدى به من فروع الديانة.
وخامسها: علوم المغازي والسير والتواريخ والتفرقة بين السقيم والمستقيم، وليس لأهل البدعة من هو رأس في شيء من هذه العلوم، فهي مختصة بأهل السنة والجماعة.
وسادسها: علم التصوف والإشارات،وما لهم فيها من الدقائق والحقائق،لم يكن قط لأحد من أهل البدعة فيه حظ، بل كانوا محرومين مما فيه من الراحة والحلاوة والسكينة والطمأنينة، وقد ذكر أبو عبد الرحمن السلمي من مشايخهم قريبا من ألف، وجمع إشاراتهم وأحاديثهم، ولم يوجد في جملتهم قط من ينسب إلى شيء من بدع القدرية والروافض والخوارج، وكيف يتصور فيهم من هؤلاء، وكلامهم يدور على التسليم والتفويض، والتبرئ من النفس، والتوحيد بالخلق والمشئية، وأهل البدع ينسبون الفعل والمشيئة والخلق والتقدير إلى أنفسهم، وذلك بمعزل عما عليه أهل الحقائق من التسليم والتوحيد.     
وسابعها: أن لأهل السنة والجماعة التفرد بأكثر من ألف تصنيف في أصول الدين، منها ما هو مبسوط يكثر علمه، ومنها ما هو لطيف يصغر حجمه، في أعصار مختلفة من عصر الصحابة إلى يومنا هذا، في نصرة الدين والرد على الملحدين،والكشف عن أسرار بدع المبتدعين،ولم يكن لواحد من متقدمي القدرية والروافض والخوارج تصنيف في هذا النوع يظهر ويتداول،وهل كان لهم علم حتى يكون لهم فيه تصنيف،بلى قوم من متأخريهم تكلفوا جمع شبهه، يخادعون به القوم عن أديانهم وصنفوا فيها تصانيف، أكثرها لا يوجد إلا بخط المصنف،إذ كان الاشتغال بنقلها من قبيل تعطيل الوقت بالمقت.

 وقيض الله تعالى في عصرنا في كل إقليم من أقاليم العالم سادة من أعلام أئمة الدين صنفوا في نصرة الدين وتقوية ما عليه أهل السنة والجماعة والرد على أهل البدع فيما زوروه من الشبه، مثل القاضي: الإمام أبي بكر الأشعري، وله قريب من خمسين ألف ورقة من تصانيفه في نصرة الدين والرد على أهل الزيغ والبدع، لا تكاد تندرس إلى يوم القيامة مثل كتاب الهداية، وكتاب نقض النقض، وكتاب التقريب في الأصول، والكتاب الكبير في الأصول، يشتمل على عشرة آلاف ورقة، وكتاب الكسب، وكتاب التمهيد، وغير ذلك، من التصانيف التي لا يكاد يتفق مثلها إلا لمن وافقه التوفيق.    
ومثل الإمام أبي إسحاق الإسفراييني رحمه الله الذي عقمت النساء عن أن يلدن مثله، ولم تر عيناه في عمره مثل نفسه، وكان شديدا على خصم،ه يفرق الشيطان من حسه قدس الله روحه، وله تصانيف في أصول التوحيد، وأصول الفقه، كل واحد منها معجز في فنه منها كتاب الجامع، وهو كتاب لم يصنف في الإسلام مثله، ولم يتفق لأحد من الأئمة في شيء من العلوم مثل ذلك الكتاب، ومن حسن أحكامه أنه لا طريق لأحد من المخالف والموافق إلى نقضه؛ لحسن تحقيقه وإتقانه، ولا يتجاسر أحد لأن يتصدى لنقضه للطف صنعته في وضعه،وله في دقائق الفقه والمقدرات كتاب حير به الأفهام، ولا يهتدي لحله إلا من أنفق دهره على حسه، وله عدد كثير من لطائف التصانيف يهتدي بها الناس في أصول الدين مثل: المختصر في الرد على أهل الاعتزال والقدر، ولم يوجد في الإسلام كتاب مثل حجمه، يجمع ما يجمعه من النكت في الرد على أهل الزيغ والبدع، وكتاب الوصف والصفة لم ير كتاب في مثل حجمه يجمع من الفوائد في أصول الدين ما يجمعه، وكتاب تحقيق الدعاوي وهو في لطافة حجمه يتضمن الطرق التي يتوصل بها إلى إبانة بطلان الباطل من المقالات،وتصحيح الصحيح منها جميعها في سبع طرق من يهدي إليها،لم تخف عليه كيفية الرد على شيء من مقالات الملحدين والمبتدعين،وكتاب شرح الاعتقاد الذي لا يطلع على علومه أحد إلا استبان له طريق أهل السنة على وجه لا يتخالجه فيه شيء من الشك والشبهة، وله في الأصول كتاب ترتيب المذهب،وكتاب المختلف في الأصول لم يجمع مثلهما في علم أصول الفقه بعد الشافعي ومثل الأستاذ أبي بكر بن فورك الأصفهاني رضي الله عنه،الذي لم ير مثله في نشر دينه،وقوة يقينه،وله أكثر من مائة وعشرين تصنيفا في نشر الدين والرد على الملحدين،وتحقيق أصول الدين وله في الإسلام آثار ظاهرة.

 ولو لم يخرج من مجلسه من المتزهدين والأقوياء في نصرة الدين إلا الأستاذ الإمام أبو منصور الأيوبي رضي الله عنه، وهو الذي كان يفر من حسه شيطان كل ملحد على وجه الأرض؛ لقوة نظره وحسن عبارته ولطافته في الرد على خصمه،وله كتاب التلخيص،ولو لم يكن لأهل السنة والجماعة في الرد على أهل الإلحاد والبدعة سوى ذلك الكتاب في حسن بيانه،ولطافة ترتيبه وتهذيبه،كان فيه الكفاية في حسنه مع ما له من التصانيف الأخر التي تداولتها أيدي أهل الأقاليم بحسن البيان ولطافة التنميق.  
ولو لم يكن لأهل السنة والجماعة من مصنف لهم في جميع العلوم على-الخصوص والعموم- إلا من كان فرد زمانه وواحد أقرانه في معارفه وعلومه،وكثرة الغرر من تصانيفه،وهو الإمام أبو منصور عبد القاهر بن طاهر بن محمد البغدادي التميمي قدس الله روحه،وما من علم من العلوم إلا وله فيه تصانيف،ولو لم يكن له من التصانيف إلا كتاب الملل والنحل في أصول الدين،وهو كتاب لا يكاد يسع في خاطر بشر أنه يتمكن من مثله؛لكثرة ما فيه من فنون علمه وتصانيفه في الكلام والفقه والحديث والمقدرات التي هي أم الدقائق تخرج عن الحصر،لم يسبق إلى مثل كتبه في هذه الأنواع مع حسن عبارته وعذوبة بيانه ولطافة كلامه في جميع كتبه.    
وقد تأملنا ما جمعه هؤلاء الأئمة في أصول التوحيد من الكتب البسيطة والوجيزة،ومن تقدم من سادة الأئمة وأعيان أهل السنة والجماعة،فجمعنا نكتهم في كتاب الأوسط بعبارات قريبة وألفاظ وجيزة،اتباعا لآثارهم وبناء على مقالاتهم،والله تعالى قد ينفع بجميع ما تيسر من التصانيف في الفقه والفرائض والمقدرات والكلام والتفسير والتعبير بالفارسية ما شاء الله بفضله وجوده.
وأما أنواع الاجتهادات الفعلية التي مدارها على أهل السنة والجماعة في بلاد الإسلام،فمشهورة مذكورة،مثل المساجد والرباطات المثبتة في بلاد أهل السنة،أما في أيام بني أمية، وأما في أيام بني العباس مثل مسجد دمشق المبني في أيام الوليد بن عبد الملك،وكان سنيا قتل في أيامه ما شاء الله من الخوارج والروافض والقدرية، وبني أخوه مسملة بن عبد الملك المسجد بالقسطنطينية،وما قام إلى هذه المدة بعمارة مسجد مكة والمدينة إلا من كان من أهل السنة والجماعة،لم يكن لواحد من أهل بدع الخوارج والروافض والقدرية فيه سعي،وكان بعض المصريين يتغلبون ويسعون في عمارة شيء منه،لكن لا موقع لما كانوا يفعلونه مع سوء اعتقادهم كما قال الله تعالى {ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر} )التوبة:17 (،وكما قال تعالى {قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين})التوبة:53 (،
وقد تكلمنا قبل على سوء طريقهم وعظم فتنتهم فيما بين المسلمين، ومن كانت هذه طريقته لم يكن له بعمارته المسجد موقع عند الله تعالى، وعند المسلمين ومن آثارهم الإجتهادية سدهم ثغور الإسلام، والمرابطة بها في أطراف الأرض، مثل ثغور الروم وثغور أرمينية، وانسداد جميعها ببركات أصحاب الحديث، وأما ثغور بلاد الترك فمشتركة بين أهل الحديث والرأي، وليس لأهل الأهواء في شيء من الثغور مرابطة ولا أثر ظاهر، بل هم أشد ضلالة على الروافض والخوارج والقدرية، فبان لك بما ذكرناه من مساعي أهل السنة والجماعة في العلوم والاجتهادات، أنهم أهل الاجتهاد والجهاد، والجهاد في الدين يكون تارة بإقامة الحجة في الدعوة إلى المحجة، ويكون تارة باستعمال السيف مع المجاهدين ضد أهل الخلاف من الأعداء، وببذل الأموال والمهج وقد خص الله تعالى فيهم قوله{والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين}. (العنكبوت:69) وإذا كان في الجهاد في النوعين صادرا منهم كانت الهداية مختصة بهم {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم}. (الحديد:21).
وقد عصمهم الله أن يقولوا في أسلاف هذه الأمة منكرا أو يطعنوا فيهم طعنا، فلا يقولون في المهاجرين والأنصار وأعلام الدين، ولا في أهل بدر وأحد وأهل بيعة الرضوان إلا أحسن المقال، ولا في جميع من شهد النبي صلى الله عليه وسلم لهم بالجنة، ولا في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأولاده وأحفاده، مثل الحسن والحسين والمشاهير من ذرياتهم، مثل عبد الله بن الحسن وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر ابن محمد وموسى بن جعفر وعلي بن موسى الرضا، ومن جرى منهم على السداد من غير تبديل ولا تتغير ولا في الخلفاء الراشدين، ولم يستجيزوا أن يطعنوا في واحد منهم وكذلك في أعلام التابعين وأتباع التابعين، الذين صانهم الله تعالى عن التلوث بالبدع، وإظهار شيء من المنكرات ولا يحكمون في عوام المسلمين إلا بظاهر إيمانهم، ولا يقولون بتكفير واحد منهم إلا أن يتبين منه ما يوجب تكفيره، ويصدقون بقول النبي صلى الله عليه وسلم ” يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب يشفع كل واحد منهم في عدد ربيعة ومضر”  ويوجبون على أنفسهم الدعاء لمن سلف من هذه الأمة كما أمر الله تعالى في كتابه حيث قال {ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم}.(الحشر:10).”

 التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين لأبي المظفر الإسفراييني،دراسة وتحقيق الدكتور محمد الخليفة،دار ابن حزم،الطبعة الأولى 14289هـ-2008. ص 419-431.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق