مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةدراسات عامة

“بيان ألقاب الباطنية والكشف عن السبب الداعي لهم على نصب هذه الدعوة”

يقول أبو حامد الغزالي:

«الفصل الأول: في ألقابهم التي تداولتها الألسنة على اختلاف الأعصار والأزمنة، وهي عشرة ألقاب:
الباطنية، والقرامطة، والقرمطية، والخرمية، والخرمدينية، والإسماعيلية، والسبعية، والبابكية، والمحمرة، والتعليمية. ولكل لقب سبب:
 أما الباطنية: فإنما لُقِّبوا بها لدَعواهم أن لظواهر القرآن والأخبار بواطن تجري في الظواهر مجرى اللب من القشر، وأنها بصُوَرها تُوهم عند الجهَّال الأغنياء [وفي نسخة الأغبياء] صُوَراً جلية،  وهي عند العقلاء والأذكياء رموزٌ وإشاراتٌ إلى حقائق معينة،  وأن من تقاعَد عقلُه عن الغوص على الخفايا والأسرار والبواطن والأغوار، وقنع بظواهرها مسارعاً إلى الاغترار،- كان تحت الأواصر والأغلال مُعَنًّى بالأوزار والأثقال، وأرادوا بـ” الأغلال” التكليفات الشرعية. فإنَّ من ارتقى إلى علم الباطن، انحطَّ عنه التكليف واستراح من أعبائه، وهم المرادون بقوله تعالى:﴿ويضع عنهم إصرهم والأغلالالتي كانت عليهم﴾ [سورة الأعراف آية 157] ، وربما موَّهوا بالاستشهاد عليه بقولهم: إن الجهَّال المنكرين للباطن هم الذين أُريدوا بقوله تعالى:﴿بينهم فضرب بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب﴾ [سورة الحديد-الآية:13]، وغرضهم الأقصى: إبطال الشرائع. فإنهم إذا انتزعوا عن العقائد موجبَ الظواهر قدروا على الحكم بدعوى الباطن على حسب ما يوجبُ الانسلاخ عن قواعد الدين، إذ سقطت الثقة بموجب الألفاظ الصريحة فلا يبقى للشرع عصامٌ يُرجع إليه ويعوَّل عليه.
وأما القرامطة: فإنما لُقِّبوا بها نسبة إلى رجل يقال له: حمدان قرمط،  كان أحدَ دُعاتهم في الابتداء، فاستجاب له في دعوته رجال، فسمُّوا: قرامطة وقرمطية. وكان المسمَّى حمدان قرمط رجلا من أهل الكوفة مائلا إلى الزهد، فصادفه أحد دعاة الباطنية في طريق وهو متوجّه إلى قريته وبين يديه بقر يسوقها، فقال حمدان لذلك الداعي- وهو لا يعرفه ولا يعرف حاله-: أراك سافرت عن موضع بعيد، فأين مقصدُك؟ فذكر موضعا هو قرية حمدان. فقال له حمدان: اركب بقرة من هذه البقر لتستريح عنتعب المشي، فلما رآه مائلا إلى الزهد والديانة أتاه من حيث رآه مائلا إليه، فقال: إني لم أومر بذلك.
فقال حمدان: وكأنك لا تعمل إلا بأمر؟، قال: نعم. قال حمدان: وبأمر مَن تَعمل؟، فقال الداعي: بأمر مالكي ومالكك، ومن له الدنيا والآخرة. فقال حمدان: ذلك إذن هو ربُّ العالمين، فقال الداعي: صدقتَ، ولكن الله يهَبُ مُلكَه لمن يشاء. قال حمدان: وما غرضك في البقعة التي أنت متوجّه إليها؟، قال: أُمرت أن أدعوَ أهلَها من الجهل إلى العلم، ومن الضلال إلى الهدى، ومن الشقاوة إلى السعادة، وأن أستنقذهم من ورطات الذل والفقر، وأُمَلّكهم ما يستغنون به عن الكدّ والتعب. فقال له حمدان: أنقذني! أنقذك الله!، وأفض عليَّ من العلم ما يحبّبني به، فما أشد احتياجي إلى مثل ما ذكرته، فقال الداعي: وما أُمرتُ بأن أُخرج السرَّ المخزون لكل أحد إلاَّ بعد الثقة به والعهد عليه. فقال حمدان: وما عهدك؟، فاذكره لي، فإني ملتزم له، فقال الداعي: أن تجعل لي وللإمام على نفسكَ عهدَ الله وميثاقَه أن لا يخرج سرُّ الإمام الذي ألقيتُه إليك، ولا تُفشي سرّي أيضا. فالتزم حمدان سرَّه، ثم اندفع الداعي في تعليمه فنون جهله حتى استدرجه واستغواه، واستجاب له في جميع ما دعاه. ثم انتدب حمدان للدعوة، وصار أصلا من أصول هذه الدعوة، فسمَّى أتباعَه القرمطية.
وأما الخُرمية: فلُقّبوا بها نسبةً لهم إلى حاصل مذهبهم وزبدته، فإنه راجع إلى طيّ بساط التكليف، وحطّ أعباء الشرع عن المتعبّدين، وتسليط الناس على اتّباع اللّذات وطلب الشّهوات، وقضاء الوطر من المباحات والمحرمات. و”خرم” لفظ أعجمي، ينبئ عن الشيء المستلذّ المستطاب الذي يرتاح الإنسان إليه بمشاهدته ويهتزُّ لرؤيته، وقد كان هذا لقبا للمزدكية، وهم أهل الإباحة من المجوس الذين نبغوا في أيام قباذ، وأباحوا النساء وإن كن من المحارم، وأحلُّوا كل محظور. وكانوا يسمون خرمدينية. فهؤلاء أيضا لقبوا بها لمشابهتهم إياهم في آخر المذهب، وإن خالفوهم في المقدماتوسوابق الحيل في الاستدراج.
 وأما البابكية: فاسمٌ لطائفة منهم بايعوا رجلا يقال له: بابك الخرمي، وكان خروجه في بعض الجبال بناحية أذربيجان في أيام المعتصم بالله، واستفحل أمرهم واشتدَّت شوكتهم، وقاتلهم أفشين- صاحب حبس المعتصم- مداهنا له في قتاله، ومتخاذلا عن الجد في قمعه، إضمارا لموافقته في ضلاله. فاشتدت وطأة البابكية على جيوش المسلمين، حتى مزَّقوا جند المسلمين وبدَّدوهم منهزمين، إلى أن هبت ريح النصر، واستولى عليهم المعتصم- المترشح للإمامة في ذلك العصر- فصلب بابك وصلب أفشين بإزائه. وقد بقي من البابكية جماعة يقال إن لهم ليلة يجتمع فيها رجالهم ونساؤهم ويطفئون سرجهم وشموعهم ثم يتناهبون النساء، فيثب كل رجل إلى امرأة فيظفر بها، ويزعمون أن من استولى على امرأة استحلها بالاصطياد، فإن الصيد من أطيب المباحات. ويدَّعون- مع هذه البدعة- نبوة رجل كان من ملوكهم قبل الإسلام يقال له شروين، ويزعمون أنه كان أفضل من نبينا صلى الله عليه وسلم، ومن سائر الأنبياء قبله.
وأما الاسماعيلية: فهي نسبة لهم إلى زعيمهم محمد بن إسماعيل بن جعفر، ويزعمون أن أدوار الإمامة انتهت به، إذ كان هو السابع من محمد صلى الله عليه وسلم، وأدوار الإمامية سبعة سبعة عندهم، فأكبرهم يثبتون له منصب النبوة، وأن ذلك يستمر في نسبه وأعقابه. وقد أورد أهل المعرفة بالنسب في كتاب “الشجرة” أنه مات ولا عقب له.
 وأما السبعية فإنما لُقّبوا بها لأمرين، أحدهما: اعتقادهم أن أدوار الإمامة سبعة، وأن الانتهاء إلى السابع هو آخر الدور، وهو المراد بالقيامة. وأن تعاقب هذه الأدوار لا آخر لها قط. والثاني: قولهم إن تدابير العالم السفلي، أعني ما يحويه مقعر فلك القمر منوطة بالكواكب السبعة التي أعلاها زحل، ثم المشتري، ثم المريخ، ثم الشمس، ثم الزهرة، ثم عطارد، ثم القمر. وهذا المذهب مسترق من ملحدة المنجمين وملتفت إلى مذاهب الثنوية في أن النور يدبر أجزاؤه الممتزجة بالظلمة بهذه الكواكب السبعة. فهذا سبب هذا التلقيب.
وأما المحمّرة فقيل: إنهم لُقّبوا به لأنهم صَبغُوا الثياب بالحمرة أيام بابك ولبسوها، وكان ذلك شعارهم. وقيل: سببه أنهم يقرّرون أن كلَّ من خالفهم من الفرق وأهل الحق: حمير. والأصح هو التأويل الأول.
وأما التعليمية فإنهم لُقّبوا بها لأن مبدأ مذاهبهم: إبطال الرأي، وإبطال تصرف العقول، ودعوة الخلق إلى التعليم من الإمام المعصوم، وأنه لا مَدرك للعلوم إلا التعليم. ويقولون في مبتدأ مجادلتهم: الحق إما أن يعرف بالرأي، وإما أن يعرف بالتعليم. وقد بطل التعويل على الرأي، لتعارض الآراء وتقابل الأهواء واختلاف ثمرات نظر العقلاء، فتعيَّن الرجوع إلى التعليم والتعلم. وهذا اللقب هو الأليق بباطنية هذا العصر، فإن تعويلهم الأكثر على الدعوة إلى التعليم، وإبطال الرأي، وإيجاب اتّبَاع الإمام المعصوم، وتنزيله- في وجوب التصديق والاقتداء به- منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

[كتاب: فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية لأبي حامد الغزالي-

قدم له وضبطه وصححه: عبد الكريم سامي الجندي-

دار الكتب العلمية-لبنان-الطبعة الأولى/2002- ص:23-24-25-26]

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق