وحدة الإحياءدراسات محكمة

بنية القرآن كمدخل لإعادة القراءة

 أولا: البنية وإعادة القراءة

لماذا إعادة قراءة القرآن؟ ولماذا نقترح بنية القرآن مدخلاً لهذه الاستعادة؟، سؤالان مشروعان يحفزهما ما للمصطلحين من براقة الحداثة والمعاصرة، ولما يضمرانه في الاستعمال الغالب من نزعة فلسفية ونقدية في شتى الاستعمالات، فالقراءة ستحيل إلى ما عرف بالقراءة المعاصرة للقرآن، والبنية ستحيل إلى البنيوية في سياقاتها الفلسفية واللغوية والاجتماعية، وبالتالي فإن العنوان سيبدو من الوهلة الأولى آتياً في هذا السياق.

إن طرح الأسئلة حول العنوان إن جاء ليحترز مما قد يتبادر منه فإنه لا ينفي الأثر المعرفي الذي آلت إليه مناهج البحث في دراسة القرآن الكريم بفعل تطور النظريات الفلسفية واللغوية وغيرها، وكذلك أثر التوظيف السلبي لها في دراسة القرآن الكريم، إذ أدى هذا النمط من القراءات المعاصرة إلى ميلاد وعي أعمق بمركزية القرآن في الفكر الإسلامي، ومحوريته في مشاريع النهوض والتجديد.

أما لماذا إعادة القراءة؟ سيتبادر إلى الذهن أيضاً المنحى التوظيفي، والاتكاء على التأويل المفتوح تحت شعار “حمال أوجه” وبالتالي تمرير ما يريد القارئ من القرآن أن يقوله، وعليه فمظنة البراءة لا تبدو غالبة في مشاريع إعادة قراءة القرآن، والقراءة المعاصرة، واستخدام المناهج الحديثة في دراسته.

إن تجربة المسلمين الحديثة في دراسة القرآن تبرر هذه المخاوف والتوجسات، فالعهد بدراسة القرآن هو المنحى التفسيري المعهود الذي لم يتقدم بمناهج التفسير إلا جزئياً، فالجهد انصب على إعادة الصياغة والترتيب الشكلي (تحريراً)، مع إضافات في تفسير بعض الآيات وتوجيه النظر فيها ترجيحاً أو استنباطاً ونقداً لتفاسير سابقة (تنويراً)، مع طغيان نزعة المفسر المذهبية أو الفكرية، فيما بقيت المقاربات الأخرى في دراسة القرآن تعتمد على هذا التفسير التجزيئي بدرجة كبرى كالتفسير الموضوعي الذي بقي بطيئاً في التطور ولم يتبلور منهجياً بشكل يمكن اعتباره إضافة نوعية ومستقلة، لكنه شكل نواة لتطور الدرس القرآني، وبالمقابل ظهرت نزعة ثورية انتفضت على مناهج المفسرين واستغلت ثغرات فيها وفي علوم القرآن، مدعية قراءة معاصرة للقرآن تتوسل مناهج مختلفة وأحياناً تجمع متناقضات منها، ما أدى بها إلى الخروج بخليط من الأفكار غير المنسجمة والمتناقضة أحياناً ادعيت دراسة للقرآن الكريم، مما أدى إلى زيادة الوثاقة بالمنهج التقليدي لدراسة القرآن ومرجعيته، والشك والحذر من أي مقاربة جديدة أو غير مألوفة في درس القرآن الكريم.  ومما زاد هذا الحذر ما آلت إليه كثير من المقاربات تبعاً، إذ اتخذت موقفاً من السنة النبوية ومرجعيتها، فضلاً عن الموقف من التراث الإسلامي عموماً ما جعل الدراسة القرآنية غير التقليدية تهمة بذاتها.

 في هذا الجو المشحون بالهواجس والشكوك التي تغيب فيها تقاليد المعرفة وأصول البحث والنقد سيبقى الدرس القرآني بين نزعتين: الأولى تأسر تطوره في أقفاص ما انتهى إليه المفسرون، وتبقي نوافذ له مما يؤكد ذلك من تطورات العصر، والنزعة الثانية تجعل الدرس القرآني كأي مقاربة لأي نص، فيخضع لتطور الدرس اللغوي والأدبي والتاريخي، ويبقى ميدان تجربة للقارئ يقرأ فيه ما يشاء.

لكن البحث العلمي الهادئ والرصين كان ولا يزال بعيداً عن هذه النزعات، وهو الكفيل بأن يحقق الإبداع في الدراسة والرصانة في المنهج والإخلاص في الهدف، فأن يكون ما وصل إليه المفسرون هو نهاية المطاف في فهم القرآن لا يمكن أن يكون منسجماً مع حقيقة أنه كتاب لا يخلق على كثرة الرد، وكونه كتاباً إلهياً لا يحيط بكلماته زمان أو مكان، “قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا” [سورة الكهف/الآية:109]، وإذا كانت دراسة القرآن لا تتجاوز ما قدمه المفسرون فهذا يعني أننا لم نقدم جديداً لفهم القرآن، ومن المعلوم أن الجديد ليس بالضرورة نقداً أو نقضاً للقديم، بل لا يمكن أن يكون هناك جديد من غير بناء على ما هو قديم ترميماً أو إعادة بناء، وبالتالي فتصور الجديد نسخة من القديم أو نقيضاً له بالضرورة تحكم غير منطقي، وتعقيم لبذور الإبداع، كما أن تصور الجديد في فهم القرآن أنه قول فيه من غير منهج منسجم هو الآخر تقول على النص لا يستحق النظر.

فإعادة دراسة القرآن تستمد مشروعيتها من طبيعة القرآن نفسه فهو نص أنزل ليقرأه كل من يدخل في خطابه، ولا يحده زمان أو مكان، كما أن ما كتبه المفسرون هو تجربة في فهم القرآن، إن كشفت عن جوانب من معانيه وأحكامه فإن جوانب أخرى ما تزال مكنونة فيه، وإن لم تتقدم مناهج المفسرين على مر العصور في كشف جوانب جديدة، فإن سؤال المنهج يبدو ملحاً والمدخل إلى دراسة القرآن يبدو مفصلياً في إمكانية إضافة جديدة في فهم النص واكتناه معانيه.

فإذا كان البحث الجديد مشروعاً فلماذا نسميه قراءة وليس تفسيراً؟ والإجابة ترجع إلى بعدين الأول أن ما سيدخل تحت اسم القراءة من دراسة يختلف عما عرف من منهج للتفسير، فالاختلاف المنهجي بحد ذاته مبرر لاختلاف المصطلح، ومن ناحية أخرى فإن تسمية القرآن بهذا الاسم تحمل دلالة للواجب نحوه وهو القراءة وهي ليست مجرد تلاوة لفظية ونطق لسان إنما تشمل التدبر والفهم، والمعنى اللغوي للقراءة كما تؤكد المعاجم هو الجمع لأي شيء، فقراءة القرآن جمع له ولا معنى لجمع النص إلا إدراك معانيه من متفرق ألفاظه المتسقة فيه، ومعنى الجمع هذا سنربطه بتعبير آخر له ارتباط بالنص القرآني هو الكتاب.

أما البنية في تعريفها الفلسفي البسيط فهي نسق عقلاني يحدد وحدة الشيء وهي القانون الذي يفسره[1]، هذان البعدان من مفهوم البنية هما ما سنستفيد منه في مقاربتنا، مع إدراكنا لذيول مفهوم البنية وتبعاته في مختلف السياقات والمذاهب، إلا أن هذا البعد الذي حددنا هو بعد حيادي يحيل إلى افتراض وجود نظام داخلي للشيء يعبر عن وحدته وكما يتضمن روابط عقلانية تفسره، ولئن كانت البنيوية كمذهب ترفض أثر أي عنصر خارجي في تفسيره، فإن مفهوم البنية إن كان يتضمن مبدأ التفسير الداخلي فإنه لا ينحصر فيه بالضرورة، لكنه يستلزم أن يكون هو الحاكم في التفسير والمنطلق.

وبالتأمل في القرآن يمكننا أن نجد فيه مفهوم البنية كأفضل مثل لها، فهو نسق واحد مترابط ترابطاً عقلانياً تعبر عنه روابط كثيرة بين آياته وسوره، وكمنطلق في الإسلام فإن للقرآن هيمنة مطلقة على ما دونه من نصوص، وأدق ما يمكن أن يكشف هذه الهيمنة هو بنية القرآن كنظام محكم، من هذا المنطلق يأتي اختيارنا لتعبير البنية كمدخل للقراءة.

ثانياً: جذور وعي القدماء  ببنية النص القرآني

نزل القرآن الكريم بلغة عربية، وكان العرب والمسلمون يتلقون القرآن ويفهمون معانيه بما يمتلكونه من فصاحة وبلاغة، ويدل وصفهم للقرآن على وعيهم به كنص يعبر عن بنية متكاملة، نجد ذلك في وصف المشركين للقرآن جملة بأنه سحر، وهو وصف ينسحب على مجمل ما سمعوه من القرآن ككل، وكذلك تعبير الوليد بن المغيرة واصفاً القرآن بقوله: “إن لقوله حلاوة وإن عليه طلاوة وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله وإنه ليعلو ولا يعلى”[2]، وهذه الأوصاف لا تتأتى إلا من خلال النظر إلى القرآن بمجمله لا بأجزاء منه، ووصف السيدة عائشة رضي الله عنها أخلاق الرسول عندما سئلت عنها قائلة: “كان خلقه القرآن” وربطت ذلك بتفسير قول الله عز وجل “وإنك لعلى خلق عظيم”[3]، وكأنها تعبر عن فهم عميق لتمثل الرسول  صلى الله عليه وسلم القرآن كجملة متكاملة.

وبعد عصر رسول الله صبى الله عليه وسلم كان الصحابة بما تلقوه من علم عن الرسول وبما يمتلكونه من معرفة بلغة العرب يفسرون كتاب الله قدر طاقتهم، ولم يُفَسَّر القرآن جميعه، وإنما فُسِّر بعض منه، وهو  ما غمض فهمه، فكان التفسير يتزايد تبعاً لتزايد الغموض، وكان واضحاً أنهم كانوا يفهمون القرآن جملة واحدة، يؤشر على ذلك قِلَّة الاختلاف بينهم في فهم معانيه، واكتفاؤهم بالمعنى الإجمالي، وكانوا لا يُلزمون أنفسهم بتفهم معانيه تفصيلاً.

وفي عهد التابعين غلب على التفسير نزعة طلب الرواية لتوظيفها في التفسير فسادت الإسرائيليات وحذفت الأسانيد التي قل فيها الصحيح، وأصبح البحث عن معاني القرآن من خارجه، من خلال الروايات بالخصوص، فجاء عصر التدوين تالياً وولد علم التفسير المدون وهو مثقل بالإسرائيليات والروايات المشكوك فيها، حتى إن أقدم تفسير مدون وصل إلينا تفسير مقاتل (150هـ) يعتبر الأنموذج للروايات الدخيلة في علم التفسير، وتلا ذلك نشأة مدارس التفسير المأثور والتفسير بالرأي والتفسير الفقهي… واستمر التفسير إلى عهدنا يتطور ويتكرر بنفس المنهجية التحليلية التي تتعامل مع القرآن كأجزاء وسور تفسر واحدة تلو الأخرى، مع تفاوت في العمق ومنزع التحليل، إذا فالنمط الغالب على منهجية التفسير هي التجزيء والبحث في المفردات والألفاظ، والاستنباط الفقهي والتفريع الدلالي لكل آية وما تتضمنه من معنى، وهذه المنهجية لا تكشف عن جوانب كلية في القرآن، بل حتى حول ما له صلة بالآية المدروسة لما للنظرة الكلية من أثر في اكتشاف البيان القرآني حول المسألة.

وبموازاة هذه المنهجية التحليلية كانت هناك محاولات أخرى فردية تتجه إلى دراسة القرآن من زاوية أخرى هي الرؤية الشاملة والكلية للقرآن الكريم، بدأ ذلك من منطلق الدفاع عن القرآن والبحث في إعجازه، وأول ما ظهر مع المعتزلة الذين اهتموا بمواضيع القرآن نظراً لاستنادهم إلى النص القرآني في احتجاجهم ودفاعهم.

فظهرت مع الجاحظ أولى تلك المحاولات، حيث تتبع في كتابه الحيوان ذكر النار في القرآن[4]، كما كان الجاحظ من أوائل من تنبه إلى أهمية دراسة القرآن من حيث أسلوبه ونظمه، ومع القاضي عبد الجبار تتبلور نظرية النظم التي تعتبر أهم وجه من وجوه الإعجاز، وتمثل منطلقاً مهماً للرؤية الكلية للقرآن، إذ تركز على النسق والروابط بين الكلام كما يقول الجرجاني “ليس النظم سوى تعليق الكلم بعضها ببعض، وجعل بعضها بسبب بعض”[5]، وقد أشار الشاطبي إلى ضرورة اعتبار الجزئي والكلي في النظر للسورة القرآنية فيرى أن النظر في السورة له اعتباران، الأول من جهة تعدد قضاياها، والاعتبار الثاني من جهة النظم، فلا بد من النظر في أول الكلام وآخره بحسب الاعتبار، فاعتبار جهة النظم لا يتم به فائدة إلا بعد استيفاء جميع السورة بالنظر[6]، فكانت نظرية النظم من التنظيرات المبكرة للنظر الكلي إلى القرآن بالتركيز على الأنساق والروابط بين أجزاء النص وتراكيبه.

في سياق آخر نجد محاولة ثانية ومبكرة أيضاً هي النظر إلى أجزاء من النص تشكل شبكة من المفاتيح لفهمه وربط المعنى بين مختلف أجزائه، نلحظ ذلك من خلال علم الوجوه والنظائر في القرآن الكريم، والذي يُعنى بالألفاظ القرآنية المستخدمة على أكثر من وجه، وهو علم لصيق بعلوم العربية لكنه منحصر في السياق القرآني وتعود جذوره إلى القرن الثاني الهجري، وإن كان يبدو علماً يركز على الألفاظ والمفردات فإنه في جوهره يكشف عن جوانب من بنية النص القرآني، لاسيما محاولات اكتشاف الروابط بين مختلف هذه الوجوه والنظائر، يبرز ذلك في تأويل النظائر بالاعتماد على اللغة لا المأثور، وإرجاعها إلى أصل واحد، نجد ذلك عند الحكيم الترمذي في كتابه “تحصيل نظائر القرآن” إذ ينفي فيه تعدد المعاني، لوجود علاقة واضحة بينها جميعاً، وحاول الترمذي تطبيق نظريته على إحدى وثمانين لفظاً[7]، وبهذا الرابط بين النظائر المتعددة في النص القرآني الذي أشار إليها الحكيم الترمذي يتم اكتشاف جانب من شبكة المعاني المنثورة في بنية النص، وهي ما يمكن اعتبارها كلمات مفتاحية لفهم بنية النص كالذي عرف في المناهج اللغوية الحديثة… وقريب من مقاربات الوجوه والنظائر ما عرف بعلم الغريب، حيث كانت بعض المؤلفات فيه كمفردات الراغب الأصفهاني تكشف عن ربط بين مختلف الألفاظ المنثورة في القرآن، وهو ربط يشبك المعنى بين مختلف السور، وقد تطورت دراسات المفردات القرآنية عموماً، وأصبحت مدخلاً جديداً لفهم بنية النص، وأفردت بالبحث، وظهرت العناية بفكرة المصطلح القرآني[8]، والهاجس فيها هو الوعي بأهمية اكتشاف المعنى في القرآن من خلال بنيته.

ثالثاً: الوعي الحديث بأهمية بنية القرآن

يمكن أن نسجل محطات مهمة في وعي المحدثين من الباحثين في الدراسات القرآنية بأهمية بنية القرآن كمدخل لدراسته، ويمكن أن نسجل منها بالخصوص المحطات التالية:

1. الوحدة الموضوعية والتفسير الموضوعي

ظهر حديثاً ما يسمى بالوحدة الموضوعية في القرآن الكريم[9]، وهي فكرة قديمة تجد جذورها عند الجاحظ، لكنها استحضرت مؤخراً كمنطلق لما غدا يعرف بالتفسير الموضوعي، الذي يسعى إلى تتبع موضوع        ما في جميع القرآن، أو اكتشاف موضوع يشكل رابطاً لكل سورة بمفردها، وفي هذا المنحى في الدراسة إدراك لأهمية النظرة الكلية للقرآن واكتشاف المعنى من مجمله لا من أجزائه، لكن معظم المحاولات في التفسير الموضوعي لم تحقق الهدف إذ انطلقت من الجزء إلى الكل من خلال تجميع ما ورد في التفسير التحليلي وتركيبه بما هو عليه، فلم تختلف إلا صورة البحث وقالبه فقط ومكمن ذلك افتقارها إلى المنهجية الشمولية المنضبطة[10].

2. الكلمات المفتاحية والرؤية القرآنية للعالم

أسهم المستشرقون بجهد مهم في الدراسات القرآنية وتركوا آثاراً متعددة، لكن الخلفية الاستشراقية حالت دون إسهام عدتهم المنهجية في تقديم نقلة نوعية في فهم القرآن ودراسته، إذ ظلت في إطار تفسير الظاهرة القرآنية وإرجاعها إلى تراث كتابي أو تأويل تاريخي أو تفكيكها من الداخل، ولم تتميز معظم الدراسات الاستشراقية بالجدية والصرامة المنهجية التي يمكنها التأثير في فهم القرآن، لكننا نجد استثناء مع الباحث الياباني توشيهكو إيزوتسو Toshihiko Izutsu (مختار)، بعد إسلامه، الذي قدم تجربة متميزة في دراسة القرآن دراسة دلالية، حاول من خلالها اكتشاف الرؤية القرآنية للعالم، وكان المنطلق واضحاً في عمله وهو التعامل مع القرآن كبنية متكاملة، والبحث فيه من خلال الكلمات المفتاحية لاكتشاف محتوى هذا النص، فحاول في كتابه “الله والإنسان في القرآن: دراسة دلالية لنظرة القرآن إلى العالم”[11] تطبيق علم الدلالة، وحاول اكتشاف النظام المفهوميّ الذي يعمل في القرآن، فتعامل مع المفهومات الفرديّة كجزء من البناء العامّ، أو البنية المتكاملة Gestalt التي اندمجت فيها. ويوضح في مقدمة كتابه أنّ التعابير المفتاحيّة التي تؤدّي وظيفة حاسمة في صياغة نظرة القرآن إلى العالم بما فيها اسمُ “الله” تعالى، ليس منها ما كان جديدًا ومبتكرًا، بل كانت كلّها تقريبًا مستخدمةً قبْل الإسلام. وعندما شرع الوحْيُ الإسلاميّ باستخدامها كان النظامُ كلُّه، أي السّياقُ العامُّ الذي استُخدمت فيه، هو الذي صدم مشركي مكّة بوصفه شيئًا غريبًا وغير مألوف وغير مقبول، تبعًا لذلك، وليس الكلمات الفرديّة والمفهومات نفسها. ويقول ههنا: “الكلماتُ نفسُها كانت متداولةً في القرن السّابع [الميلاديّ]، إن لم يكن ضمن الحدود الضيّقة لمجتمع مكّة التجاريّ، فعلى الأقلّ في واحدة من الدّوائر الدّينيّة في جزيرة العرب؛ ماجدّ هو فقط أنّه دخلت أنظمةٌ مفهوميّة مختلفة. والإسلامُ جمعَها، دمجَها جميعًا في شبكةٍ مفهوميّة جديدة تمامًا ومجهولة حتّى الآن”[12].

إن تجربة إيزوتسو قدمت إضافة نوعية في الدراسات القرآنية من جهة إعطائها نموذجاً تطبيقياً لدراسة بنية القرآن المتكاملة، وكيفية استثمارها في توضيح الرؤية القرآنية للقضايا المركزية التي تحدث عنها، وهي منهجية استثمرت علوم اللغة القديمة والحديثة بطريقة أمينة لا تستهدف التوظيف الاستشراقي المعهود، إنما قادت دراسته إلى نتائج محكمة تؤكد تماسك القرآن وانسجام بنيته، ويقدم إيزوتسو بتجربته المنهجية وما استخدمه من أدوات في تحليل بنية القرآن، وإن لم تكن كلها جديدة أو مبتكرة، إضافة نوعية في الدراسات القرآنية يمكن تطويرها والبناء عليها تنظيراً وتطبيقاً، ويمكنها أن تقدم جديداً في قراءة القرآن وفهم معانيه واكتشاف جوانب جديدة من إعجازه، ومربط الإبداع في عمله الانطلاق من بنية القرآن كمدخل للقراءة.

 الوحدة البنائية للقرآن المجيد

في إطار الجهود الحديثة المدركة لأهمية بنية القرآن نجد تأصيل الدكتور طه جابر العلواني للموضوع تحت عنوان “الوحدة البنائية للقرآن المجيد” والتي يقصد بها “أن القرآن المجيد واحد لا يقبل بناؤه وإحكام آياته التعدّد فيه أو التجزئة في آياته، أو التعضية بحيث يقبل بعضه، ويرفض بعضه الآخر، فهو بمثابة الكلمة الواحدة أو الجملة الواحدة أو الآية الواحدة، وإذا كانت قد تعددت آياته وسوره وأجزاؤه وأحزابه؛ فذلك التعدد ضرورة لا غنى عنها في التعليم والتعلّم، والتنزيل لتغيير الواقع وإبداله. فلم يكن في مقدور الإنسان أن يستوعب قرآنا يتصف بكل صفات القرآن ويأخذه الإنسان أو يتبناه بوصفه ذا وحدة بنائية         لا تختلف عن وحدة الكلمة في حروفها، ووحدة الجملة في كلماتها وأركانها، ووحدة الإنسان في أعضائه”[13]، ويعتبر أن معنى أي آية لن يستقيم ويتضح ما لم تقرأ في سياقها وموقعها وبيئتها وكذلك بإدراك سائر العلاقات بين الآية والقرآن كله[14]، ويتتبع الدكتور العلواني جذور الوعي بمسألة بنائية القرآن فيرجعها إلى البلاغيين ومسألة النظم، والقول بوحدة السورة، وينقد القراءة التجزيئية للقرآن، والتي  لا تلحظ الروابط بين كل آية والقرآن ككل، وفيما قدمه الدكتور العلواني دعوة واضحة إلى النظرة الشاملة للقرآن والتعامل معه كبنية واحدة، لكن القارئ كان ينتظر من مقاربة “الوحدة البنائية” أن تقدم نموذجاً تحليلياً وأدوات منهجية للموضوع، وقد قدم الدكتور العلواني مثالاً للوحدة البنائية في السورة التي سلم بها جمهور المعنيين بالدراسات القرآنية، وما قدمه من أمثلة سبق إليه الشاطبي[15] من المتقدمين ومحمد عبد الله دراز من المتأخرين[16].

 المفردة القرآنية كأداة لتحليل الخطاب

من المقاربات المهمة في دراسة القرآن من مدخل بنيته دراسة المفردة القرآنية كأداة لتحليل الخطاب، وقد حظي هذا الموضوع باهتمام خاص وتأصيل منهجي في دراسة الصديق الأستاذ عبد الرحمن الحاج الذي قدم أطروحة متميزة بعنوان: “دلالة المفردة القرآنية: دراسة لسانية أصولية مقارنة”[17] حاول فيها تتبع المنظور الأصولي واللغوي ومقارنته بالمنهج اللساني الحديث في مقاربة المفردة القرآنية، وقد جمع في دراسته بين التنظير ومحاولة التطبيق الجزئي التي قادته إلى اكتشاف ما أسماه “المركز المفهومي” الذي يدور الخطاب القرآني حوله، و”المحور التركيبي” لكل سورة وللقرآن ككل، وبالعموم فإن دراسته تمثل مدخلاً مهماً لتطوير منهجية البحث في الدراسات القرآنية، ومن مدخل بنية القرآن بشكل أساسي.

رابعاً: بنية القرآن (كلمات وكتاب)

إن أهم ما في البنية أنها نسق عقلاني يحدد وحدة الشيء وهي القانون الذي يفسره، والنسق العقلاني يكتشف من خلال مفردات البنية وأجزائها والقانون الذي يفسرها هو الروابط والعلاقات بين الأجزاء، وبهذا المعنى فإن النص القرآني كما أشرت يمثل نموذجاً لهذا المعنى، بل إن القرآن نفسه يشير إلى ضرورة اكتشافه من خلال هذه الزاوية، فسياق حديث القرآن عن الكلمات والكتاب يشير إلى انتظام القرآن كبنية متكاملة ونظام واحد.

فتأتي كلمات الله[18] على صورتين تكوينية تتمثل بالكون والأشياء، وتكليفية تتمثل بالنصوص المتضمنة للتعاليم الإلهية، فالكلمات هي أجزاء الكون وأجزاء النص، وهي قابلة للقراءة والمعاينة والفهم والاعتبار، فالكون المخلوق أثر بارز قد أُمر الإنسان بتدبره والنظر فيه، وكذلك كلمات الله الأخرى التي وصفها الله بأنها لا تنفد ولو نفدت طاقة الإنسان في قراءتها وملاحظة قوانينها وسننها، وهذه المقابلة بين كلمات القرآن وكلمات الكون لها دلالتها على الانتظام والدقة، وكون هذه الأجزاء دالة على كل تنضوي فيه ويمكن للمتأمل فيها أن يصل إلى تلمس جوانب هذا الكل.

وكلمات الله التكليفية باجتماعها تشكل الكتاب، وكلماته التكوينية باجتماعها تشكل الكون، وهذا تناظر آخر بين الكتاب (القرآن) والكتاب (الكون) المأمور بقراءتهما، وينتظم مفهوم الكتاب في القرآن (بمعناه غير اللغوي) ضمن محورين متكاملين: الكتاب الإلهي المنزل على الرسل، والكتاب الإلهي المحيط بالكون وقد سمي بأم الكتاب واللوح المحفوظ، ودلالة هذا الكتاب رمزية تحيل على النظام الوجودي والسنن الإلهية التي تحكم الكون وتسيره[19].

وفي تسمية القرآن بالكتاب دلالة على مفهوم البنية الذي أشرنا إليه، فكل ما ذكر في الكتاب من معان لغوية قريب بعضه من بعض وهو الجمع بين شيئين أو أكثر، فالكتاب هو المجموع من الحروف والكلمات الدالة على مقصود كاتبها، ويستلزم ذلك معنى لازماً له وهو الخط الذي تجمع من خلاله الحروف والكلمات، وبالتالي فالكتاب يشتمل على معنيين هما الجمع مع الانتظام، وهما ما نلحظه في كتاب القرآن وكتاب الكون، فرمز بالكتاب إلى النظام الوجودي الذي يسير الكون الذي خلقه الله وفق سنن ثابتة، فعُبِّر عنه بالكتاب لكون مفردات الكون تجتمع كلها لتشكل وحدة كما تجتمع الحروف والكلمات لتشكل كتاباً، فالمخلوقات تجتمع وتنتظم بالقانون الإلهي كما تجتمع الحروف والكلمات بالسطر الحامل للمعنى لتشكل كتاباً.

فالجمع بين الأجزاء من خلال نظام معين هو البنية التي ينبغي الانتباه إليها وفهمها، وقد أشار القرآن إلى الأجزاء (سماها الكلمات) وإلى حصيلة اجتماعها (سماها الكتاب) ومنها ما هو نصي تكليفي ومنها ما هو كوني، ومهمة الإنسان تجاهها هي القراءة، وبالتالي اكتشاف الكل من خلال أجزائه والجزء من خلال الكل، وهذا معنى اكتشاف القرآن من خلال مفرداته وفهم مفرداته من خلال مجموعه، وكذلك فهم الكون من خلال الذرة وفهم الذرة من خلال النظام الكوني، في تقابل محكم بين بنيتين تقودان إلى التعرف على الخالق وما أودعه من سنن تشريعية وتكوينية.

أخيراً

إن اكتشاف إحكام آيات القرآن وتفصيلها يتضح أجلى وضوح من خلال الدرس البنيوي للقرآن الذي لا يفصل بين أجزائه وبين كليته، ولئن أدرك دارسو القرآن الكريم جوانب من ذلك، فإن التأصيل المنهجي لهذا الجانب لا يزال ضعيفاً، ولم يستثمر كما ينبغي، هذا فضلاً عن قلة الجانب التطبيقي الذي يعتبر أساسياً في بناء المنهج واختباره، وإن الحاجة لمحلة لإحياء الوعي بأهمية بنية القرآن كمدخل لإعادة القراءة، كونها تفتح أفقاً للإبداع في فهم القرآن وتدبر معانيه، كما أن هذه الحاجة تتأكد لتفعيل مكانة القرآن في التشريع؛ أعني حاكميته على غيره من النصوص، والانطلاق منه كمصدر للتشريع.

الهوامش 


1. انظر: الموسوعة الفلسفية، ط: 1، معهد الإنماء العربي 1986، 1/198.
2. انظر: ابن الجوزي، زاد المسير في علم التفسير، ط: 3، المكتب الإسلامي–بيروت، 8/403.
3. انظر: مسند الإمام أحمد بن حنبل، ط: مؤسسة قرطبة–القاهرة، 6/91.
4. يرجع الباحثون إلى الجاحظ جذور التفسير الموضوعي، انظر: سامر عبد الرحمن رشواني، منهج التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، (رسالة ماجستير-جامعة القاهرة 1423هـ-2002م ) ستصدر قريباً عن دار الملتقى بحلب.
5. عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، المقدمة، صفحة: ق، تحقيق :رشيد رضا، ط: دار المعرفة-بيروت 1978.
6. انظر: الشاطبي، الموافقات، ط: دار المعرفة-بيروت 1975، 4/415.
7. انظر: سلوى محمد العوا، الوجوه والنظائر في القرآن الكريم، القاهرة: دار الشروق، ط: 1/1998م، ص: 23، وحول علم الوجوه والنظائر انظر: هند شلبي، مقدمة تحقيقها لكتاب التصاريف ليحيى بن سلام. تونس: الشركة التونسية للتوزيع، 1980م.
8. انظر: عبد الرحمن حللي، المفاهيم والمصطلحات القرآنية: مقاربة منهجية، مجلة إسلامية المعرفة، العدد: 35، شتاء 2004.
9. الوحدة الموضوعية في القرآن الكريم عنوان كتاب أصله  أطروحة دكتوراه قدمها محمد محمود حجازي في أصول الدين بالأزهر سنة 1967، وكانت أول دراسة متخصصة تعالج أحد الأسس التي يستند إليها التفسير الموضوعي، وهو مفهوم الوحدة، واستطاع أن يقدم عدداً من الدراسات التطبيقية التي تؤكد مفهوم الوحدة وتدعمه، إن على مستوى القرآن أو على مستوى السورة.
10. انظر حول التفسير الموضوعي: زياد خليل محمد الدغامين، منهجية البحث في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، عمان: دار البشير، ط:1/1995م، سامر عبد الرحمن رشواني، منهج التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، م.س.
11. صدر كتاب إيزوتسو Izutsu لأول مرة عام 1964 وعنوانه: God And Man In The Koran: Semantics of The Koranic Weltanschauung ، عن معهد كيو للدراسات الثقافية واللغوية في طوكيو، وقد ترجم ترجمة متميزة من قبل الأستاذ الدكتور عيسى العاكوب الأستاذ في كلية الآداب بجامعة حلب، وصدرت عن دار الملتقى بحلب عام 2007، كما صدرت للكتاب ترجمة أخرى في نفس العام عن المنظمة العربية للترجمة ببيروت أعدها الدكتور هلال محمد جهاد. هذا وللباحث إيزوتسو دراسة أخرى لا تقل أهمية حول المفهومات الأخلاقية في القرآن:  Structure of the Ethical Terms in the Koranوقد صدرت عام 1959م، وكذلك قام بترجمتها الدكتور العاكوب وستصدر قريباً عن دار الملتقى بحلب.
12. انظر: عيسى العاكوب، مقدمة الترجمة، ص: 11.
13. انظر: طه جابر العلواني، الوحدة البنائية للقرآن المجيد، ط:1 مكتبة الشروق–القاهرة 2006، ص: 14.
14. انظر: العلواني، م.س ص: 18.
15. يقدم الإمام الشاطبي نموذجاً للوحدة الموضوعية للسورة من خلال سورة المؤمنين التي يراها نازلة في قضية واحدة هي موضوع المكيات من السور، والتي ترجع معانيها إلى أصل واحد هو الدعاء على عبادة الله، انظر: الموافقات، 4/416 وما بعدها، م.س.
16. يستند الدكتور محمد عبد الله دراز إلى الشاطبي في القول بوحدة السورة، ويطبق ذلك على سورة البقرة تحت عنوان (نظام المعاني في سورة البقرة) ضمن كتابه: النبأ العظيم، ط: دار القلم–الكويت 1970، ص: 163.
17. رسالة ماجستير نوقشت في كلية الإمام الأوزاعي للدراسات الإسلامية في بيروت، 2006.
18. انظر: عبد الرحمن حللي، الأسماء والكلمات: دراسة مفاهيمية قرآنية، مجلة التجديد، الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، العدد: 19 ، السنة العاشرة، فبراير 2006م.
انظر: عبد الرحمن حللي، الكتاب: دراسة مفاهيمية قرآنية، مجلة التجديد، الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، العدد: 21، الجلد الحادي عشر، 2007م.

Science

الدكتور عبد الرحمن حللي

أستاذ التفسير وعلوم القرآن بكلية الشريعة، جامعة حلب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق