مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلاميةدراسات عامة

بنية الثقافة العلمية في ظل الحضارة الإسلامية

يتوزع المقال قيد القراءة على محورين؛ الأوّل متعلق بفحص دقيق لبنية الثقافة العلمية في مجالها الإسلامي ومحاولة الإجابة عن إشكال مركزي يستهدف الحفر في مفهوم “العلم” باعتباره ثقافةً مستحدثة عند العرب وما لها من آثار وانعكاسات. الثاني: متعلّق بكون العقل الإسلامي عقلا نسقيا جعلَ من العلوم جهازا متوائما بعضه يشكل جزءا وتتمّة لبعض. وقد حاولت للإجابة عن هذا الإشكال التوسّلَ بنظرية المعرفة بشكل مباشر؛ والتي تهدف إلى إثارة كمّ من الأسئلة عن ماهية المعرفة وهوّيتها من جهة، وعن علاقة العلم بموضوع الإسلام من جهة ثانية.

المحور الأوّل:  “العلم” باعتباره ثقافةً مستحدثة عند العرب وما لها من آثار وانعكاسات.

يبدو أن النظر في حركة التأليف العلمي المبكر في ظل الإسلام يحيل مباشرة إلى عنصرين أساسيين؛ الأوّل: كون العلم ثمرةً مباشرة للمدنية التي عرفها العرب خلال الفترة المبكرة للإسلام؛ حسب التقرير الخلدوني: “ومن تشوّف بفطرته إلى العلم ممّن نشأ في القرى والأمصار غير المتمدّنة فلا يجد فيها التّعليم الّذي هو صناعيّ لفقدان الصّنائع في أهل البدو.”[1]الثاني: كون العلم في التصوّر العربي الإسلامي هو صناعةٌ عمليةٌ تحيل في الغالب إلى ممارسة هادفةٍ يعبّر عنها ما ذكره أبو حيان في مقابساته: “العلم شرح العقل بالتفصيل”؛ وتأسيسا على هذين النقلين فإن للعلم في التصوّر العربي الإسلامي مفهوماً أكثر موائمةً للواقع”، فهو يعني إلى جانب معناه التقليدي معنى عمليا مركزيا وهو الصناعة “Craft” ومن ثمّ فهو مهارة Ability” يتجاذبها طرفان: “اليد” من جهة و”الخيال” من جهة ثانية؛ بعكس التصوّر الفلسفي القديم الذي كان غالبا ما يربط العلم “Logos” بالعقل واللغة معا. وبناءً على هذا يظهر مدى إسهام البنية المفهومية للعلم لدى العرب في نشأة نزعة تجريبية ونموذج علمي يؤسس لممارسة علمية نفعية؛ وقد حاول الأستاذ إدريس نغش الجابري تفصيل هذا التصوّر باعتبار انعكاسه على الموضوعات العلمية الشاغلة للعرب إلى “نمطين؛ الأوّل: عقلانية شرعية فقهية سادت في الفكر العلمي الذي أنتجه الفقهاء أو شاركوا في إنتاجه، أو تعليمه وتعميمه… الثاني: عقلانية فلسفية وهي ذات توجهين؛ إحداهما أرسطي مشائي، والآخر فيثاغوري سحري حروفي. “[2] ويلاحظ من خلال هذا التقسيم الذي قسّم العلوم من حيث نشأتها في المجال العربي الإسلامي حسب انتمائها المعرفي والنموذجي في تنال الموضوعات المنوطة بها إلى كون العلوم عامةً كانت وليدةَ تقليدين علميين مختلفين: الأوّل فلسفي نظري مشائي أو فيثاغوري والثاني ديني واقعي نصوصي سعى إلى جعل الفلسفة وتطبيقاتها المنطقية جزءا من أدوات الإجابة عن الواقع اليومي للفرد والمجتمع المسلم؛  ولمزيد من التوضيح نقدّم الرسم الآتي:

في الحقيقة التقليد الفلسفي الذي عرفه العرب لم يكن تقليدا أحاديا بل كان تقليدا مزدوجا “أرسطيا” وفيثاغوريا؛ ومن ثمّ فقد كان التقليد الديني بوتقة انصهرت فيها جميع المعارف والعلوم الوافدة، ومن ثمّ نشأت معارف جديدة وعلوم تستجيب للحاجة الاجتماعية للمسلمين.[1]

وتجدر الإشارة إلى أن الحصر  هاهنا في العقلانية الأرسطية والفتاغورية ليست إلا نموذجا أغلبيا وإلا فإن النظر إلى العلوم بجملتها نجدُ هناك تأثرا خصوصا فيما يتعلق بعلم الفلك في الحضارة الإسلامية، كما هو الشأن بالنسبة للهند؛ وهنا نشير إلى ما أورده القفطي من كون أنه “قدم على الخليفة المنصور في سنة ست وخمسين ومائة رجل من الهند قيّم بالحساب معروف بالسند هند في حركات النجوم (…) فأمر المنصور بترجمة ذلك الكتاب إلى العربية وأن يؤلف منه كتاب تتخذه العرب أصلا في حركات الكواكب فتولى ذلك محمد ابراهيم الفزاري وعمل منه كتابا يسميه المنجمون السند الهند الكبير”[2] المهم في هذا النقل على طوله هو أن العقلانية المؤسسة للعلم في الثقافة الإسلامية عقلانية مندمجة عند نشأتها ومتراكمة مع بعضها البعض ومنفتحة على مستوى أهدافها؛  ومن ثمّ فإن البنية الثقافية للعلم يمكن نعتها، مستعيرين من علم الإحياء وصف “البلعمة”[3] Phagocytosis وتقوم وظيفتها على ابتلاع الجسيمات الغريبة وهضمها في إطار آلية دفاعية حيوية خاصة.

ولعل الوصف الذي أعطاه رائد تاريخ العلوم الأستاذ رشدي راشد للعلم العربي يوضح بالملموس هذه الأشياء: “عالمي” هي صفة بإمكاننا اليوم استخدامها لوصف العلم العربي. إنه عالمي بمصادره ومنابعه وتطواراته وامتداداته. وعلى الرغم من أن هذه المصادر هي يونانية غالبا، إلا أنها تحوي كتابات سريانية وسنسكريتية وفارسية… تعديدتها كانت أساسية في تكوّن العلم العربي”[4].

المحور الثاني: الإسلام وعقلانيته العلمية النسقية:

إنّ أهمية العلم في ظل الحضارة الإسلامية تتجلى في كونه تمّ توظيفه في خدمة المشاريع الدينية أو الإجابة عن بعض الأسئلة المتعلقة بها؛ فهو باعتباره وظيفته يعتبر آلة معرفية يتمّ من خلالها الخلوص إلى نتائج ذات غايات دينية محضة. وبناء على هذا، فإنه قد أدرج الفقهاء بعض العلوم في شروط الفتوى، كما هو الحال بالنسبة للطب ومعرفة انقطاع الدم وما يترتب على ذلك من أحكام العدّة؛ بل أكثر من ذلك وجدنا انسجاما بين الطب والشرع  من حيث وحدةُ الأهداف يقول العز بن عبد السلام: “إن الطب كالشرع وضع لجلب مصالح السلامة والعافية، ولدرء مفاسد المعاطب والأسقام، ولدرء ما أمكن درؤه من ذلك، ولجلب ما أمكن جلبه من ذلك”[5] وعلى هذا نجدُ العلماء قد خلقوا نوعا من الانسجام بين العلوم الحقة الثابتة بالعقل  والشرعية ثابتة بالنقل.

بل هناك إقرار من علماء الشريعة أنفسهم بقصور باعهم في الإجابة عن شيء ما خارج تخصصهم المعرفي، يؤدي بهم إلى طلب هذه المعارف من مصادرها، ولا يعتدّ بقولهم فيها بل هم مثلا في الطّب عامة بالنسبة إلى الأطباء؛ يقول الطوفي: “«يعتبر في إجماع كل فن قول أهله» كالفقيه في الفقه، والأصولي في الأصول، والنحوي في النحو، والطبيب في الطب «إذ غيرهم» أي: غير أهل ذلك الفن «بالإضافة» إلى ذلك الفن «عامة».”[6]

ونفس الأمر نجدهُ في علمِ الحساب بحيث قد يستعمل لدى الفقهاء دليلا عقليا في تصحيح مجموعةِ من المقدّمات كما هو الأمر في نسبة الشاهد إلى الغائب؛ ومن ذلك قول الشيرازي في التبصرة: “قلنا ولم لا يجوز أن يجعل الشاهد أصلا للغائب والضروري أصلا للعقلي وهل هذا إلا دعوى مجردة، وعلى أنه يلزمه أن لا تصح المقابلة في الحساب فإنه حمل خفي على جلي ورد غامض إلى ظاهر”[7]

ولعلّ هذا البعد في استحضار مجموعة من المعارف الفلسفية جعلت من المعرفة الإسلامية معرفة “عالمية” باصطلاح الأستاذ رشدي راشد؛ وكذلك منفتحة ومتصالحة مع ذاتها متميزا[8]عن المسيحية وتعاملها مع العلم أو الفلسفة على سبيل الخصوص؛ والسبب في ذلك أن العلم في ظل الإسلام كان يتميّز بعنصرين أسهما في جعله نسقيا، وهما؛ الأول: كونه صناعة ذات غايةً نفعي تجلب بها مصلحة أو تدرأ بها مفسدة؛ الثاني:  كان بحثا جدليا أسهم في تشذيبه وتحريره بشكل مستمر.

أخيرا، فإذا كان العلم بمختلف أوصافه وأصنافه يشكل “جهازا” متناسقا من المطالب المعرفية التي دعا إليها الإسلام؛ُ فهو في حدّ ذاته مطلوبٌ لغير ذاته؛ ولذلك فإنّ العلوم في الإسلام– منذ نشأتها – قد أخذت  شكلا متشعّب المداخل والمخارج متكامل البنية، بعضها يأخذ من بعض.

وسنردد سؤالا حيويا عن العلّة التي جعلت العلم في البيئة الإسلامية متدهورا ما دامَ أن الطابع الإسلامي كما أوضحت من قبل متناسقا ومنسجما مع ذاته! فإذا علمنا أن العلم المعاصر ينشطُ في الغرب  فقط بعدما كان ناشطا في الشرق، فما هي الأسباب الكامنة وراء ذلك؟[9]


[1] ـ للمزيد من التفصيل في هذه النقطة، الرجوع لمقالة:

THE CYCLE OF KNOWLEDGE : INTELLECTUAL TRADITIONS AND ENCYCLOPAEDAIS OF THE RATIONAL SCIENCES IN ARABIC ISLAMIC HELLENISM; by Gerhard Endress; in Organizing knowledge: Encyclopeadic Activities in the Pre-Eighteen Century Islamic World; Edited by Gerhard Endress; BRILL 2006. p104-106.

[2] ـ  اخبار العلماء بأخبار الحكماء، أبي الحسن يوسف الفقطي (ت636هـ ) صححه واعتنى به محمد أمين الخانجي، دار الكتب الخديوية بمصر، ط1326؛ ص177.

[3] ـ للمزيد من التفصيل انظر:

Phagocytosis of Bacteria and Bacterial Pathogenicity (Advances in Molecular and Cellular Microbiology);Joel D. ErnstOlle Stendahl; COMBRIDGE UNIVERSITY PRESS 2006.

[4] ـ موسوعة تاريخ العلوم الجزء الأول ، المقدمة العامة، إشراف رشدي راشد، مركز دراسات الوحدة العربية، سلسلة تاريخ العلوم العربية، ط1، 2005؛ ص15.

[5] ـ قواعد الأحكام في مصالح الأنام، عز الدين بن عبد السلام (ت660هـ)، تحقيق طه عبد الرؤوف سعد، مكتبة الكليات الأزهرية – القاهرة، 1991 م؛ ج1، ص6. 

[6] ـ شرح مختصر الروضة، نجم الدين الطوفي ، أبو الربيع، (ت 716هـ)، تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة ط:1/ 1987 م؛ ج3، 36. 

[7] ـ التبصرة في أصول الفقه، أبو اسحاق الشيرازي (ت476هـ)، تحقيق محمد حسن هيتو، دار الفكر – دمشق ط:1/ 1403؛ ص418. 

[8] ـ تشير  كاترينا بيلو في مؤلفها: الجبر والقدر بين ابن سينا وابن رشد، تقول:

« In Islamic theology (kalam), which is to be clearly distinguished from Christian theology because it does not consist in a set of dogmas, rather a dialecticl debate of God’s nature. »

Chance and Determinism in Avicenna and Averroes : texts and Studies, Catrina Belo; Brill NV, 2007; p17-18.

[9] ـ نفس هذا السؤل الحيوي يناقشه طوبي هاف على امتداد اكثر من 400 صفحة.

انظر:

 The Rise of Early Modern Science, Islam, China, and the West. Toby E.Huff; Cambridge university press ; second edition 2003.


[1] ـ المقدمة، ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر، عبد الرحمن بن خلدون (ت 808هـ)، تحقيق خليل شحادة، دار الفكر، بيروت، ط:2، 1988م؛ ص548، ج1. 

[2] ـ العلوم الإسلامية ومدخل الإبستيمولوجيا وتاريخ العلوم، إدريس نغش الجابري، ضمن “الدليل” م1/ع1، 2013.

الأستاذ محمد الريوش

Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق