مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

بلاغة القرآن الكريم من كتاب (فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب) – الحلقة الثالثة – (الحروف المقطعة)

يراد بالحروف المقطعة حروف التهجي التي ابتدئت بها بعض السور مثل: ألم، ألر، طسم، وهي حروف شغلت العلماء والمفسرين، وذهبوا فيها إلى مذهبين:

1- فذهب جماعة إلى «أنها من الأسرار التي لا يعلمها إلا الله تعالى»، ومن المتشابه الذي انفرد الله تعالى بعلمه؛ فهي «حروف من القرآن سترت معانيها عن جميع العالم، اختبارًا من الله عز وجل وامتحانًا، فمن آمن بها أثيب وسعد، ومن كفر وشكّ أثم وبعد»(1).

2- وذهب آخرون إلى أن المراد منها معلوم، وأنه يجب التماس معانيها، واحتجوا على مذهبهم بالآيات والأخبار والمعقول، وأنكروا القول الأول، وقالوا: «لا يجوز أن يرد في كتاب الله تعالى ما لا يكون مفهوما للخلق»(2)، وأنافت أقاويلهم على عشرين قولا(3)، لا نطيل بذكرها.

ورحم الله الإمام القاضي ابن العربي حين قال: «والذي أقوله: إنه لولا أن العرب كانوا يعرفون أن لها مدلولا متداولا بينهم كانوا أول من أنكر ذلك على النبي -صلى الله عليه وسلم- بل تلا عليهم: (حم) فصلت و(ص) وغيرهما فلم ينكروا ذلك، بل صرحوا بالتسليم له في البلاغة والفصاحة مع تشوفهم إلى عثرة وغيرها، وحرصهم على زلة فدلّ على أنه كان أمرا معروفا بينهم لا إنكار فيه»(4).

 وقد وقف الإمام الطيبي – رحمه الله تعالى- على حروف التهجي وقفة العالم بكل علم المتبحر في كل فن، ومدّ عنان القول فيها، متتبعاً لكلام الإمام جار الله الزمخشري – رحمه الله تعالى-؛ مفصلا لمجمله، ومبينا لمشكله، إلى دقة في التّحرير وجودة في التقرير. ومما تعرض له:

وجه وقوع حروف التهجي على هذه الصورة فواتح السور:

لخص الإمام الطيبي كلام جار الله الزمخشري –رحمهما الله تعالى – عن وجه وقوع حروف التهجي على هذه الصورة فواتح السور بقوله: «…وأجاب عن ذلك بوجوهٍ ثلاثة: وهي أنها أسماءٌ للسور، أو هي كقرع العصا، أو أنها تقدمةٌ لدلائل الإعجاز، وضمن هذه الوجوه الثلاثة ما يقتضيها من الفوائد، ومن كونها معربةً أو محكيةً. ومن اختصاص أعدادها وغير ذلك كما سيرد، فعلم من هذا البيان أن الأبحاث السابقة كانت كالمقدمة للاحقة»[2/14].

وبيان هذه الوجوه كما يلي:

* أسماء السور:

ذكر الطيبي – نقلا عن الإمام الرازي – أن أكثر المتكلمين والخليل وسيبويه يرون أن حروف التهجي أسماء السور. [2/14]

وأشار إلى ذلك أيضا الزمخشري، وقال: «فإن قلت: فما معنى تسمية السور بهذه الألفاظ خاصة؟ قلت: كأن المعنى في ذلك الإشعار بأن الفرقان ليس إلا كلما عربية معروفة التركيب من مسميات هذه الألفاظ، كما قال عز من قائل: (قُرْآناً عَرَبِيًّا) [يوسف: 2]»[2/25].

ثم علق الطيبي – رحمه الله تعالى – على قول الزمخشري،  وقال: « فإن قلت: أليس هذا المعنى – أي الإشعار…إلخ- يفيده الوجه الثاني من الوجوه الثلاثة في الفواتح وهو قوله: (أن يكون ورودها على نمط التعديد كالإيقاظ وقرع العصا))؟

قلت: لأن هذا المعنى إنما يفيده هذا الوجه بحسب التناسب بين الاسم والمسمى من غير قصد في التسمية إليه، وهناك يفيده قصدا أوليا، ومن ثم قال: (كأن المعنى) على التشبيه دون الجزم. وفيه إشارة إلى مذهبه على سبيل الإدماج»[2/26].

* لتنبيه المخاطبين وقرع العصا:

وهو الذي عبر عنه الزمخشري – رحمه الله تعالى – بقوله: «أن يكون ورود هذه الأسماء هكذا مسرودة على نمط التعديد، كالإيقاظ، وقرع العصا لمن تحدّى بالقرآن وبغرابة نظمه وكالتحريك للنظر في أن هذا المتلو عليهم وقد عجزوا عنه عن آخرهم كلام منظوم من عين ما ينظمون منه كلامهم؛ ليؤديهم النظر إلى أن يستيقنوا أن لم تتساقط مقدرتهم دونه، ولم تظهر معجزتهم عن أن يأتوا بمثله بعد المراجعات المتطاولة، وهم أمراء الكلام وزعماء الحوار، وهم الحرّاص على التساجل في اقتضاب الخطب، والمتهالكون على الافتنان في القصيد والرجز، ولم يبلغ من الجزالة وحسن النظم المبالغ التي بزت بلاغة كل ناطق، وشقت غبار كل سابق، ولم يتجاوز الحدّ الخارج من قوى الفصحاء، ولم يقع وراء مطامح أعين البصراء إلا لأنه ليس بكلام البشر، وأنه كلام خالق القوى والقدر» [2/29]

* تقدمةٌ لدلائل الإعجاز:

وقد عبر عنها الزمخشري – رحمه الله تعالى – بقوله: «أن ترد السور مصدرة بذلك ليكون أوّل ما يقرع الأسماع مستقلا بوجه من الإعراب، وتقدمة من دلائل الإعجاز، وذلك أنّ النطق بالحروف أنفسها كانت العرب فيه مستوية الأقدام: الأميون منهم وأهل الكتاب، بخلاف النطق بأسامى الحروف، فإنه كان مختصّا بمن خط وقرأ وخالط أهل الكتاب وتعلم منهم، وكان مستغرباً مستبعداً من الأمى التكلم بها استبعاد الخط والتلاوة، كما قال عز وجل: (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) [العنكبوت: 48].

فكان حكم النطق بذلك مع اشتهار أنه لم يكن ممن اقتبس شيئا من أهله – حكم الأقاصيص المذكورة في القرآن، التي لم تكن قريش ومن دان بدينها في شيء من الإحاطة بها في أن ذلك حاصل له من جهة الوحى، وشاهد بصحة نبوته، وبمنزلة أن يتكلم بالرطانة من غير أن يسمعها من أحد»[2/35].

وهذا الوجه مشابه للوجه السابق حتى عدهما القاضي البيضاوي وغيره وجها واحدا، لكن فرق بينهما الزمخشري، ونبه إلى الفرق الإمام الطيبي بقوله: «والفرق بين هذا الوجه والسابق ذكره: أن دلالة هذا على الإعجاز والغرابة من نفسه؛ لصدورها عمن لم يجر منه لتعليم، ودلالة ذاك عليه باعتبار التنبيه على غرابة نظم القرآن؛ فلو تحدى به كاتب وقارئ لجاز، بخلاف الثاني. فالوجهان يدوران مع تفسير قوله تعالى: (فَاتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ) [البقرة: 23] في أن الضمير في “مثله” إما لرسول الله، أو للقرآن..»[2/35].

وقد قرَّر الإمام الطيبي – رحمه الله تعالى- معنى التحدي في هذين الوجهين الأخيرين، وما فيه من التبكيت للعرب وإلزام الحجة عليهم، وقال: «والذي ذكره: ما في الوجهين الأخيرين من معنى التحدي.

– تقريره على الوجه الأول: أن هذا القرآن الذي عجزتم عنه منظوم من جنس ما تنظمون منه كلامهم، وأنتم تعرفون أنه كذلك، فإذا عجزتم عن الإتيان بمثله؛ فأذعنوا للحق.

– وعلى الوجه الثاني: أن محمدا – صلوات الله عليه – اشتهر عندكم أنه ممن لم يمارس الخط والكتابة، ولم يقتبس العلم من أحد؛ فقد أتى بهذا البحر الزاخر، فاتركوا العناد.[2/39]

وقد تفرفت هذه الحروف المقطعة في السور، ولم يُفْرد ذكرها في موضع واحد أو في أول القرآن، للطيفة أشار إليها الزمخشري –رحمه الله تعالى – بقوله: «قلتُ: لأنّ إعادة التنبيه على أنّ المتحدّى به مؤلف منها لا غير، وتجديده في غير موضع واحد أوصل إلى الغرض وأقرّ له في الأسماع والقلوب من أن يفرد ذكره مرة، وكذلك مذهب كل تكرير جاء في القرآن فمطلوب به تمكين المكرر في النفوس وتقريره»[2/40].

ثم وردت هذه الحروف أيضاً على طرائق متنوعة: على حرف مثل (ص) و(ق) و(ن)، وعلى حرفين مثل (طه) و(طس) و(يس) و(حم)، وعلى ثلاثة أحرف مثل (الم) و(الر) و(طسم)، وعلى أربعة أحرف مثل: (المص) و(المر)، وعلى خمسة أحرف، مثل (كهيعص) و(حم عسق) ؟ وذلك «على عادة افتنانهم في أساليب الكلام، وتصرفهم فيه على طرق شتى ومذاهب متنوّعة» كما قال الزمخشري.[2/41]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1) انظر: تفسير القرطبي (1/155)

(2) انظر: مفاتيح الغيب (2/250)

(3) انظر: البرهان في علوم القرآن (1/173)

(4) انظر: مفاتيح الغيب (2/252)، والإتقان في علوم القرآن (3/30)

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق