مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

بعض جهود العلامة القاضي عياض (544هـ) في خدمة الحديث رواية من خلال كتابه : “بغية الرائد في شرح حديث أم زرع”

    بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين:

تقديم:

       إن الاشتغال بعلم الحديث النبوي الشريف من أجل الطاعات، وأعظم القربات، كيف لا؟ وهو من أفضل العلوم بعد كتاب الله تعالى، ويكفي أهل العلم بهذا الفن، والمشتغل به، شرفا ومنزلة، دخولهم في قول الحبيب صلى الله عليه وسلم: “نضر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه، فرب مبلغ  أحفظ له من سامع  “([1])، وهو دعاء منه صلى الله عليه وسلم بالنضارة؛ وهي في الأصل: حسن الوجه والبريق، وإنما أراد حسن خلقه وقدره ([2]).

ولأهمية هذا العلم الشريف فقد كان لعلماء الأمة الإسلامية -مشرقا ومغربا- عناية خاصة به، وكان من بين هؤلاء الأعلام العلامة الحافظ، من أركان علم الحديث بالمغرب الأقصى، بل وفي العالم الإسلامي ؛ القاضي عياض اليحصبي (544هـ) ([3]) ، ولا أدل على ذلك مؤلفاته الحديثية التي تركها في هذا الفن الجليل، والذي خدم به علم الرواية الحديثية؛ مثل: كتابه الموسوم بـ: “مشارق الأنوار على صحاح الآثار”، وكتابه: “إكمال المعلم في شرح صحيح مسلم”، وكتابه: “بغية الرائد في شرح حديث أم زرع، وفهرسته: “الغنية”.

وسأقتصر في هذا المقال على كتابه “البغية ، الذي أبان فيه كسائر مؤلفاته الحديثية، عن براعته الحديثية، والأدبية، والبلاغية، وقبل ذلك لابد من الإشارة اللطيفة إلى التعريف الموجز بعلم الرواية وماهيته عند العلماء، وهذا أوان الشروع فيما قصدت وعلى ربي توكلت :

أولا: معنى علم الحديث رواية وماهيته:

لقد اصطلح المتأخرون بعد عصر الحافظ ابن الصلاح (643هـ) على تقسيم علم الحديث إلى قسمين([4])  وهما: علم الحديث رواية، وعلم الحديث دراية.

وفي تعريف علم الحديث رواية،  وردت عند العلماء عدة تعاريف، ومن أشهرها: تعريف ابن الأكفانى حيث قال: “هو علم ينقل أقوال النبي صلى الله عليه وسلم، وأفعاله بالسماع المتصل، وضبطها، وتحريرها” ([5])

قال نور الدين عتر: “لكن اعترض على التعريف بأنه غير جامع؛ أي: أنه لا يشمل كل المعرف، لأنه لم يذكر تقريراته وصفاته، كما أنه لم يراع مذهب القائلين بأن الحديث يشمل ما أضيف للصحابي أو التابعي” ([6]) ثم قال: “فالمختار أن نقول في تعريف علم الحديث رواية: “هو علم يشتمل على أقوال النبي صلى الله عليه وسلم، وأفعاله، وتقريراته، وصفاته، وروايتها، وضبطها، وتحرير ألفاظها”، ونزيد في التعريف: أو الصحابي، أو التابعي: إن أريد مراعاة المذهب المشار إليه الذي عليه الأكثر([7]).

أو كما قال العلامة الصنعاني: “علم يشتمل على نقل ما أضيف إلى النبي– صلى الله عليه وسلم –، قيل: أو إلى صحابي فمن دونه: قولاً، أو فعلاً، أو هماً، أو تقريراً، أو صفة”([8])

وأما موضوع هذا العلم؛ فهو ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو الصحابي أو التابعي، فإنه يبحث في هذا العلم عن روايتها وضبطها ودراسة أسانيدها ومعرفة حال كل حديث أنه صحيح أو حسن أو ضعيف، كما أنهم يبحثون في هذا العلم عن معنى الحديث وما يستنبط منه من الفوائد([9]).

ثانيا: بعض جهود العلامة القاضي عياض في خدمة الحديث رواية من خلال كتابه : “بغية الرائد في شرح حديث أم زرع” ([10])

إن المطلع على كتاب بغية الرائد في شرح حديث أم زرع  للقاضي عياض يجده كتابا حافلا ؛ فهو من أجمع الشروح وأوسعها، أبان فيه رحمه الله عن براعته الحديثية، والأدبية، والبلاغية، حيث تناول فيه “حديث أم زرع” الشهير بالشرح والتفسير، فبدأ بذكر سياق متن الحديث، مع بيان اختلاف الرواة في ألفاظه، وزيادة بعضهم على بعض في سرد هذا الحديث، ثم شرع بعد ذلك في تفسير الأسانيد، وبيان الاختلافات فيها، وكلام نقاد الحديث عليها، مع بيان وجه الترجيح فيها قائلا: “الحديث صحيح لا خلاف في صحته، وقد أخرجه الأئمة في الصحاح”، مبينا علته؛ وهي:  أن بعض رواة الحديث جعلوه كله من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضهم الآخر جعلوا المرفوع من الحديث هو:  قوله صلى الله عليه وسلم “كنت لك كأبي زرع لأم زرع”([11])، وما عداه من قول عائشة رضي الله عنه” مصححا رواية الفريق الثاني، وتبع في ذلك ما ذهب إليه الخطيب البغدادي، والدار قطني([12]) وبعد بيانه للناحية اللغوية للحديث، بين بعض الفوائد الفقهية المستفادة منه؛ ومنها قوله: وفيه من الفقه جواز  الحديث عن الأمم الخالية والأجيال البائدة، والقرون الماضية، وضرب الأمثال بهم، لأن في سيرهم اعتبارا للمعتبر، واستبصارا للمستبصر ، واستخراج الفائدة للباحث المستكثر، فإن في هذا الحديث لاسيما إذا حدث به النساء ، منفعة في الحض على الوفاء  للبعولة، والندب لقصر الطرف والقلب عليهم، والشكر لجميل فعلهم وحسن المعاشرة معهم … ([13])

وبعد أن فرغ من إيراد بعض ما يستفاد من الحديث أفاض في شرحه وتفسير غريبه، فقرة فقرة .  

   وخلاصة القول يعد كتاب “بغية الرائد” من أجمع الشروح المغربية لحديث أم زرع الذي خدم به علم الرواية الحديثية، أبان فيه عن براعته الحديثية كسائر مؤلفاته.

رحم الله العلامة المحدث القاضي عياض  اليحصبي برحمته الواسعة وأسكنه فسيح جناته  إنه سميع مجيب الدعاء وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

***************

هوامش المقال:

([1])  أخرجه الإمام أحمد في مسنده (7 /221)، برقم: (4157) بهذا اللفظ من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

([2])  النهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 71) مادة: “نضر”.

([3]) هو: العلامة، الحافظ، الفقيه، المحدث عياض بن موسى بن عياض اليحصبي، السبتي، المالكي، عالم المغرب، وإمام أهل الحديث، ولد سنة ست وسبعين وأربعمائة من الهجرة بسبتة،  وتوفي سنة أربع وأربعين وخمسمائة من الهجرة . وترجمته واسعة وقد آثرت اختصارها في هامش المقال لكثرة مترجميه وشهرته؛ ومن المصادر التي رجعنا إليها في ترجمته أذكر: التعريف بالقاضي عياض لولده محمد، وأزهار الرياض في أخبار القاضي عياض للمقري، وتعرض لشيء منها : ابن الأبار في أصحاب أبي علي الغساني (ص: 306-310)، وابن خلكان في وفيات الأعيان (3 /483-485)، والذهبي في تذكرة الحفاظ (4/ 1304)، والعبر (2 /467)، وأحمد بن القاضي المكناسي في جذوة الاقتباس( 2/ 498-499).

([4])  ينظر في هذا بحث ل: د الحسين بن محمد شواط المعنون ب:  علم الحديث رواية وعلم الحديث دراية (سيرة المصطلح وحده ومفهومه) ص: 2 منشور في موقع الألوكة.

([5])  إرشاد القاصد (ص: 155).

([6])  منهج النقد في علوم الحديث (ص: 30).

([7])  منهج النقد في علوم الحديث (ص: 31).

([8])  توضيح الأفكار (ص: 151).

([9])  انظر منهج النقد في علوم الحديث (ص: 31).

([10])  وقد استفدت من كتاب:  القاضي عياض وجهوده في علمي الحديث رواية ودراية. للبشير علي حمد الترابي

([11])  الحديث أخرجه البخاري في صحيحه (3 /383-385) كتاب: النكاح، باب:  حسن المعاشرة مع الأهل برقم: (5189)،  ومسلم في صحيحه (2/1143 فما بعدها) كتاب: فضائل الصحابة، باب: ذكر حديث أم زرع برقم: (2448).

([12])  انظر  بغية الرائد (ص: 20-21).

([13])  بغية الرائد (ص: 36).

*****************

لائحة المصادر والمراجع المعتمدة:

علم الحديث رواية وعلم الحديث دراية (سيرة المصطلح وحده ومفهومه) للحسين بن محمد شواط منشور في موقع الألوكة.

 إرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد في أنواع العلوم. لمحمد بن إبراهيم بن ساعد الأنصاري المعروف بابن الأكفاني. تحقيق وتعليق: عبد المنعم محمد عمر- مراجعة: أحمد حلمي عبد الرحمن. دار الفكر  القاهرة. ‘(د.ت).

أزهار الرياض في أخبار عياض، شهاب الدين أحمد بن محمد المقري التلمساني، تحقيق: جماعة من الباحثين، من منشورات صندوق إحياء التراث الإسلامي المشترك بين المملكة المغربية ودولة الإمارات المتحدة. ط 1398هـ 1978م.

بغية الرائد لما تضمنه حديث أم زرع من الفوائد. للقاضي عياض. تحقيق: صلاح الدين بن أحمد الإدلبي- محمد الحسن أجانف- محمد عبد السلام الشرقاوي طبعة وزارة الأوقاف المغرب. 1395-1975.

تذكرة الحفاظ، لمحمد بن أحمد بن عثمان الذهبي. صحح عن النسخة القديمة المحفوظة في مكتبة الحرم المكي تحت إعانة وزارة المعارف للحكومة العالية الهندية.، دار الكتب العلمية بيروت-لبنان،

التعريف بالقاضي عياض لولده أبي عبد الله محمد. تقديم وتحقيق د: محمد بن شريفة ، طبع بأمر صاحب الجلالة أمير المؤمنين الحسن الثاني رحمه الله وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية.

الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه. لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، قام بشرحه وتصحيحه وتحقيقه: محب الدين الخطيب، رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، وقام بإخراجه وأشرف على طبعه: قصي محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية القاهرة، ط1/1400هـ.

جذوة الاقتباس في ذكر من حل من الأعلام مدينة فاس، أحمد بن القاضي المكناسي، ط 1973- 1974دار المنصور للطباعة والوراقة الرباط.

شذرات الذهب في أخبار من ذهب ، لعبد الحي بن العماد الحنبلي ، تحقيق وتعليق : عبد القادر الأرناؤوط ،محمود الأرناؤوط ،  ط 1 / 1406 هـ – 1986 مـ  دار ابن كثير دمشق .

 العبر في خبر من غبر . للذهبي ، تحقيق أبو هاجر محمد السعيد بن بسيوني زغلول . ط 1 / 1405 هـ – 1985 مـ . دار الكتب العلمية بيروت .

القاضي عياض وجهوده في علمي الحديث رواية ودراية. للبشير علي حمد الترابي. دار ابن حزم بيروت. ط1/ 1418هـ- 1997م

مسند أحمد. لأحمد ابن حنبل. تحقيق: مجموعة من الباحثين. مؤسسة الرسالة بيروت. ط1/ 1417هـ- 1997م.

المعجم في أصحاب القاضي الإمام أبي علي الصدفي، محمد بن عبد الله بن أبي بكر القضاعي المعروف بـ: ابن الأبار ، ط 2008، الهيئة المصرية العامة القاهرة.

منهج النقد في علوم الحديث. لنور الدين عتر.. دار الفكر دمشق. ط2/ 1399هـ- 1979م.

النهاية في غريب الحديث والأثر. لمجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمد ابن الأثير الجزري. تحقيق: محمود محمد الطناحي- طاهر أحمد الزاوي. دار إحياء التراث العربي بيروت لبنان. (د.ت) .

وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، لابن خلكان؛ حققه: د إحسان عباس، دار صادر بيروت (د.ت).

صحيح مسلم. وفي طليعته: غاية الابتهاج لمقتفي أسانيد كتاب مسلم بن الحجاج للزبيدي.دار طيبة. الرياض. ط1/ 1427-2006.

*راجع المقال الباحث: يوسف أزهار

Science

دة. خديجة أبوري

  • أستاذة باحثة مؤهلة بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق