مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

بعض العوائد المحدثة في شهر رجب

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم

     يعد شهر رجب من الشهور الفاضلة، وهو أحد الأشهر  الأربعة الحرم التي يحرم فيها القتال، وهذا أمر جرت به العادة قبل الإسلام، قال الله تعالى: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم) ([1])، وجاءت السنة بتعينها فقال صلى الله عليه وسلم: ” الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها: أربعة حرم، ثلاثة متواليات، ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان”([2]).

وقد كان أهل الجاهلية يسمون شهر رجب بـ:  منصل الأسنّة كما في حديث أبي رجاء العطاردي رضي الله عنه قال: “كنا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجرا هو أخيرُ منه ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجرا جمعنا جُثْوَة([3])من تراب، ثم جئنا بالشاة فحلبناه عليه، ثم طفنا به، فإذا دخل شهر رجب قلنا: مُنصّل الأسنة، فلا ندع رمحا فيه حديدة، ولا سهما فيه حديدة إلا نزعناه وألقيناه شهر رجب”. ([4])

إن للأشهر الحرم مكانة عظيمة ومنزلة رفيعة، ومنها شهر رجب؛ لأنه أحد هذه الأشهر الحرم ، قال تعالى:  (يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام). ([5])  وقال كذلك: (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) ([6]) .

ولمكانتها لم تسلم من بعض العوائد المحدثة التي انتشر العمل بها عند بعض المسلمين، والتي لم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن صحابته الكرام رضي الله عنهم، ولأهمية هذا الموضوع فقد ارتأيت أن أخصه بمقال أتحدث فيه عن بعض  العوائد المحدثة في شهر رجب ،مكتفية بذكر ثلاثة منها، ليكون المسلم على بينة من أمرها ليجتنبها. وهذا أوان الشروع في الموضوع فأقول وبالله التوفيق: 

العادة المحدثة الأولى: صلاة الرغائب:

من الأمور المحدثة في شهر رجب وليس لها أصل في السنة؛ “صلاة الرغائب” في أول ليلة جمعة من هذا الشهر ؛ قال أبو بكر الطرطوشي (ت520هـ): “وأما صلاة رجب فلم تحدث عندنا في بيت المقدس إلا بعد سنة ثمانين وأربعمائة، وما كنا رأيناها ولا سمعنا بها قبل ذلك”([7]).

وقال النووي (ت 676هـ): “الصلاة المعروفة بصلاة الرغائب، وهي ثنتا عشرة ركعة، تصلى بين المغرب والعشاء، ليلة أول جمعة في رجب، وصلاة ليلة نصف شعبان مائة ركعة، وهاتان الصلاتان بدعتان ومنكران قبيحتان، ..، ولا يغتر ببعض من اشتبه عليه حكمهما من الأئمة، فصنف ورقات في استحبابهما فإنه غالط في ذلك، وقد صنف الشيخ الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي كتابا نفيسا([8]) في إبطالهما فأحسن فيه وأجاد رحمه الله ” .([9])

وقال ابن تيمية (ت 728هـ): ( وأما صلاة الرغائبِ فلا أصل لها، بل هي محدثة، فلا تستحب لا جماعة ولا فرادى،فقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تخص ليلة الجمعة بقيام، أو يوم الجمعة بصيام([10]). والأثر الذي ذكر فيها كذب موضوع باتفاق العلماء  “. ([11])

وقال ابن القيم (ت 751هـ): “أحاديث صلاة الرغائب ليلة أول جمعة من رجب، كلها كذب مختلق على رسول الله صلى الله عليه وسلم”([12])

وقال ابن رجب (ت 795هـ): “فأما الصلاة  فلم يصح في شهر رجب صلاة مخصوصة تختص به، والأحاديث المروية في فضل صلاة الرغائب في أول ليلة جمعة من شهر رجب كذب وباطل لا تصح”([13])

العادة المحدثة الثانية: تخصيص الشهر، أو تخصيص بعض أيامه بصيام.

يعد شهر رجب من الأشهر الحرم الأربعة التي يسن فيه الإكثار من الصيام دون تخصيص هذا الشهر مفردا بصيام والاعتقاد بأفضليته عن بقية الأشهر الحرم،  أو تحديد بعض أيامه بصيام مما لم يرد فيه حديث صحيح.

قال ابن تيمية (ت 728هـ): “ّوأما صوم رجب بخصوصه، فأحاديثه كلها ضعيفة، بل موضوعة، لا يعتمد أهل العلم على شيء منها، وليست من الضعيف الذي يروى في الفضائل، بل عامتها من الموضوعات المكذوبات”([14]).

وقال ابن القيم (ت 751هـ): “كل حديث في ذكر صوم رجب، وصلاة بعض الليالي فيه، فهو كذب مفترى”([15]).

وقال ابن رجب (ت 795هـ): “وأما الصيام فلم يصح في فضل صوم رجب بخصوصه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه”([16]).

العادة المحدثة الثالثة: تخصيص أول رجب بزيارة القبور

من الأمور المحدثة كذلك تخصيص أول شهر رجب  بزيارة القبور، وقد نص العلماء على عدم ثبوت  ذلك؛ قال محمود خطاب السبكي (1352هـ): ” لم يأت في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أول جمعة من رجب، أو أي موسم جعل لزيارة القبور، ولم يثبت أن أحدا من الصحابة أو أئمة السلف كان يخرج هو ونساؤه في هذه المواسم لزيارة الموتى “([17]).

الخاتمة:

     ومما تقدم يمكن القول بأن شهر رجب من الأشهر الحرم  التي ينبعي للمسلم أن يحرص فيه على الأعمال الفاضلة سيرا على خطى الحبيب صلى الله عليه وسلم، دون اللجوء إلى العادات المحدثة، وقد اقتصرت في هذا المقال على ثلاثة منها باختصار، ولم أرم ذكر جميع العوائد المحدثة وتعدادها، وإنما غرضي التذكير ببعضها ليكون المسلم على بينة من أمرها  ليجتنبها.

*****************

هوامش المقال:

([1])  سورة التوبة من الآية: (36).

([2])  صحيح البخاري (2 /419)، كتاب: بدء الخلق، باب: ما جاء في سبع أرضين، برقم: (3197)، وصحيح مسلم (2 /799)، كتاب: القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب: تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال برقم:  (1679).

([3])  جثوة: قطعة من تراب. انظر: النهاية في غريب الحديث (1/ 232) مادة: “جثا”.

([4])  صحيح البخاري (3/ 169)، كتاب: المغازي، باب: وفد بني حنيفة، وحديث ثمامة بن أثال، برقم: (4376)

([5])  سورة المائدة من الآية: (2).

([6])  سورة التوبة من الآية: (36).

([7])  الحوادث والبدع (ص: 267).

([8]) وكتابه هو: الإنصاف لما وقع في صلاة الرغائب من اختلاف وقد أودعه بتمامه في كتابه الباعث على إنكار البدع والحوادث وهو كتاب مطبوع عن دار الراية السعودية عام 1410هـ- 1990مـ.

([9]) المجموع شرح المهذب (5 /65).

([10])  ولفظه كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم” صحيح مسلم (1 /507-508) برقم: (148)(1144).

([11])  مجموع الفتاوى لابن تيمية (14 /65).

([12])  المنار المنيف (ص: 65).

([13])  لطائف المعارف (ص: 228).

([14])  مجموع الفتاوى لابن تيمية (15 /132).

([15])  المنار المنيف (ص: 66).

([16])  لطائف المعارف (ص: 228).

([17])  لطائف المعارف (ص: 228).

**********************

لائحة المصادر والمراجع المعتمدة:

 الجامع الصحيح. أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، قام بشرحه وتصحيحه وتنقيحه: محب الدين الخطيب، ورقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، وراجعه وقام بإخراجه وأشرف على طبعه: قصي محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية القاهرة. ط 1/ 1400هـ..

الحوادث والبدع. لأبي بكر الطرطوشي. حققه على أربع نسخ، وقدم له، ووضع فهارسه: عبد المجيد زكي. دار الغرب الإسلامي . ط1/ 1410هـ – 1990مـ.

الدين الخالص أو إرشاد الخلق إلى دين الحق. لمحمود محمد خطاب السبكي. عني بتنقيحه، وتصحيحه، وتنسيقه، والتعليق عليه: أمين محمود خطاب. دار الكتب العلمية بيروت لبنان 2007مـ.

صحيح مسلم. وفي طليعته: غاية الابتهاج لمقتفي أسانيد كتاب مسلم بن الحجاج لمحمد بن محمد مرتضى الزبيدي.دار طيبة. الرياض. ط1/ 1427هـ-2006مـ..

لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف. لأبي الفرج عبد الرحمن أحمد ابن رجب الحنبلي. حققه: ياسين محمد السواس. دار ابن كثير . دمشق بيروت. ط5/1420هـ- 1999مـ.

مجموع الفتاوى. لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد ابن تيمية الحراني. تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا دار الكتب العلمية بيروت. 2011مـ.

المجموع شرح المهذب للشيرازي. لمحيي الدين أبي زكريا يحيى بن شرف النووي. تحقيق: مجموعة من الباحثين. دار الكتب العلمية بيروت 2011مـ..

المنار المنيف في الصحيح والضعيف. لمحمد بن أبي بكر ابن القيم الجوزية. تحقيق: عبد الرحمن بن يحيى المعلمي. أعده وأخرجه: منصور عبد العزيز السماري.  دار العاصمة الرياض. 1416هـ..

النهاية في غريب الحديث والأثر. لمجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمد ابن الأثير الجزري. خرج أحاديثه وعلق عليه: أبو عبد الرحمن صلاح بن محمد بن عويضة. دار الكتب العلمية بيروت. 2010مـ.

*راجع المقال الباحث: محمد إليولو

Science

دة. خديجة أبوري

  • أستاذة باحثة مؤهلة بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق