مركز الدراسات القرآنيةقراءة في كتاب

بديع القرآن ـ دراسة تاريخية نقدية ـ

 

   إعداد: ذ. محمد لحمادي

باحث بمركز الدراسات القرآنية


إن المتأمل في الدراسات والبحوث المنجزة حول التراث الفكري العام للأمة الإسلامية يرى أن تلك الجهود تسير في خطين متكاملين، خط تحقيق التراث ودراسته، وخط تقويم ذلك التراث، لكن الملاحظ الحصيف، يرى أن بعض الحقول الدراسية التراثية عرفت نموا متزايدا على حساب بعض الحقول المعرفية الأخرى…

وعلم بديع القرآن من العلوم التي لم تتجاوز مرحلة التحقيق والاستيعاب إلى مستوى الدراسة والتقويم، ولذا فإن جل الدراسات البديعية للقرآن الكريم ظلت مرتبطة بدراسات الأقدمين؛ تبويبا وتمثيلا، ومنهجا واصطلاحا.

ولهذا يأتي إصدار كتاب «بديع القرآن: دراسة تاريخية نقدية» لمؤلفه المفكر المغربي الدكتور محمد إقبال عروي، عن إدارة الثقافة الإسلامية، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الكويت، ط.1، 1430هـ/2009م، في مجلدين، ـ وهو في أصله أطروحة دكتوراة الدولة ـ، ليساهم في تجلية موضوع بديع القرآن، من خلال دراسته وتقويمه، بتجاوز مرحلة التبويب والتمثيل.. إلى مرحلة الإحكام المنهجي والمعرفي لبديع القرآن.

وقد اختار البحث أن يلج عوالم بديع القرآن في مستويين، مستوى تأريخي، ومستوى نقدي، فاستوى الكتاب في مدخل وثلاثة أقسام، وخاتمة عرضت لأهم الخلاصات والاستنتاجات.

تحدث المؤلف في مدخل الكتاب عن الأطروحة المحددة للموضوع، وأسباب الاشتغال بالموضوع ودوافعه، ومنهج البحث فيه، ثم الإطار العام لموضوعات الكتاب.

القسم الأول: “في المهاد النظري”

في الفصل الأول منه، حدد المؤلف مكونات العنوان، ووقف على الدلالة المستقرة لمفهوم «بديع القرآن» و«الدراسة التاريخية» و«الدراسة النقدية»، ثم عرض في الفصل الثاني لجهود الدارسين المعاصرين لبديع القرآن، في مبحثين: المبحث الأول اختص بالدراسة العامة للبديع في القرآن، والمبحث الثاني: للدراسة الخاصة.

القسم الثاني: “بديع القرآن: دراسة تاريخية نقدية”

اختص القسم الثاني بدراسة البديع دراسة تاريخية نقدية ـ في بعض كتب التفسير والبلاغة والإعجاز ـ من خلال نشأته وأصوله ومستويات تطوره ومنهجياته وكان هدف د. محمد إقبال عروي من وراء ذلك، سواء في فصله الأول أو الثاني، الوقوف على أهم الفنون البديعية التي اهتدى إليها البلاغيون في خطاب القرآن الكريم، ووضعوا لها ألقابها ومفاهيمها، وإبراز خصائص المنهجية التي اختطوها في مجال تحليل الظواهر والفنون.

وخلص هذا الفصل، إلى أن الظاهرة البديعية عرفت بدايتها الذوقية الأولى مع عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، وهي المرحلة التي لا يلتفت إليها، عادة، عندما يؤرخ لنشأة البديع، مما رجح إيلاءها عناية خاصة استغرقت فقرات الفصل المذكور.

في حين توسع الفصل الثاني؛ في عرض عطاء بعض المفسرين أمثال أبي عبيدة وابن قتيبة والزمخشري، باعتبارهم أقطاب رواد التفسير، المدمج للبلاغة في النطر إلى أساليب القرآن،  تحت عنوان: «الاتجاه الإدماجي الوظيفي» مذيلا هذا المبحث بـ «الإسهام المتفرد للزمخشري في مجال بديع القرآن» من خلال الإشارة إلى مجموعة من الفنون البديعية في القرآن؛ الفواصل، والمناسبة،والتخلص، والاعتراض، والتضمين …

وفي المبحث الثاني: عرض للاتجاه الإعجازي في دراسة بديع القرآن، وقد مثل هذ الاتجاه أعلام في الإعجاز أمثال الخطابي والرماني والباقلاني، والجرجاني، الذين أسهموا في هذا الاتجاه إسهاما ملحوظا، وفي المبحث الثالث: خصصه للاتجاه التصنيفي في بديع القرآن، ، وقد مثل له  بابن أبي الإصبع وابن النقيب.

أما المبحث الثالث فخصصه للاتجاه التصنيفي الإحصائي «صناعة القواعد البديعية» وهو اتجاه تأثر بالبيئة التي نشأ وترعرع فيها ، وقد مثل له بابن أبي الإصبع وابن النقيب، في مستويين؛ مستوى وصفي في دراسة الاتجاه التصنيفي الإحصائي، ومستوى نقدي في دراسة الاتجاه التصنيفي الإحصائي.

وقد خلص هذا الفصل، مع كل اتجاه إلى وضع اليد على ما يتفرد به على المستوى المنهج والرؤية والمصطلح وطريقة التحليل، مبرزا لجوانب القوة والضعف بحسب ما يتيحه النظر، ويوفره التدقيق، متوسلا في سبيل الخروج من الأزمة، إلى نظرة الاتجاه الإدماجي الوظيفي.

القسم الثالث: “بديع القرآن: دراسة نقدية”

يمثل القسم الثالث من الدراسة الدعامة القوية في بناء الكتاب، لأنه اهتم بالدراسة النقدية لبديع القرآن، فرصدت الدراسة طائفة من الأزمات في هذا الحقل العلمي المترامي، ومن تم تصنيفها إلى أزمات آيلة إلى المنهج، وأخرى مرتدة إلى القضايا والفروع، وثالثة تختص بتداخل الحقول المعرفية.

ففي الفصل الأول: تحدث عن الأزمة الآيلة إلى الفروع والقضايا، فاشتغل المبحث الأول على مجموعة من المصطلحات الضعيفة والمفاهيم المتعسف في صياغتها وتركيبها، تمثلت في المفردات ذات الاصطلاحية الضعيفة؛ كـ«العنوان» و«المذهب الكلامي» و«إلجام الخصم بالحجة» و«تجاهل العارف» و«التمزيج» و«الاقتدار» و«الغزل» و«التشبيب» … بالإضافة إلى التعسف في المفهوم: كـ«الطاعة والعصيان» و«الهزل الذي يراد به الجد» و«المزلزل» و«الاطراد» و«لزوم ما لا يلزم» و«وما يقرأ من الجهتين» و«النزاهة» …

وفي المبحث الثاني كشفت الدراسة عن طغيان النظرة الصبغية للبديع، وهي نزعة تفصل الفنون البديعية عن المعنى، وتجفف ينابيع العلاقة الدلالية التي تقتضي إيرادها داخل سياق دون آخر، وفي المقابل، انتصر المبحث، للنظرة التعالقية التي تعتبر الخطاب وحدة جوهرية قائمة بامتزاج اللفظ والمعنى، وانصهارهما داخل سياق كلامي وأسلوبي واحد لا يغني أحدهما عن الآخر.

وخلص الفصل إلى إبراز مستويين مختلفين لها، يتمثل المستوى الأول في تعدد المصطلحات للمفهوم الواحد، ويختص الثاني ببسط القول في تعدد المفاهيم للمصطلح الواحد.

وفي الفصل الثاني: تحدث عن الأزمة الآيلة إلى المنهج، فأفرد المبحث الأول لاضطراب العلاقة بين المصطلح والمفهوم في بديع القرآن، وعرض في هذا الصدد لمجموعة من المصلحات التي صار لها أكثر من مصطلح، مثل “تجاهل العارف” و”الجناس” و”الطباق” و”تأكيد بما يشبه الذم” و”الفاصلة” … كما عرض لمجموعة من المصطلحات التي ألحق بها البلاغيون أكثر من مفهوم، مثل: “المطابق” و”التضمين” و”الاستطراد” و”جمع المؤتلفة والمختلفة”، وخلص هذا المبحث برصد عوامل اضطراب العلاقة بين المصطلح والمفهوم، متمثلة في العناصر الآتية:

ندرة التواصل العلمي السريع الهادف إلى توحيد المصطلحات والمفاهيم، وكثرة المشتغلين بعلم البديع، ومرونة الفنون البديعية واعتمادها على الذوق استخراجا وملاحظة وتحليلا… بالإضافة إل تداخل العديد من الفنون والمباحث البديعية، وغموض الحدود الفاصلة بين أساليبها، وحرص أغلب البلاغيين على التفرد بالتلقيب ونقد صنيع غيره…

ووقف البحث عند ظاهرة التكلف الاستنباطي في استخراج أكثر من فن بديعي من الآية الواحدة، قد تصل إلى أكثر من عشرين فنا، ودعا في هذا الصدد إلى إحكام أصول الفنون، ثم إلحاق الشواهد القريبة بها.

وخصص المؤلف المبحث الثاني للحديث عن الخلط الحاصل بين المصطلح البديعي وغاياته ووظائفه، فنجد كثيرا من البلاغيين يسمون الفن البديعي في القرآن الكريم باسم الغاية المتوخاة منه، أو باسم وظائفه وأهدافه المرصودة له، وهي أزمة يمكن تجنبها بتسمية الفن باسم غايته، واختيار المصطلح الذي يحيل على الطبيعة الفنية في الأسلوب البديعي، ومن المصطلحات التي وقفت عليها الدراسة: “خذلان المخاطب” و”الشماتة” و”التهكم” و”التندير” و”حسن البيان” و”التنكيت”.

وجعل الفصل الثالث: في الأزمة الآيلة إلى تداخل الحقول المعرفية، فأفردها في ثلاثة مباحث: بحيث جعل أولها في المباحث المقحمة في صلب بديع القرآن، كالجدل وعلم الكلام والمنطق، كـ «القول بالموجب» و«الهدم» و«الاستدراج» و«المذهب الكلامي» و«التعليل» و«الإلجاء» و«التسليم» … وثانيها؛ في المباحث غير البلاغية التي تسربت إلى بديع القرآن عبر علم التفسير، كـ«الاقتناص» و«المدرج» و«المواربة» و«التوجيه» و«الاستخدام» … والمبحث الثالث؛ خصصه للمباحث التي تسربت إلى بديع القرآن من حقل علم الشعر والنقد، كـ«الموازنة» و«الاتباع» و«والسلخ والمسخ» و«سلامة الاختراع من الاتباع» …

أما فصله الرابع، فاختار أن يقدم بديلا منهجيا لإصلاح أوضاع بديع القرآن، ممثلا في المنهجية البيانية القائمة على خصائص معتبرة، وفي مقدمتها إعمال أصول المصطلحات والمفاهيم، وإهمال الفروع الحادثة، واستحداث منهجية محورية بدل النظر التجزيئي الاستقرائي، والمنطق التفريعي لفنون البديع.

وبالرغم من تداخل هذه المباحث، فقد أمكن لفضيلة الدكتور محمد إقبال عروي حفظه الله، صياغتها ضمن تصميم روعي فيه منطق الانتقال التدرجي من العام إلى الخاص، والانطلاق من الأصل إلى الفرع، إلى أن انتظمت وفق خطتها العامة، مما يكتسي معه هذا العمل قيمة علمية كبيرة تجعله جديرا بالقراءة.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق